جاءت الاحتجاجات والفعاليات الشعبية في مختلف مناطق الضفة الغربية صارخة وحادة، ضد غلاء المعيشة وتراجع الأحوال الاقتصادية لعامة الناس، وضد زحف كابوس الفساد والبيروقراطية في مختلف المؤسسات التابعة للسلطة الفلسطينية. فانفجار الاحتجاجات لم يكن ليتأتى هكذا دون مقدمات ودون أسباب، حيث الأزمة متعددة ومُركبة، ويمكن تحديد إرهاصاتها بعدد من العوامل كان أولها الأزمات المالية العامة التي تعانيها السلطة الفلسطينية بشكل عام منذ فترات طويلة، فالأزمة المالية الطاحنة تعيشها السلطة الفلسطينية منذ أواسط العام 2010، وقد اشتدت في الأشهر الاخيرة جراء عدم ورود ما يكفي من مساعدات خارجية، وبما لا ينسجم مع الوضع المالي لحال السلطة، وقد أدى ذلك لتأخير متتال في دفع رواتب الموظفين والعسكريين العاملين في مختلف مؤسسات السلطة الفلسطينية. فالسلطة الفلسطينية تعاني من عجز مالي في موازنتها العامة وصل إلى أكثر من مليار دولار بسبب نقص المساعدات الخارجية التي تشكل ثلثي ميزانيتها الأمر الذي أثر على صرف رواتب موظفيها البالغة قيمتها نحو مائة وخمسين مليون دولار شهرياً.
"وما زاد في الطين بلة" حسب القول الشعبي الفلسطيني، إن معاناة الفلسطينيين إزادات مع انتشار حالة الفاقة والبطالة حيث تقدر مختلف المصادر المسؤولة بما فيها المصادر الحكومية أن أكثر من مائتي ألف فلسطيني بلا عمل في مناطق الضفة الغربية والقدس وحدهما دون قطاع غزة، فيما شبكة الأمان الاجتماعي التي تقدمها الحكومة محدودة رغم الإرتفاع المطرد في عدد الأسر المستفيدة منها، والذي وصل إلى نحو مائة ألف أسرة تستفيد شهرياً من هذه الشبكة.
وكان ثانيها إستشراء إنفلات السياسات الأمنية وما أدت إليه من قمع للحريات، وقد سبقها حملة (مش رايح) ضد الاستدعاءات الأمنية للناس ولكوادر مختلف الفصائل بما في ذلك استدعاء كوادر من حركة فتح، وإضراب المعتقلين في سجون الأجهزة الأمنية عن الطعام، واعتصامات الطلاب في الجامعات، والمظاهرات التي تمت ضد اللقاء الذي كان مقرراً بين الرئيس محمود عباس والجنرال شاؤول موفاز، ومن هنا لايمكن أن نربط تلك الفعاليات والاحتجاجات التي جرت وتجري الآن بلقمة العيش فقط، مع أهمية لقمة العيش بالنسبة للناس.
وكان ثالثها تفاقم الأزمات السياسية الناتجة أصلاً عن انسداد أفق العملية السياسية في المنطقة وخاصة على المسار التفاوضي الفلسطيني "الإسرائيلي"، مضافاً إليه اتفحال السياسات "الإسرائيلية" تجاه الشعب الفلسطيني واستمرار غول الاستيطان في نهب الأرض وتهويدها حتى داخل الأحياء العربية في مدينة القدس وجزئها الشرقي المحتل عام 1967. فالحالة العامة السائدة في هذا الجانب تتضمن (مفاوضات فاشلة ومتوقفة أصلاً، تنسيق أمني مُختل، تهويد مُستمر، صمت دولي وأميركي عن ممارسات الاحتلال، غياب الرافعة العربية...).
وكان رابعها أن واقع الاحتلال من جهة، وحالة والانقسام الداخلي في الساحة الفلسطينية من جهة ثانية، أثرسلباً على قدرة السلطة الفلسطينية في التعامل مع الاحتياجات والأزمات الاقتصادية الناجمة في جزء منها عن الارتفاع العالمي في أسعار السلع الأساسية المستوردة. فالانقسام الداخلي الفلسطيني فاقم من عموم المشكلات الواقع في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وقد أحدث شرخاً وتعطيلاً في البرامج التنموية المطلوبة بين الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، وساعد بعض الدول المانحة على التملص من التزاماتها التي سبق وأن كانت قد أعلنت عنها تحت دعوى وجود انقسام فلسطيني.
وكان خامسها وجود حالات من الفساد والتسيب، وهو ما يفترض متابعة ملفات الفساد الاقتصادي المحالة للقضاء وللجنة المعنية التي يرأسها رفيق النتشة، فالفَجَع المالي المتوالد عن ظاهرة الفساد موجود وموثقّ، خصوصاً في ظل المنعطفات والأوضاع الصعبة التي مرت بها الحال الفلسطينية، حيث أصبح عندها الفساد والفاسدون كالطحالب التي تنمو في المياه الآسنة، وقد أستغل أصحابها الواقع الراهن، غير آبهين بحياة ولقمة عيش المواطن العادي، عاملين على استنزافه، وتنظيف جيوبه شبه الفارغة أصلاً، وعلى حد قول الشاعر الكبير سليمان العيسى (اجهدوا النعجة المسكينة بالحلب... فخارت من وطأة الاجهاد). وفي هذا المجال نشير إلى أن هيئة مكافحة الفساد والتي شُكلت بمرسوم رئاسي أصدره الرئيس محمود عباس تَلقت ومنذ تأسيسها (142) ملفاً تتضمن قضايا فساد، ردت منها الهيئة (61) ملفاً وتتابع (81) ملفاً، وقد بدأت الهيئة بالطلب من كافة مسؤولي السلطة الفلسطينية إقرارا بذممهم المالية وفقا لقانون مكافحة الفساد، كما في تقديم "إقرار ذمة عند نهاية الخدمة عن ممتلكاته وممتلكات زوجته وأبنائه القصر في المواعيد المقررة قانونا".
ويبقى القول إن الأساس في كل ما يجري في الأراضي الفلسطيني المحتلة عام 1967 يعود للاحتلال وسياساته، فهو الطرف الأكثر تأثيراً على الحالة الفلسطينية وعلى الاقتصاد الفلسطيني بوجه الخصوص، ومن هنا فإنهاء الاحتلال يبقى المهمة المركزية والأساسية التي لا تعلو فوقها مهمة. فالاحتلال هو الذي يَحِدٌ في نهاية المطاف من النمو الاقتصادي في فلسطين بفعل نظام التَحكم والسيطرة التعسفي سواء على المعابر وغيرها من الاجراءات كالاستحواذ على أموال الضرائب المجباة لقاء البضائع المتدفقة للضفة الغربية وقطاع غزة، بالإضافة إلى الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. حيث تمثل جباية "إسرائيل" للضرائب التي تجمعها نيابة عن السلطة الفلسطينية ثلثي ميزانية السلطة الفلسطينية، وتفوق مبلغ مليار دولار أمريكي سنويا وذلك بموجب اتفاقي باريس الاقتصادي، لكنها تبقى تحت رحمة اليد "الإسرائيلية" التي تصرفها وتسلمها للسلطة الفلسطينية أو تدعها محجوزة بين يديها تبعاً للحالة السياسية.
نقلاً عن: صحيفة الوطن العمانية
تاريخ الخميس 20/9/2012
واقرأ أيضاً:
دروس وعبر مأساة اليرموك/ مخيم اليرموك ودلالاته الرمزية/ طفل يُقتل ويُذبح..... كيف ولماذا؟!!!!!!!!؟/ إنهاك سوريا ثم إنهاؤها! /ساخن من لبنان:برج البراجنة/ إسرائيل وحرب «السايبر»