الثورة تغيير والتغيير قد يتحول إلى تدمير، فتصبح الثورة أداة تدمير شامل وتعجز بذلك أن تكون أداة بناء شامل. وقد شهدت المنطقة العربية عددا من التغييرات التي سميت بالثورات في النصف الثاني من القرن العشرين، ومعظم تلك الثورات تحولت إلى وسائل وأنظمة حكم مدمرة للوطن والشعب الذي أفقرته وامتهنته وحولته إلى وجود يائس.
وعلى أنقاض تلك الثورات قامت ثورات العرب الجديدة في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ويُخشى عليها أن تتماهى مع ثورات القرن الماضي. فالثورة من السهل أن تنزلق إلى سلوك التدمير، أو يمكن حشرها ودفعها إلى هذا السلوك بتوفير الظروف التطورات والأحداث التي تجعلها في حالة دفاعية عن النفس والتشبث بالبقاء بعيدا عن أي إنجاز وطني ثوري لصالح الجماهير.
وقد أخذنا نرى صناعة الحالات اللازمة لمحاصرة هذه الثورات وتطوير الأحداث لكي يتم أسرها في معتقلات الدفاعية والتبريرية والإنشغال بموضوعات تبعدها عن روح الثورة والبناء وتطوير الواقع الإقتصادي والزراعي والصناعي والتعليمي في البلاد.
إن التغيير الثوري حالة تفاعل داخلي ولا يمكنها أن تكون بتفاعلات خارجية، لأن كل ما يقع خارج منظومة الحالة الثورية الوطنية، إنما يبحث عن المصالح والتطلعات الأخرى البعيدة عن مصالح الشعب الثائر، أو ربما تكون لتسخير إرادته الثورية لأغراض ومطامع خارجية.
ومن المعروف أن الطاقة الجماهيرية الثورية يجب توظيفها في مهمات البناء والتقدم العلمي والثقافي والصناعي لكي تنمو الثورة وتنطلق في رحاب عصرها كما فعلت الثورة الصينية التي من أهم أسباب قوتها أنها أعلت صرحها الوطني أولا، وكذلك فعلت غيرها من الثورات العاقلة الحكيمة.
وما يبدو في ثوراتنا أن هناك توجهات لتصريف الطاقات الثورية وتبديدها في نشاطات غير مجدية وخالية من الإنتاجية الوطنية الحضارية النافعة، وعلى رأس هذه الأساليب هو إلهاء الجماهير الثائرة بنشاطات إستهلاكية وتفريغية وإنهاكية، ذات قدرة على التطور والتحول إلى قيد وعائق أمام تطلعات وأهداف الجماهير الثائرة، وهذا ما تحقق في الثورات السابقة، حيث تم تفريغها من محتواها، وتحولت شعاراتها إلى مستحيلات وأهدافها قضت على معانيها وطاقات صيرورتها، فعاشت ضد ما جاءت من أجله، بل وناقضت نفسها وسقطت ضحية سهلة لأساليب تفريغها والقضاء عليها، وكانت صناعة المواقف وتغذية الأحداث وتنميتها من أهم الإجراءات التي كبلتها وحرمتها من التعبير عن إرادتها والوصول إلى أهدافها التي رفعتها.
ولكي تتمكن الثورات المعاصرة من النجاح لابد لها أن تفهم الدروس وتوظف الطاقات الجماهيرية الثورية في خدمة البناء على جميع مستوياته، وأن يتم إستثمار طاقات الشعب بإيجابية وتفاعل حضاري معاصر. وأي خلل في هذه الآلية الثورية التي عنوانها التوطيف الإيجابي للطاقات الجماهيرية، سيؤدي إلى سقوط الثورات في وحل الدفاعية والمراوحة والانكماش والعزلة والعدوانية والصراعات الداخلية الباهظة التكاليف.
فهل ستعي ثوراتنا المعاصرة الدروس وتستلهم العبر وتكون ثورات ذات شفافية وتصور حضاري منير وواعي لأهمية التفاعل الوطني الجماعي الخلاق.
واقرأ أيضاً:
الثورات العربية بين التعدد والوفاق / نظـرة في الطغيـان / الإنهاك النفسي وحالة الخرف الحضاري