أنعشت الأحداث الجارية في سوريا ذاكرة اللاجئين الفلسطينيين، وأحّيت في نفوسهم حالة اللجوء والشتات، وقد استرجعوا في مخيلتهم الحية والمتقدة صورة وسيرة ووقائع النكبة، وهم الذين وصلوا إلى سوريا عام النكبة ولم تكن أعدادهم لتتجاوز نحو تسعين ألف لاجئ فلسطيني، أصبحوا الآن نحو نصف مليون لاجئ ممن يُعرفون بصفة (فلسطينيي سوريا)، مضافاً إليهم نحو مائة وخمسين ألف فلسطيني ممن لا يُعرفون تحت الصفة السابقة.
فالأحداث المؤلمة في سوريا، والنزوح المؤقت للأعداد الكبيرة من المواطنين السوريين من المناطق المحيطة بمخيم اليرموك جنوب مدينة دمشق إلى داخل المخيم وإقامتهم في المدارس والمساجد والمنشآت العامة (وبمقاربة مختلفة تماماً) ذَكّرت الفلسطينيين مرة ثانية بحكايتهم الأصلية، حكاية اللجوء والنكبة والتشرد، الحكاية الطويلة المختزنة في الذاكرة الفلسطينية الحية، لدى الكبار والصغار على حد سواء، حتى في ذاكرة الأطفال منذ الأسنان اللبنية.
احتكار كلمة المخيم
لقد نمت وترعرعت أجيالٌ حزينة في عموم التجمعات الفلسطينية (مخيمات ومناطق) تفتّح وعيها على أفق ممدود ومثقل بمرارة الماضي وبالأحزان والهموم، تُحيط به الخرائب والمآسي وتُحاصره الأسئلة الصعبة، وقد هَرِمت تلك الأجيال التي وصلت قبل أربعة وستين عاماً من فلسطين إلى سوريا وهي تحمل حصيلة مأساوية لعمر حزين كاد ينقضي دون أن تحقق حلمها الموعود بالعودة إلى فلسطين إلى يافا وحيفا وعكا وصفد واللد والرملة، لكنها بالمقابل أضافت زرعاً جديداً من دفق الأجيال الجديدة التي أنجبتها، وهي تحمل الراية وتسير بها بإرادة أقوى وأوسع وأشد تصميماً على العودة إلى فلسطين مما حمله الجيل الأول والثاني من نكبة فلسطين.
لقد التصقت كلمة (مخيم) في القاموس العربي الحديث والمعاصر باللاجئ الفلسطيني، ولم تلتصق تلك الكلمة بالمخيم الكشفي أو بالمخيم السياحي كما هو مُتعارف عليه عموماً. وقبل أيام خلت جلس شاب فلسطيني في مخيم اليرموك لمدة نصف ساعة وهو يقوم بإقناع والدته بأن (مخيم الزعتري) بالأردن «مش للفلسطينية» بل للإخوة السوريين، وبعد جهد جهيد اقتنعت بما قاله لها ولدها، لكنها استدركت تسأله «ليش يما المخيمات مش بس للفلسطينية..؟؟؟».
فحكاية النكبة واللجوء ترافقها على الدوام حكاية المخيم، أو التجمع الفلسطيني، لتصبح حكاية المخيم وكلمة المخيم «احتكاراً فلسطينياً بحتاً» وجزءاً أصيلاً من التاريخ السردي الشفهي والعملي الحي الملاصق والمرافق لدراما نكبة فلسطين، منذ أن أُشتقت تلك الكلمة وباتت تميّز الحالة الفلسطينية في الشتات وحتى في الداخل المحتل عام 1967 حيث تتواجد نسبة عالية من اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات قطاع غزة والقدس والضفة الغربية.
وعليه، التصقت كلمة (المخيم) بقاموسنا العربي الحديث والمعاصر بنكبة فلسطين وضياع الوطن الفلسطيني، وتشرد أكثر من (65 %) من شعب فلسطين في دياسبورا المنافي والشتات. لتصبح كلمة (مخيم) كلمة فلسطينية بامتياز وذات دلالات قاطعة، فالمخيم هو الحاضنة، وهو العنوان الكفاحي والرمزية للشعب الفلسطيني، حتى لو كان من طراز مدينة عامرة كمخيم اليرموك، الذي بات في حقيقته مدينة كبيرة تتبع مدينة دمشق مباشرة كحي من أحيائها، تتوافر داخله كل مقومات الحياة المتوافرة في المدن، حتى في إطار الخدمات والبنية التحتية، والأهم من كل ذلك أن مخيم اليرموك كان ومازال مخيماً معطاء على صعيد الحركة الوطنية الفلسطينية منذ بواكير تَشكُلها بعيد النكبة، ومنذ مشوارها الكفاحي فجر العام 1965 وحتى اللحظة الراهنة، ليصبح عاصمة الفلسطينيين في الشتات، يَبتَسمُ لجميع من يلج داخله عندما تَعبس المدن الكبرى.
وفوق كل ذلك، امتزجت سيرة المخيم الفلسطيني في سوريا خلال الشهرين الماضيين بحكاية المدفع القذاف أو مدفع الهاون المسمى بمدفع مورتر (CANNON ROUNDS) اللعين ذي البطانة الملساء الذي يستخدم للرماية على الأهداف الواقعة خلف السواتر الذي سقطت المئات من قذائفه على مخيم اليرموك وأطرافه وقد تسببت باستشهاد العشرات من أبناء المخيم في الأعمال العنفية المرافقة للأزمة الداخلية في سوريا، والتي يأمل اللاجئون الفلسطينيون في سوريا أن تنتهي فصولها سريعاً، وأن يتوقف نزيف الدم الغالي.
فرادة المخيم واليرموك الاستثنائي
إلى ذلك، ارتسمت علامات المخيم الفلسطيني وفرادته منذ بواكير النكبة الأولى، فبنى اللاجئون الفلسطينيون الذين «يتمتهم النكبة» فلسفتهم الخاصة في حدود المخيم الفسيحة في عمقها، ومن رقعته الجغرافيا الضيقة إلى الحدود اللامتناهية من التفاؤل والحلم المشروع، فباتت ذاكرة أجيالهم المتعاقبة ومنذ «الأسنان اللبنية» أشد التصاقاً في الوعي الخلفي ومخزون الوعي الحاضر، حيث سيرة المخيم وأهل مخيم اليرموك من أبناء لواء الجليل من صفد والناصرة وعكا ولواء حيفا ولواء اللد وغزة، والتموج القزحي الذي يلون ساحات المخيم وشوارعه ومدارسه... وحتى دكاكينه، حاملاً أسماء فلسطين وراياتها من رأس الناقورة حتى رفح، ولا يغيب عن البال الجمجوم وعطا والزير والقسام، وصولاً إلى عرفات ووديع حداد وكنفاني والوزير وطلعت يعقوب والشقاقي وياسين وجهاد جبريل... في الذاكرة اللبنية، المحمولة داخل وعي أبناء مخيم اليرموك، وعلى أجساد غضة طرية بريئة، اندمجت وانحفظت مشاهدها في الصور القديمة للتجمع الفلسطيني الذي أسماه مفتي فلسطين المرحوم الحاج محمد أمين الحسيني (مخيم اليرموك) عندما نشأ عام 1954، حيث الكم البشري من هذا الجيل الفلسطيني، ومؤسسات الرعاية الإنسانية تساعد على حمل تنوء به الجبال، من وكالة الأونروا إلى الاتحاد اللوثري العالمي إلى مؤسسة اللاجئين وأراضي الدولة التي وزعتها على العائلات التي أصبحت ترميزاً تحمل بطاقة الإعاشة الموزعة من قبل وكالة الأونروا، أو «الكرت الأزرق»، وبطاقة مؤسسة اللاجئين أو «الكرت الأحمر». وعندها لم يكن أمام الرجل الدمشقي، وأول مدير عام للهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين العرب في سوريا سوى أن يقول لسكان المخيم عقب توزيع أراضي السكن عليهم عام 1954: «ليس أمامكم سوى أن تُعلموا أبناءكم وتأخذوا أموركم بيدكم، وفي النهاية لن يكون الحق إلا لكم».
لاجئ .. لكن مُعلم ومُلهم
إن فرادة المخيم، ومنها فرادة مخيم اليرموك، أنها أنتجت ومن بين عثرات اللجوء وحياة الشقاء خصوصاً في سنوات النكبة الأولى أجيالاً استثنائية، وقد حَفرت تلك الأجيال طريقها بأظافرها على الصخر الصلد والقاسي، وصنعت مستقبلاً جيداً ومرموقاً بالرغم من كل شيء، في مخيم لم تَعد الأمية موجودة داخله، فيما يتزاحم بين جنباته حاملو الشهادات العليا من كافة الاختصاصات، ليصبح مخيم اليرموك ومجموع الشتات الفلسطيني منذ لحظات اللجوء تجمعاً مُعلماً ومُدرساً ورسولاً، فقد عَلمَ اللاجئ الفلسطيني المكلوم والمجروح حتى الثمالة جموعا كبيرة من أناس عالمنا العربي وحتى خارج إطار عالمنا العربي، وبقلب مفتوح وأفق عروبي وإنساني.
عَلمَهم كتابة الحرف مع تفكيك وتركيب الجملة، وكتابة وصياغة وماهية المعادلة، وجبر الرمز، والبنى الجبرية، واللوغاريتم، و الـ«SIN» والـ«COS» ومعنى ومبتغى الرقم و«الإكس والواي والزد والبعد الرابع»… ليصبح هذا اللاجئ الفلسطيني وبعد طول انكسار وشقاء وبؤس، في مصاف رواد الإنتلجنسيا العربية حاملاً رسالة العروبة في العلوم والثقافة والآداب الإنسانية، من كليفلاند وشيكاغو الأميركية، أو وكالة ناسا، إلى إكسفورد وكامبريدج، وصولاً إلى ما بين المحيط والخليج، وقد أنجب عمالقة في علوم الطبيعة والعلوم التطبيقية، وفي الآداب الانسانية، وعمالقة في الشعر العربي المعاصر، ومن قلب المعاناة من أرض تحت الاحتلال ومن بقايا شعب بقي لاجئاً فوق أرضه عام 1948 .
وفي هذا المعمعان من الوعاء التفاعلي المتواصل تحت حرارة بارومتر الحدث اليومي، قَهر جيل اللجوء والمنافي من أبناء فلسطين «العطالة الذاتية» التي تسببها كمومية وكتلة الأشياء، واكتسب «توازناً قلقاً، لكنه مرموق» متغلباً على محصلة «القوى الصاعدة والهابطة، والآتية من كل الاتجاهات»، فكبر الواحد، مهنياً، متعلماً، أكاديمياُ، كاتباً ومثقفاً، عاشقاً، حالماً... دون أن يتخلى عن خصوصية اللقب: لاجئ فلسطيني في سوريا، في لبنان، في الأردن... على طريق العودة إلى فلسطين.
تلك الكلمات المدونة أعلاه، ليست كلمات أو عبارات شاعرية بحتة، والتي قد يراها البعض لغة خشبية مصفوفة، أو لغة حالمة، ولكن متى كان الحُلم المسلح بالحق مستحيلاً، في معادلة قوة الحق في مواجهة حق القوة.
إن بأس هذا الكفاح وهذه المسيرة، لأبناء المخيمات ومخيم اليرموك في القلب منها، أنها لم تكن مسيرة كفاح مسلحة بالبندقية فقط، فلو كانت بندقية فقط لكانت بندقية لصوص وقاطعة طريق، ولكنها كانت ومازالت نُظُم شاعرٍ، وريشة فنان، وقلمُ كاتب، ومِبضع جراح، وإِبرة لفتاة وزوجة تخيط لزوجها وأولادها ثياباً من قماشة خام كيس طحين الأونروا في وقت كان أسود على الفلسطينيين، غابراً حائراً مأساوياً في دنيا اللجوء وحتى داخل فلسطين.
أخيراً، أن سيرة المخيم الفلسطيني في سوريا، وحالة التلاصق والتآخي السوري الفلسطيني، تغمرنا نحن فلسطينيي سوريا أو سوريي فلسطين بمحبة سوريا والشعب السوري لنقف حائرين بين الصمت والكلام، لكننا سنختار الكلام عندما يكون الكلام من فضة، ولكننا نفضل الصمت أمام شعب أصله من ذهب. تلك هي كلمات، وكلمات موجزة عن سيرة المخيم الفلسطيني في سوريا وعموم دياسبورا المنافي الفلسطينية.
نقلاً عن صحيفة الوطن القطرية
واقرأ أيضاً:
ساخن من لبنان أخيرا دمشق... أخيرا / ساخن من لبنان الأربعاء 24-8-2006 / دروس وعبر مأساة اليرموك