المارد الذي بعيدا عن النزال
كتبت منذ سنوات ستة وأثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان والقصف المستمر لغزة وكأنما أرثو المارد العربي وأنبه الوعي العربي إلى أن غيابَ القائد وغياب التماسك واندثار أساطير مثل وحدة الصف وما إلى ذلك لا يجب أن يعني النهاية، وإنما يجب علينا جميعا أن نجاهد وأن نواصل الجهاد كل بما يحسن..... وفي تلك المدونة القديمة رحت أتذكر كلمات أغنية فريد الأطرش التي غناها أيام الزعيم جمال عبد الناصر وكانت تقول:
المارد العربي في العالم العربي
وطنه في كل مكان في دجلة في عمان
في مصر في السودان والمغرب العربي
المارد العربي...... في العالم العربي
في وقت كتابة تلك المدونة لم تكن علاقتي بتلك الأغنية أكثر من أني سمعتها وقمت بتسجيلها في سنة 1988م أو 1989م من إذاعة كانت في ذلك الوقت تصدر من الجمهورية العراقية واسمها صوت مصر العروبة وكانت العراق واحدة من دعائم جبهة الصمود والتصدي وهي جبهة تشكلت من أغلب الدول العربية التي قاطعت مصر اعتراضا على اتفاقية كامب دافيد للسلام بين الرئيس محمد أنور السادات وإسرائيل،.... في ذلك الوقت كنت طالبا في السنة الثانية من المرحلة الثانوية أعيش مع أهلي في المملكة العربية السعودية وكنت معارضا للسادات وللصلح مع اليهود.... كان التسجيل الصوتي لهذه الأغنية على شريط لدي تسجيلا نادرا حقا في ذلك الوقت، إذ لم يكن بالطبع أي مجال للحصول -من طريق قانوني مشروع- على تسجيلات لأغنيات من عهد عبد الناصر في أيام عز ومجد السادات... بل لا داعي اليوم لإخفاء ما كان مشتهرا بين الناس وقتها من أن حيازة أغنية ناصرية في شريط مسجل يعتبر جنحة تعاقب بالسجن ستة أشهر! نعم هكذا كانت مصر قبل ثورة 25 يناير، خوف يملأ نفوس الناس والحصيف من يخاف ويتقي الشر.
لم تكن الأغنيات الناصرية متاحة لأحد في مصر ولا أنسى كم كنت أحلم بأنني يوما سأزور سوريا أو العراق أو ليبيا للحصول على تسجيلات أغاني عبد الحليم حافظ الوطنية.... وظل الحلم حلما لسنوات وحين تحققت زيارتي لسوريا كنا في سنة 2006 أي في منتصف الثلث الأخير من ثلاثينية حسني مبارك الحزينة، ولم أتمكن من حتى السؤال عن تلك التسجيلات إن كانت متاحة للشراء، وحقيقة كيف أتمكن وأنا أعبر من دمشق فجر يوم وصولي إلى بيروت وأعود إلى القاهرة ساعتين بعد دخولي دمشق، لم أتمكن من فعل شيء في دمشق إلا زيارة سوق الحاميدية وأكل البوظة والشاورما على السريع!
ظل التسجيل الصوتي لأغنية المارد العربي حيازة نادرة ذات معنى على الأقل بالنسبة لي وفي ذلك الوقت كتبت المدونة الأولى... طبعا في سنة 2006 لم يكن هناك فيديو للأغنية على النت... لم يكن هناك موقع يوتيوب أصلا وكانت مصر في أحط سنوات عمرها يحكمها نظام محمد حسني مبارك أي لم يكن الوصول إلى فيديو لهذه الأغنية سهلا بل أظنه كان مستحيلا ليس فقط لأنها تمجد عبد الناصر وإنما لأن مفاهيم مثل الوطن العربي والعالم العربي لم يكن يراد لها أي وجود على الساحة... وقصة عمالة وقذارة النظام المصري في ذلك الوقت والحمد لله مشتهرة.
بعد ذلك شاهدت المقطع الثاني والذي بدا دبلجة بين التسجيل الصوتي للأغنية وبين صور أو مشاهد حديثة ملونة، وقد كتبت معلومات لم أعرفها من قبل هي أن مؤلف الأغنية هو "محمود فهمي إبراهيم" وهي من تلحين فريد الأطرش وإضافة أخرى هي: "رؤية دكتور راضى حامد".... وعندما بدأ الفيديو وظهرت اليد المشتعلة المرتفعة بعلامة النصر توقعت أن يكون عن الثورات العربية.... وفعلا كان كذلك وتابعت الصورَ بداية من تونس حيث استيقظ المارد مرورا بمصر وبفرحة كل العرب بالثورة المصرية ثم اليمن ثم ليبيا ثم البحرين ثم المغرب ثم سوريا النازفة الجراح.... المارد هنا هو الشعب العربي أو الشعوب العربية ولعمري إن هذا لأصدق وأقرب إلى الحقيقة فهذا المارد قد يكون أقوى وأمضى بالفعل، لكن الجرح السوري في جسم المارد يبدو أفدح وأكثر نزفا من الجرح الفلسطيني فإلى أين يسير بنا المارد هذه المرة؟
بعد ذلك كان المقطع الثالث جزءًا من برنامج أحمد منصور "بلا حدود" الذي استعاد فيه مع فرقة التخت العربي أداء مجموعة من أكثر أغاني الحقبة الناصرية تميزا ورسوخا في وجدان الناس... وهي الحلقة التي شاهدتها أثناء إذاعتها للمرة الأولى فأبكتني وأسعدتني مثلما أبكتني الثورات العربية قدر ما أسعدتني.... إلا أن الهاجس الذي راودني منذ الشهور الأولى للثورة المصرية ومع ارتفاع وتيرة الشكوك في أن تلك الثورات جزء من مؤامرة تحاك للمنطقة العربية وكتبت عنه متسائلا: هل الثورات العربية خطة أمريكية؟ ذلك الهاجس ما يزال يشتد ويقوى يوما بعد يوم كلما طال النزيف من جرحنا السوري...
أقول لنفسي مطمئنا لقد فشلت حركات التحرر القديمة في المنطقة لأننا لم نكن نضجنا بعد فكنا بسهولة نجعل من الزعيم إلها سواء أراد هو ذلك أو لم يرد، ولم نكن تخلصنا من قابليتنا للاستعمار فالعقل العربيَّ كان متوقفا عن الإبداع منذ قرونٍ طويلةٍ ولم يكن أفاق بعدُ من صدمة انبهاره بالحضارة الغربية ومنجزاتها مما جعلهُ مع الأسف عقلاً قابلاً للاستعمار! كما ذهبَ مالكُ ابنُ نبي(1) منذُ أكثرَ من ستين عاما، إلا أن نفسي ترد علي متسائلة فهل ترى الوضع الآن تغير؟ والحقيقة أنه تغير غالبا فيما يتعلق بالنزوع إلى الغلو في تعظيم الزعيم، وأحسب لسيولة المعلومات والصور عبر الإنترنت وغيرها دورا هاما في ذلك، لكنني فيما يتعلق بالقابلية للاستعمار لا أرى وضعَ شعوبنا العربية تغيرَ إلا قليلاً مع الأسف....
إذن ما يزال السؤال قائما ما وجهة المارد العربي اليوم وما مآله؟ وهل ما تزال القومية العربية تنعم بالزخم اللازم لتعبئة الجماهير؟ هل ما يزال لها زخم؟ ثم يفجؤني السؤال الأصعب يا ترى ما هو العربي في الثورات العربية؟ لقد احتجنا وما نزال إلى كتابة بعض الشعارات الثورية بالإنجليزية أو الفرنسية -تواصلا مع المستعمر القديم- لنطلب العون ممن لا يفهمون العربية فهل لولا الدعم غير العربي للثورات العربية كانت ستنجح الثورات؟.... أحسب تأمل النزيف السوري ردا أبلغ من كل رد!
أستطيع اليوم أن أقول لقد قامت الثورات العربية في الدول العربية التي يسمح فيها دوليا بقيام ثورات، فمرت بلا شر في تونس ثم أفلتت -حتى الان- في مصر ثم كان التدخل مباشرا في ليبيا، وعندما قامت الثورات في غير تلك الدول أجهضت مثلما المثال جلي في البحرين، وحرِّضَت ولادتها مبتسرة في اليمن السعيد ربما لتوسط أهل الخليج، وكما يقول بعض الفلول فقد دمر الجيش العراقي.... وأفلت الجيش المصري لأسباب يعلمها الله ثم دمر الجيش السوري وطنه ونفسه فمن بقي غير جيش إسرائيل؟.... في الكلام وجاهة لا أستطيع إنكارها خاصة ونحن نعايش النزيف السوري كل يوم وكل ليلة فهل يا ترى ما يزال المارد العربي بعيدا عن النزال أم أن له الآن دورا فيما يجري؟
لكنني كلما سمعت أخبار أهلنا في سوريا أتساءل هل هذا المارد إن كان موجودا يعقل أم لا؟ هل هو المارد الذي ينتبه إلى أهمية تضميد الجرح أثناء القتال؟ أم هو المارد الذي لا يعقل ولا يهتم بالنزيف؟ أحسب الجرح السوري صار غائرا أكثر من الجرح الفلسطيني -جرح المارد العربي التاريخي- وربما أكثر نزيفا بكثير!
المراجع:
(1) مالكُ بنُ نبي (1981): وجهةُ العالم الإسلامي ، سلسلة مشكلات الحضارة ، إصدارات ندوة مالك بن نبي ، ترجمة أ.د. عبد الصبور شاهين ، دار الفكر ، سوريا ، دمشق.
واقرأ أيضاً:
مدونات مجانين فوائد انقطاع الكهرباء/ لا شمع ولا مياه .... ولا كهرباء ولا بنزين/ نصيحتي للإخوان/ مراحيض الفضاء الإلكتروني/ السيد الرئيس... لا تمش في الأرض مرحا