الظواهر الحسية في مرضى الوسواس القهري1
المناقشة Discussion :
في جانب مهم بل محوري من أعراضهم يشتكي كلٌ من مرضى اضطراب الوسواس القهري المعروضة حالاتهم في الجزء الأول من المقال -إضافة إلى كثيرين من أصحاب الوساوس الدينية- من أحاسيس جسدية حشوية Visceral أو لمسية Tactile أو شمية Olfactory أو سمعية Auditory تتماشى دائما مع فعل قهري يليها أو فكرة تسلطية تغذيها تلك الأحاسيس، ويظهر دور تلك الأحاسيس في دفع الشخص إلى الاستسلام لأفعاله القهرية واضحا كما تظهِر هذه الخبرات الحسية إلحاحا في حال مقاومتها أو محاولة نفي واقعيتها بشكل يجعلها تماثل الحدث العقلي التسلطي أو الوسواسي والمقصور رسميا وتقليديا على الفكرة Thought أو الصورة image أو النزعة Urge .... كان هذا سببا دفعني للبحث أكثر في ظواهر اضطراب الوسواس القهري.
تصفح الأدبيات المنشورة Turning to the Literature :
بين تصفح الأدبيات المنشورة عن الاضطرابات الحسية في مرضى الوسواس القهري وصفا لمشاعر أو خبرات حسية شخصية تسبق أو تصاحب الفعل القهري، وبهذا الفهم يعترف كثيرون بأن هذا النوع من اضطرابات الإدراك يحدث في مرضى الوسواس القهري (Fontenelle et al., 2008)، ويظهر لنا من التصفح كذلك مفهوم الظواهر الحسية Sensory Phenomena والتي وصفت أول ما وصفت في مرضى اضطرابات العرات Tic Disorders وسميت أسماء عديدة طبقا لباحثين مختلفين لكن أشهرها كان الظواهر الحسية (Miguel et al., 2000) أو الظواهر الحِسِّيـَّةٌ الجسديةٌ Somatosensory Phenomena أو العرات الحسية Sensory tics ؛
وتعرف الظواهر الحسية بأنها أحاسيس أو مشاعر غير مريحة أو إدراكات جسدية أو عقلية، وبؤرية Focal أو عامة ويمكنها أن تسبق القهورات في غياب الوساوس (Shavitt et al, 2006) بينما تعرف العرات الحسية تعريفا أكثر تحديدا بأنها: خبرة حسية عابرة ومتكررة وتُحس في الجلد أو قريبا منه ويستطيع المريض تحديدها بسهولة، وقد تحدث مصاحبة لعرة صوتية أو حركية أو بدون أي عرة، وهي تحدث في غياب أي سبب جسدي يفسر حدوثها (Chee & Sachdev, 1997) .
وتوجد كل هذه الظواهر الحسية في مرضى الوسواس القهري المواكب لاضطراب توريت Tourette's disorder أو اضطراب العرات أكثر مما توجد في مرضى الوسواس القهري فقط دون عرات (Miguel et al., 2000) وتشمل الظواهر الحسية الأحاسيس الجسدية والأحاسيس العقلية:
1- الأحاسيس الجسدية ومنها الأحاسيس البؤرية (الدغدغة Tickling أو الدفء أو البرودة أو الضغط في المنطقة المصابة) أو الأحاسيس الجسدية العامة (لمسية جلدية أو عضلية هيكلية Muscular-Skeletal أو عضلية حشوية Muscular-Visceral أو كليهما).
2- الأحاسيس العقلية وتشمل الشعور بالنزعة أو الحث Urge لفعل ما، الشعور بإفراغ الطاقة Energy Release (طاقة عقلية تتجمع ووتراكم وتحتاج للإفراغ) وكذلك الشعور بعدم الاكتمال Incompleteness ، وعدم الوصول إلى شعور مضبوط بالضبط Just-Right !
ويكرر هؤلاء المرضى أن تلك الخبرات الحسية تسبق الأفعال القهرية دون أي فكرة أو خوف أو حتى توجس، وأنهم يشعرون بحتمية تكرار الفعل القهري لحين الوصول إلى الشعور بالارتياح منها.... فإذا أردنا هنا أن نسترجع الخبرات الحسية التي اشتكى منها أصحاب الحالات السابق عرضها نجد أول ما نجد في حالة "م" إحساسا في فتحة الشرج وما حولها بالاستثارة الجنسية يضايق صاحبه في كل موقف يجعل ترجمة الإحساس هي أن الشخص مثلي التوجه الجنسي أو الشاذ -ناهيك عن أن التشخيص التقليدي حسب التعريف الحالي للوسواس القهري، والتصنيف الأمريكي الرابع سيكون شذوذ جنسمثلي غير متماشٍ مع الأنا Ego-Dystonic Homosexuality وبكل ما يمثله ذلك من كارثة للموسوس المسكين- ناهيك عن ذلك، فإن هذا الإحساس المتكرر والذي يؤدي بالموسوس إلى تحاشي أي موقف يمكن أن يستثيره، يمكن بسهولة أن يكون إحساسا خادعا -وكان كذلك- بل ومقتحما لوعي الشخص بحيث يضطره في أكثر الأحيان إلى أفعال قهرية من أجل إنكار الفكرة وغيرها، هل يختلف هذا الشعور الخلفي بالإثارة عن الحدث العقلي الوسواسي أو الاقتحام الوسوسي؟ أو الإدراكي الكاذب؟ لمثير غير موجود!
فإذا أردنا مراجعة الخبرات التي اشتكي لنا منها مرضانا فتأملنا حالة "أ" نجد المقتحم الإدراكي أو الوسواسي هو الإحساس في فتحة الشرج أو القضيب بشيء يخرج (إما ريح البطن، قطرات من البول أو المذي) ورغم علم صاحبه أنه إحساس -في الغالب- خادع إلا أنه بالنسبة له أكثر من إحساس حقيقي!، أليس هذا مثالا على الأحاسيس الجسدية البؤرية مثل الدغدغة أو الدفء أو البرودة أو الضغط في المنطقة المصابة؟ وأليست خبرات حسية كاذبة دون مثير واقعي -بالنسبة لنا طبعا- أي أنها هلاوس وفي نفس الوقت وساوس لأنها تعني فكرة أن إعادة التطهر بالاستنجاء أو تكرار الوضوء أو حتى الخروج من الصلاة هي أفعال لابد منها ليستريح الموسوس أي أنها وساوس أو تعزز الوساوس، وتظهر علاقة العرات العابرة بالوسواس القهري وكون الظواهر الحسية أكثر في هؤلاء وهو ما تؤيده الدراسات (Miguel et al., 2000) كذلك تظهر الهلاوس الشمية التي يصدقها صاحبها ويتصرف على أساس وجودها وفي نفس الوقت يعرف أن أحدا غيره لا يشمها كما في أفراد أسرته.... ألا ينطبق عليها تعريف الهلاوس الكاذبة Pseudo-Hallucinations ؟ والذي سنعرضه بعد قليل.
وتظهر في حالة الشاب "ب" تلك المواكبة المرضية المزمنة بين اضطراب العرات والوسواس القهري والاشمئزاز الوسواسي المرضي بما يستدعيه ذلك من قهورات التحقق والتحاشي والتكرار والتناظر...إلخ، ثم تأني الهلاوس الشمية Olfactory Hallucination مستفزة بواجبات التعرض ومنع الاستجابة القهرية..... وكانت الرائحة تزيد كلما اقترب من المطبخ وتقل كلما ابتعد عنه، مثلما كانت معرفته بأنه سيجد الصمام مغلقا قادرة على تشكيكه في واقعية الرائحة التي يشمها لكن بدرجة لا تمنعه من الاستسلام لإلحاحها والعودة للمطبخ للتحقق، هي أيضًا هلاوس شمية كاذبة تقوم مقام الوسواس.
وأما حالة الآنسة "هـ" فماذا يكون الشعور الغريب المتكرر والملح أحيانا بعدم الراحة حول المفصل Strange Uncomfortable Peri-Joint Feeling مع رغبة في فرقعة المفصل ليسكن ذلك الشعور، أليس نوعا من الأحاسيس الجسدية البؤرية التي تسبق الفعل القهري وتحث عليه، وهو مشابه جدا للعديد من أشكال الظواهر الحسية أو العرات الحسية في مرضى اضطراب توريت أو اضطراب العرات المزمن، رغم التواكب مع طائفة أخرى من اضطرابات النطاق تتعلق بالجلد وملحقاته، ألا يمثل ذلك الشعور وسوسة حسية في شكل هلوسة لمسية Tactile Hallucination ؟
ورغم الوجود الواضح لأكثر من اضطراب من اضطرابات نطاق الوسواس القهري إلا أنه لا يوجد أي تاريخ لأيٍّ من أشكال العرات الحركية أو الصوتية، وإن كان الشعور الغريب بعدم الراحة حول المفصل ليس مختلفا عن الظواهر الحسية التي يشتكي منها أغلب مرضى العرات، ولولا أن فرقعة المفاصل Joint Clicking كانت بطيئة وإرادية -رغم كونها قهرية- بما يختلف عن العرات الحركية -التي توصف بأنها سريعة تهورية ولا إراداية- لولا ذلك كنا اعتبرنا فرقعة المفاصل عرات حركية مركبة Complex Motor Tics ، ولعلنا نتخيل مجالا متصلا بين العرات الحركية المركبة والأفعال القهرية بحيث تكون الأفعال التكرارية في أي حالة في مكان ما بين إرادي تماما في ناحية من المتصل ولا إرادي تماما في الناحية الأخرى وهكذا بين سريع وتهوري مقابل بطيئ وتحكمي.....إلخ، ولعل مما يرجح احتمالا كهذا أن الاستجابة العلاجية بينت تحسنا في فرقعة المفاصل القهرية فقط بعد إضافة مضاد الذهان بيموزيد Pimozide وهو ما يذكر بالاستجابة العقارية للعرات، لكن المتعلق بموضوعنا الآن هو أن نتأمل هذا العرض الحسي المتمثل في الشعور الغريب بعدم الراحة حول المفصل والذي لا يخفت إلا بفرقعته والتي كانت فعلا قهريا لا شك فيه، ألا يمثل ذلك الشعور وسوسة حسية في شكل هلوسة لمسية Tactile Hallucination ؟
وأخيرا نصل إلى طالب الطب "س" والذي كانت خبرته الحسية الكاذبة هلاوس سمعية متغيرة الشدة ومسقطة على الواقع الخارجي لكنه يشك في واقعيتها... وتبدو الوساوس السمعية هنا متشابهة مع الهلاوس الشمية في "ب" في كونها مستفزة بواجبات التعرض ومنع الاستجابة القهرية..... فعندما امتنع "ب" عن الذهاب إلى المطبخ للتحقق من غلق صمام الغاز كانت الهلاوس شم رائحة الغاز قادمة من المطبخ، وعندما نجح "س" في الامتناع عن العودة إلى المكان الذي اهتزت فيه سيارته للتحقق من أنه لم يدهس أحدا كانت الهلاوس سماع صوت سيارة الإسعاف..... ورغم انطباق كل صفات الخبرات الحسية التي تسمى هلاوس على هاته الخبرات يبقى إدراك الواقع غير المختل أو المختل جزئيا مانعا من اعتبارها هلوسة ذهانية، فهي أقرب إلى الهلوسة الكاذبة المتخيلة.
وقد وصفت مجموعة باحثين ظواهر حسية مماثلة لأغلب تلك التي وصفناها في عدة حالات وسواس قهري منها سماع الأصوات، ورؤية نقاط من البراز في أيديهم، والشعور بقطرات من البول في أرجلهم، والشعور بوخز الإبر في جميع أنحاء الجسم، أو شم روائح نتنة (Fontenelle et al., 2008)، كذلك تظهر أدبيات اضطراب توريت والعرات المختلفة ما يسمى بالعرات الشبحية أو الوهمية Phantom Tics ورغم كونها أقل أنواع العرات شيوعا إلا أن تأملها يوحي بكثير من التشابه مع الهلاوس كما سنرى، فتعريف هذا النوع من العرات هو أنها خبرات حسية خارج الجسد أي أنها مجازا نوع من العرات الحسية التي يشعر فيها المريض أحاسيسا في أناس آخرين أو في أشياء..... أي أنها أحاسيس يتم إسقاطها على أهداف خارج الجسد (أشخاص أو أشياء) وكأنها أحاسيس جسدية تدرك خارج الجسد وهذا شبيه جدا بأحد طرق فهم الهلاوس فهي أصوات عقلية يتم إسقاطها على أهداف خارجية.... وكي لا نذهب بعيدا عن نطاق الوسواس القهري فإن من المهم بيان أن المصابين بالعرات الشبحية يشعرون بالارتياح الوقتي من ذلك الإحساس في الشخص أو في الشيء بلمسه أو خدشه! (Karp & Hallett, 1996) أي كفعل قهري! ومعنى هذا هو أن الخبرات الحسية لمرضى العرات لا تقتصر فقط على الظواهر الحِسِّيـَّةٌ الجسديةٌ وإنما تتعداها إلى ظواهر حسية غير جسدية يشعر بها الشخص في غير جسده بنفس طريقة إحساسه بأحاسيسه الجسدية.
إدراكات حسية كاذبة في الوسواس القهري:
يبين ما سبق وجود إدراكات حسية Sensory Percepts غير حقيقية المنشأ في مرضى اضطراب الوسواس القهري تمثل وسواسا (بمعنى حدث عقلي تسلطي) وهي تؤدي بالمريض إلى تعزيز أداء الفعل القهري وربما فشل العلاج إن لم ينتبه لها، إلا أن النقطة المهمة هنا كانت أن للإدراكات الحسية حين تكون غير حقيقية تسمية في علم الأعراض النفسية هي الهلاوس فهل الأعراض التي وصفناها تصلح بدايةً أن تكون هلاوس؟ وهل يصح أن تكون الهلاوس المقتحمة وساوس كأي وساوس؟ ومثلما تخدم الهلاوس الفكرة الوهامية في نفس المريض إذ تعزز اقتناعه بفكرته أو أفكاره الاضطهادية فتزيد الطين بلة كما في أغلب مرضى اضطرابات الزور Paranoid Disorders الذهانيين وربما دفعتهم إلى ارتكاب الجرائم أحيانا، لماذا لا يكون مقبولا أن تخدم الهلاوس الفكرة الوسواسية أو الأفعال القهرية في بعض مرضى اضطراب الوسواس القهري؟.
الهلاوس ما هي؟
يمكن تعريف الهلوسة بأنها نوع من الخبرة الإدراكية التي تحدث دون التحفيز الكافي من الجهاز الحسي ذي الصلة، ولكنها تعطي شعورا مقنعا بواقعيتها (Slade & Bentall, 1988) وينص تعريف التصنيف الأمريكي الرابع المراجع ( DSM-IV TR ) للهلوسة على أنها: "إدراك حسي كاذب يحدث في حالة عدم وجود أي تحفيز خارجي للجهاز الحسي ذي الصلة بالطريقة الحسية المعنية" والهلوسة الحقيقية هي خبرة حسية واقعية يسقطها صاحبها على الواقع الخارجي وترتبط بخلل في إدراك الواقع Impaired Reality Testing ولذلك تدرك كأنها حقيقية، وهذه هي الهلاوس الذهانية Psychotic Hallucinations .
وأما الهلاوس غير الذهانية Non-Psychotic Hallucinations أو الهلاوس الكاذبة -وهو الاسم الشائع- فلا ترتبط بخلل في إدراك الواقع ولذلك يشك صاحبها في واقعيتها، وهناك صنفان منها أحدهما هو الهلاوس الكاذبة المتصورة Imaged Pseudo-hallucination وهي خبرات حسية عقلية لا جسدية لا إرادية Involuntary يدرك صاحبها أنها من داخل عقله ولا يسقطها على الواقع الخارجي ولعل كونها لا إرادية هو أهم ما يفرقها عن عملية التخيل Imagination الإرادية الواعية، والصنف الآخر هو الهلاوس الكاذبة المدركة Perceived Pseudo-hallucination وهي خبرات حسية جسدية يدركها صاحبها على أنها في الواقع الخارجي لكنه يحتفظ بإدراك صحيح للواقع فيعرف أنها غير واقعية (Taylor, 1981).
وإذا عدنا مرة أخرى إلى الحالات الموصوفة نجد هلاوس لمسية أو حشوية؟؟ في فتحة الشرج وربما القضيب في الحالة "م" تترجم على أنها إثارة جنسية بينما نجد هلاوس لمسية أيضا في الحالة "أ" وفي نفس المنطقة لكنها تترجم على أنها علامات خروج شيء من السبيلين بما ينقض الوضوء أو يفسد الصلاة، ثم نجد الهلاوس الشمية في الحالة "ب" تترجم على أنها دليل على تسرب الغاز وداعيا للتحقق من غلق الصمام جيدا، ثم نجد هلوسة لمسية عضلية هيكيلية في حالة الآنسة "هـ" تدفعها لفرقعة وتكرار فرقعة المفصل، وأخيرا نجد الهلاوس السمعية في حالة الطالب "س" وكانت تدفعه للتحقق أنه لم يدهس أحدا بسيارته، ورغم أنه عرف بعد المرة الأولى أنها غير حقيقية إلا أنه لم يكن يستطيع منع نفسه من الخروج للتحقق، في كل هذه الحالات تبدو الخبرات الحسية التي مر بها مرضى الوسواس القهري المعروضة حالاتهم أكثر شبها بالهلاوس الكاذبة المدركة أي أنها هلاوس غير ذهانية.
الوساوس مقابل الهلاوس Obsessions versus Hallucinations :
من المعتاد بالنسبة للأطباء النفسانيين عند دراسة أعراض الاضطرابات النفسية مقارنة الوساوس بالوهامات أو الفكرة الوسواسية Obsessive Idea بالفكرة الوهامية Delusional Idea فكلاهما من اضطرابات التفكير، مثلما من المعتاد مقارنة الهلوسة بخداع الحواس Illusion فكلاهما من اضطرابات الإدراك.... لكن ليس من المعتاد التفكير في مقارنة الوساوس بالهلاوس فذا اضطراب تفكير وذاك اضطراب إدراك، لكن المسألة مختلفة من منظور علم النفس المعرفي والذي يعتبر كلا من الهلاوس والوساوس مقتحمات إدراكية (أو معرفية) Intrusive Cognitions تتميز بأنها تدرك كـ "لا ذاتية المنشأ" Non-Self Origin ؛
ولعل من أهم نقاط التشابه بين هذين النوعين من المقتحمات الإدراكية اتسام رد فعل الشخص بالتوجس الشديد والشعور بفقدان السيطرة عند حدوث الاقتحام، وبسبب هذا التوجس لا يستطيع المريض أن يقبل المحتوى المقتحم كمجرد ضوضاء معرفية يمكنه تجاهلها (مثلما نتجاهل زلات اللسان)... ولذلك يلجأ مريض الوسواس بالتالي إلى الفعل القهري أو أي من استراتيجيات المجابهة الفاشلة مثل الفعل المعادل أو التحاشي أو محاولة قمع الأفكار من أجل التخفيف من أثر الوسواس ولا ينتج عن ذلك إلا إعطاء الأخير قوة أكثر على الإلحاح، ورغم إحساس بعض مرضى الوسواس بأن شيئا في عقولهم يعذبهم إلا أننا لا نجد أحدا من الموسوسين يفكر في وجود مؤامرة ضده... لكن ما يحدث في مرضى الهلاوس الحقيقية أمرٌ مختلف فسريعا ما تفسر الهلاوس على أنها بفعل مؤثر خارجي.
وأحيانا يكون التفريق بين الهلاوس والوساوس صعبا (Bürgy, 2007) خاصة عندما تكون الخبرة الحسية مقطوعة موسيقية (Terao & Ikemura, 2000) ففي كلا الحالتين يشتكي المريض من تكرار لحن معين أو مقطوعة موسيقية أو غنائية ملحة لا يستطيع إيقافها إراديا، وليس هذا مستغربا فقد أظهرت دراسة معرفية وجود خلل في التثبيط المعرفي الإرادي Impaired Intentional Cognitive Inhibition لدي كلا النوعين من المرضى (Garcı´a-Montes et al. 2006)، بل إن من الباحثين من وجد شيوعا للهلاوس الموسيقية في مرضى الوسواس القهري (حوالي 30% ) حتى رأوا أن الهلاوس الموسيقية تحدث في مرضى الوسواس القهري أكثر مما تحدث في اضطراب نفسي آخر (Hermesh et al. 2004)؛
وليس هناك اتفاق على توصيف أو تصنيف معين للهلاوس السمعية ولا الآلية الفيسيولوجية التي تحدث بها مفهومة بعد (Evers & Ellger, 2004)، إلا أن ما هو جدير بالذكر أن التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي Functional Magnetic Resonance Imaging لأدمغة الفصاميين أثناء الهلوسة السمعية بين أن ما يحدث من تغيرات في الدماغ هو نشاط في المسارات العصبية الطبيعي لحاسة السمع أي كالذي يحدث عند سماع صوت واقعي (Lennox et al. 2000)، وهذا بالتأكيد يساعد في عدم قدرة المريض التفريق بين ما هو من عقله وما هو بفعل مؤثر خارجي..... وكثيرا لذلك ما يختلط الأمر على المريض مثلما على الطبيب هل هي وساوس موسيقية أم هلاوس موسيقية؟
وقد بينت دراسة المعتقدات وراء المعرفية Meta-cognitive Beliefs أي المعتقدات المتعلقة بالأفكار في أصحاب الوساوس وأصحاب الهلاوس تشابها كبيرا بين الفريقين فلدى كل منهما معتقدات سلبية عن السيطرة على الأفكار وعن خطورتها وكلا الفريقين فاقد للثقة المعرفية Cognitive Confidence مثلا ثقة الشخص في ذاكرته وصوره العقلية وهذا الفقدان يزيد كلما زاد إحساس الشخص بالمسئولية في موقف معين، فضلا عن التشابه في وجود القناعة بالخرافات أو التفكير الخرافي والقناعة بفرط المسئولية فيما يتعلق بأفكار الشخص لدى المرضى من الفريقين (Badcock et al. 2007).
وبالتالي من الواضح وجود تشابه في الخلفية المعرفية لدى من يعاني من الوساوس ومن يعاني من الهلاوس، وبينما يبدأ كل من الوساوس والهلاوس كمقتحمات إدراكية ويتشابه رد فعل المريض المبدئي لهما إلا أن ما يؤول إليه التأويل النهائي يبقى مختلفا، فبينما يرجع مريض الوسواس وساوسه "لا ذاتية المنشأ" إلى عقله هو يرجع مريض الهلاوس هلاوسه "لا ذاتية المنشأ" إلى مصدر خارجي أما الفرق فيبدو أنه يكمن في مدى قدرة المريض على مراقبة عملياته المعرفية، إذ نجد أن مرضى الوسواس أكثر وعيا ومراقبة لأفكارهم من المرضى الذين يعانون من الهلاوس، ويمكن الافتراض بأن نقص الوعي بالعمليات المعرفية أو نقص القدرة على مراقبتها هو الذي يؤدي بمرضى الهلاوس إلى عزو هلاوسهم لمصدر خارجي (Morrison et al., 1995) بينما تحول قدرة مرضى الوسواس على رصد أفكارهم عن كثب، ووعيهم بها بالتالي بينهم وبين نسبة الوسواس إلى مصدر خارجي.
وفي دراسة حديثة نوعا ما (van der Zwaard & Polak, 2001) وضع الباحثان معايير توجيهية لتفريق الهلاوس من الوساس أو العكس وكان من أهم تلك المعايير أن الوساوس تكون مصحوبة بسلامة إدراك الواقع (وهذا نتفق معه) وأنها عادة لا تكون عن طريق اللمس، أو الشم، أو الذوق، ومعظمها أشكال وساوس موجودة في شكاوى مرضانا، ونجد في الكتابات الكلاسيكية عن الأعراض (Hamilton, 1974) التعريف الذي وضعه ياسبر Jaspers للهلاوس الكاذبة بأن لها صفتين هما أن يدركها الشخص ومصدرها في داخله وأن يدرك أنها غير حقيقية، ورغم أن هذا التعريف يماثل تعريف الوساوس فهي أحداث عقلية يدرك صاحبها أن مصدرها داخله ويعرف كذلك أنها غير حقيقية.... إلا أننا لا نستطيع اعتبار كل الخبرات الموصوفة في الحالات السابقة هلاوس كاذبة حسب هذا التعريف لأنه يقصرها على الهلاوس الكاذبة التي يدركها الشخص داخل عقله (أي المتصورة حسب تصنيف تايلور) وقد ظهرت في الحالات أيضا هلاوس كاذبة يدركها الشخص خارجه (أي المدركة حسب تصنيف تايلور) وربما كان تعريف الهلاوس الكاذبة حسب تايلور (Taylor, 1981) أصلح للتطبيق لأنه أكثر قدرة على احتواء تلك الخبرات الحسية الوسواسية، وعلى كل يبقى سؤال هل الخبرات الحسية التي خبرها المرضى المعروضة حالاتهم هلاوس كاذبة أم هلاوس حقيقية مفتوحا للبحث والنقاش.
ورغم أن عدد الحالات المعروضة هو 5 حالات فقط إلا أن كون الكلوميبرامين عقارا مشتركا في علاج كل تلك الحالات يجعلنا نستطيع استنتاج أهمية عقار الكلوميبرامين في علاج الظواهر الحسية المصاحبة لبعض حالات الوسواس القهري وهو ما يتفق مع نتائج دراسة (Shavitt et al, 2006) افترض فيها الباحثون إمكانية اعتبار وجود الظواهر الحسية مؤشرا على حسن الاستجابة للعقار، وأما ما بدا غريبا في الحالات المعروضة ومختلفا عما سيتبادر إلى ذهن الطبيب النفساني فكان غياب تأثير هذه الخبرات الحسية على مستوى الاستبصار لدى مريض الوسواس القهري فكل المرضى المعروضة حالاتهم (إضافة لأغلب مرضى الوساوس الدينية) كانوا متمتعين بمستوى استبصار جيد Good Insight ولم تساهم تلك الخبرات في إضعاف الاستبصار رغم أنها كانت تجعل الامتناع عن أداء الفعل القهري أصعب بكثير مما هو في من لا توجد لديهم تلك الخبرات.
المراجع:
1- Fontenelle LF, Lopes AP, Borges MC, Pacheco PG, Nascimento AL, Versiani M (2008) Auditory, visual, tactile, olfactory, and bodily hallucinations in patients with obsessive-compulsive disorder. CNS Spectr 13(2):125–130
2- Miguel EC et al (2000) Sensory phenomena in obsessive–compulsive disorder and Tourette’s disorder. J Clin Psychiatry 61(2):150–156 (quiz 157)
3- Shavitt RG, Belotto C, Curi M, Hounie AG, Rosario-Campos MC, Diniz JB, Ferrao YA, Pato MT, Miguel EC. (2006): Clinical features associated with treatment response in obsessive-compulsive disorder. Comprehensive Psychiatry. 2006;47(4):276–81
4- Chee KY & Sachdev P. (1997): A controlled study of sensory tics in Gilles de 1a Tourette syndrome and obsessive-compulsive disorder using a structured interview. J Neurol Neurosurg Psychiatry. 1997 Feb;62(2):188-92.
5- Karp, BI; Hallett, M (1996). Extracorporeal 'phantom' tics in Tourette's syndrome. Neurology, 46(1), 38-40.
6- Slade, P.D. & Bentall, R.P. (1988). Sensory deception; a scientific analysis of hallucination. Baltimore: John Hopkins University Press.
7- Taylor, K (1981) On pseudohallucinations. Psychological Medicine Journal 4,3741. WHO (1992) Schedules for Clinical Assessment in Neuropsychiatry, SCAN. Geneva: world Health Organization.
8- Bürgy M. Obsession in the strict sense: a helpful psychopathological phenomenon in the differential diagnosis between obsessive-compulsive disorder and schizophrenia. Psychopathology. 2007;40:102-110.
9- Terao T, Ikemura N. Musical obsessions or hallucinations? J Neuropsychiatry Clin Neurosci. 2000;12:518-519.
10- Badcock JC, Waters FA, Maybery M. On keeping (intrusive) thoughts to one’s self: testing a cognitive model of auditory hallucinations. Cognit Neuropsychiatry. 2007;12:78-89.
11- Garcia-Montes, J. M., Perez-Alvarez, M., Soto Balbuena, C., Perona Garcelan, S., & Cangas, A. J. (2006). Metacognitions in patients with hallucinations and obsessive-compulsive disorder: The superstition factor. Behavior Research and Therapy, 44(8), 1091-1104.
12- Hermesh H, Konas S, Shiloh R, et al. Musical hallucinations: prevalence in psychotic and nonpsychotic outpatients. J Clin Psychiatry 2004; 65:191-7. Comment in: J Clin Psychiatry 2005;66:136; author reply 136-7.
13- Evers S, Ellger T. The clinical spectrum of musical hallucinations. J Neurol Sci 2004; 227:55-65.
14- Lennox BR, Park SB, Medley I, Morris PG, Jones PB. The functional anatomy of auditory hallucinations in schizophrenia. Psychiatry Res 2000; 100:13-20.
15- Morrison, A. P., Haddock, G., & Tarrier, N. (1995). Intrusive thoughts and auditory hallucinations: A cognitive approach. Behavioural and Cognitive Psychotherapy, 23, 265–280.
16- van der Zwaard R, Polak MA. Pseudohallucinations: a pseudoconcept? A review of the validity of the concept related to associate symptomatology. Compr Psychiatry. 2001;42:42-50.
17- Hamilton M, ed. Fish’s Clinical Psychopathology. Bristol: John Wright & Sons Ltd, 1974.
واقرأ أيضاً:
اليقظة الراضية أو الوعي الآني Mindfulness/ الظواهر الحسية في نطاق الوسواس !/ أقصى؟ حدود الوسوسة! ربما(1-3)/ أقصى؟ حدود الوسوسة! (مشاركة)
التعليق: أخي العزيز وائل
شكراً على رسالتك. قرأت المقال عن الظواهر الحسية أكثر من مرة. كان طرح الحالات السريرية مثيراً للاهتمام وخاصة في ما يتعلق بالدين والظواهر الحسية في بعض المرضى.
في ضمن المحاضرات التعليمية، أقدم عدة حالات مشابهة، وهناك خمسة منها تابعتها على مدى 10 أعوام.
1- الحالة الأولى لشاب مسلم لديه هلاوس جسدية تصاحب الوضوء والصلاة.
2- الحالة الثانية لرجل متدين لديه هلاوس جسدية فيما يتعلق بالمعدة والأمعاء.
3- امرأة راهبة لديها هلاوس بصرية أثناء الصلاة الجماعية التي تديرها.
4- راهب في الكنيسة لديه هلاوس سمعية أثناء الصلاة الجماعية والفردية.
5- امرأة ملتزمة دينياً لديها هلاوس حسية أثناء الصلاة.
كان النقاش حول هذه الحالات يتعلق بوجود عملية ذهانية تحت غطاء الوسواس القهري وأن الأخير مجرد عملية دفاعية لدفع الذهان جانباً.