البناء النفسي هو ديالكتيك يقود الإنسان إلى كشف ذاته، كشف في الإنسان يقود إلى فهم ما هو؟ وبتعبير آخر من أنا؟ وهو معرفة تقود إما إلى الشفاء أو إلى عكسه؟ ففي معرفة البناء النفسي عند الإنسان يضع الفرد أولى بصماته على نقاط قوته أو ضعفه فهو شفاء في ضعفه يتحقق من خلال معرفة، وهو أيضا كشف لما فيه من قوة بنفس الوقت فيكون استمرار البناء وبه يصون الإنسان السليم نفسه ضد متغيرات الحياة لأنه في مواجهة كاملة مع نفسه أولا ومع البيئة الخارجية.
ترى موسوعة علم النفس والتحليل النفسي أن البناء هي عملية تنظيم ودمج الأجزاء في وحدة كلية أو في كيان معقد وهذا ما استخدمه علماء نفس الجشطالت في طرحهم لهذا المفهوم أو المصطلح في حديثهم عن الكليات المنظمة وهي التي تتكون من انتظام وحدات الخبرة نتيجة للاعتماد المتبادل بين أجزاء الخبرة الكلية سواء في الوظيفة أو في طبيعة التكوين، أي أن التكوين البنائي أو التنظيمي يتم في شكل وحدات كلية وأن ذلك يعكس معنى جديد ومتميز لجزئيات وحدات الخبرة يختلف عما تمثله معنى كل وحدة جزئية على حدة.
في البناء النفسي يخبر الفرد رؤية ذاته وانعكاساتها وتصور ذاته على نحو مختلف عن حقيقتها أحيانا وربما مطابق لما هو واقعي كما يراه هو نفسه وهو منظور أساس للإنسان الذي يمكن أن يُشيدْ حياته بالبدء على مستوى تخيليا داخليا ومن ثم إما تترسخ التخيلات فتكون واقعية حتى وإن كانت غير صحيحة فيكون الدفاع عنها من الناحية السيكولوجية هو الاحتفاظ بالبناء الراهن للشخصية مهما كان فيه من عوج ومهما كلف ذلك من الشقاء أو المعاناة ويقول "مصطفى زيور" حتى لنجد بعض الأفراد وقد تحصنوا في نوع من القلاع التي لا نفاذ إليها لأنهم قبلوا بما بنوه في أنفسهم ومنها سمات التعصب أو التعالي أو الشعور بالعظمة أو حتى الكذب كما تمم للشخصية، أو بنى تكوينه النفسي من أفكار خارجية تأتي من نقل الآراء من الخارج وحينها تفرض نفسها حتى وإن كانت من الخارج وتحصل على إشباعاتها من القبول الداخلي فيكون البناء مقبولا.
حقا إن البناء النفسي ديالكتيك من البدء، المبني، إلى النمو، بروز المعنى، مرورا بالنشوء والتكوين ولا نغالي غذا قلنا أن دراسات الطفولة والنمو أضافت الكثير لهذا البناء حتى شكلته وَقَبلهُ "بمعنى ارتضاه" أي منا في مواقف الحياة المختلفة رغم أن بعضنا تتصف شخصيته باللاشخصية تجعل من ذاته -أناه تذوب في عالم الآخرين فلا تنطبق عليه الشخصية المتكاملة- المتزنة فهي شخصية حالها يمكن أن نطلق عليه: إنها ليس ما هي وإنها ليس هي، وهو ما سمي بالبناء الزائف الذي يعد بحق مبهمة ونقصان في التكوين والبناء النفسي.
إن البناء النفسي الذي يشكل الشخصية عبر مراحل حياتية منذ فجر ولادة الإنسان تتكون معه أولى بزوع المشاعر الإنسانية وأولى بزوغ الرغبة بأنواعها من المحبة إلى التعاون إلى السعي في الامتلاك غلى الأنانية، إلى العدوان إلى الابتكار وخلق الجديد المميز ولا نغفل في هذا الموضع الجانب البيولوجي الذي يشكل جزءا كبيرا في البناء الإنساني ويعكس صداه على البناء النفسي وهذا هو اختلاف الإنسان عن الكائنات الحية الأخرى ويتجسد هذا الاختلاف الكيفي في ميلاد القشرة المخية والوظائف العقلية العليا أعني النشاط الرمزي المتمثل في التفكير واستخدام اللغة والإدراك المتقدم والتذكر والخبرات التي تكتسب وتشكل السلوك.
إن البناء النفسي للإنسان في فجر تكوينه يقوم على تأكيد بعض الفلسفات اليونانية حينما طرحت أن الإنسان حيوان عاقل وهو فعلا حيوان تراجعت عنده الغرائز الحيوانية ببعديها المحتوى والشكل وإن اختلفت هذه الرؤية مع النص القرآني حينما يؤكد على أن الله "جل جلاله" يؤكد بقوله وخلقنا الإنسان في أحسن تقويم.
تعد النفس الإنسانية في أفضل حالاتها هو قبول القديم الذي آلفته وتعودت عليه لأن كل جديد يحتاج إلى سلسلة من النضال بين المألوف وغير المألوف فيقول "مصطفى زيور" رحمه الله نحن لا نفطن لمعارف جديدة دون جهاد ضد معارف سابقة ويصدق ذلك أكثر ما يصدق على العلم بأحوال النفس لأن إدراك الجديد عنها تقويض لألفتنا بها حتى لنكاد نمسي غرباء عن أنفسنا بل إن هذا الاغتراب يفقدنا الطمأنينة ويذيع إلى النفس إشفاقاً يهز الكيان فتدعونا فطرتنا إلى الإنكار والاستنكار وهذا سر استمرار البناء النفسي عند الإنسان متجدد ويحتاج إلى ترميم وإدامة دائمة من داخل النفس لذا لا نغالي إذا قلنا أن الإبداع هو نبع من داخل النفس يبدأ من الإحساس بالمشكلات ويمتلك صاحبه مظهرنقدي تقويمي يختلف في مبناه ومعناه عن الآخرين ومتفرد عند الشخص ذاته؛
فلا غرابة أن البناء النفسي للإنسان يحمل بين طياته اكتشاف الجديد الذي يقتضي أن نتوقع ما لا ينتظر كما يقول "هيرقليطس" وبهذا كانت الفروق الفردية بين الأفراد والمجتمعات من حيث التكوين والنشأة والاستمرارية وإدامة تحفيز النفس في النمو المستمر وعلى حسب قول العلماء هو النفاذ إلى أعماق النفس ذلك النفاذ الذي يصطدم ليس فقط بصراع القديم المترسخ والثابت بل خلق الجديد الذي يحتاج ما تقتضيه من خلفية ذهنية تكاد تمتنع على وصف طبيعتها وهذا بحد ذاته يضطر صاحبها أن يمتلك أسلوبا في الخيال والتعبير شديد الشبه بأسلوب من يمتلك أفق واحد بين العقل والجنون.
يقول علماء النفس والتربية والاجتماع ومن اهتم بالإنسان وتصدى لتفسيراتها المتنوعة والمختلفة إن التنشئة في الطفولة تستهدف البلوغ وخصوصا بلوغ التفكير المترابط مَنطقهُ، لا بل أسلوب وطريقة التعامل وتكوين المفاهيم التي لا يحتاج فيها الإنسان إلى حشد واسع من الأفكار أو المصطلحات لدى عامة الناس على العكس تماما عند الآخر الذي يشكل عند المبدع في بناءه النفسي حدس أقوى وفطنة يمتلكها من ناحية أخرى قل مثيلها. يقودنا البناء النفسي لأي إنسان إلى حقيقة ثابتة وهي أن صراعه أو حواره مع ما فطن إليه من جديد وما صار إليه هو الذي يواكب تطوره لدى الجميع – أفرادا وجماعات، فالنقد ينشط الفكر، والخيال يفتح آفاق الإبداع.
وفي النهاية يمكننا القول أن الإنسان بنيان كلي في عالم هو الآخر بنيان كلي لا يتوقف فيه الصراع الجدلي بين أطرافه داخل الفرد نفسه وفي المواقف المختلفة من حيث معالجتها أو مواجهتها أو بين الفرد والمحيطين به في البيئة الاجتماعية "الآخرين" أو البيئة الأخرى الطبيعية –المادية وأن موضوعه الأساسي هو الكشف عن الرغبة الدينامية حتى وإن كانت مموهة للحقيقة.
واقرأ أيضاً:
إعادة تأهيل وبناء الإنسان المصري2/ مع المعلمين: بناء الشخصية