إن هناك فرق كبير بين ما هو شرعي وما هو واقع, والاعتراف بشرعية الشيء يختلف تماماً عن الاعتراف به كواقع لا مفر منه. خذ مثلاً دولة إسرائيل, إن الاعتراف بكونها دولة قائمة أمر لا مفر منه أما الاعتراف بشرعية قيامها أو أنها كيان شرعي فذلك أمر آخر مختلف تماماً. فلا جدال أنها كيان غير شرعي قام على اغتصاب حقوق الآخرين. إن الفرق بين الاعتراف بالشرعية والاعتراف بالواقع أن الاعتراف بالشرعية لشيء ما يفتح الباب لبقائه دون مضايقة أو محاربة, فالشيء الشرعي أو الفعل المشروع كلاهما لا حجة منطقية لأحد في الوقوف ضده.
أما الاعتراف بالواقع فيعني إدراك حقيقة الأمور على أرض الواقع فعدم شرعية إسرائيل ليس معناه أنها ليست قائمة وليس معناه أنه لا توجد هناك دولة ذات مؤسسات وجيش وسيادة مفروضة على الأرض. إن الاعتراف بواقع وجود ما هو غير شرعي يفتح باب الإدراك السليم لكيفية التي يمكن تغييره وإزالته بها استناداً إلى معطيات الواقع, وحتى حين نعجز لبعض الوقت عن التغيير فإننا نظل ندرك أن هناك خطأً قائماً وغير مشروع يجب أن يتم تغييره في وقت ما حين تتوفر الوسائل. لكن المصائب دوماً تأتي من بابين, أحدهما الإنكار الكامل للواقع والإصرار على إنكار الشرعية والواقع سوياً وهو ما يؤدي إلى تطرف بعيد عن إيجاد عن الحلول الصحيحة, أما المدخل الآخر فهو ما يسمى التطبيع وهو إضفاء المشروعية على ما هو واقع حتى إن لم يكن شرعياً، فيصبح الواقع مرادفاً للشرعية. وتصبح إسرائيل بذلك كياناً شرعياً فقط لأنها قائمة بقوة الأمر الواقع.
إن ما قلناه عن إسرائيل هو بنفس المنطق صحيح على جميع أشكال الفساد في كل مكان. إن انهيار المجتمعات وغرقها دوماً يأتي حين يبدأ أفرادها بإضفاء الشرعية على الفساد داخلها بحكم كونه أمراً واقعاً, وهذا ما نلمسه اليوم في مصر جلياً للعيان, فقد صارت الرشوة والاحتيال مثلاً أمراً طبيعياً أضفى عليه الكثيرون الشرعية بحكم "إن هي الدنيا كده"... الأنانية, الحقد, الانحلال الخلقي والأخلاقي، كلها أمثلة ينطبق عليها نفس المبدأ، وحين يبدأ الإنسان بإضفاء الشرعية على شيء ما يتوقف ضميره تلقائياً عن تأنيبه عليه ورويداً رويداً يتمادى فيه حتى يصبح هو الأصل والأساس أو على الأقل يصبح عادة ملازمة ومكوناً من مكونات شخصية المرء.
إن الواقع يقول أنه مع مرور الوقت فإن ما هو غير شرعي يبدأ باكتساب الشرعية بحكم قوة الواقع وضغطه ويبدأ الأفراد بالتطبيع معه ما لم يتوفر دوماً المذكر والرادع المناسب لهم عن الإقدام على هذا التطبيع الذي يبدأ حقيقة من داخل الأفراد أنفسهم في ظل ضعف الوازع الديني والأخلاقي وإدمان الضمير على المنومات والمسكنات من نوع "ليس باليد حيلة"، إن بداية الحل دوماً أن ينمو وعي الأفراد بضرورة التمييز بين ما هو شرعي وما هو واقعي. لأنه ما دام ذلك الإدراك قائماً فإن أضعف الإيمان وهو الإنكار بالقلب موجود, مما يعني أنه وإن قصرت الأسباب في وقت عن تحقيق التغيير فإن الأمل والرغبة في التصحيح تظل قائمة. أما إن أصيب الضمير بسكتة قلبية تحت تأثير جرعات مضاعفة من المسكنات فحينها تنتهي تلك الرغبة ولا يكاد يجدي مع صاحبها نصح ولا إرشاد ويصير ممن قال الله فيهم {كلا بلا ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} أو {ختم الله على قلوبهم فهم لا يفقهون}.
إن أكبر جريمة ترتكبها نظم الاستبداد ومنها كان نظام مبارك, هي استخدام أدوات السلطة مثل الإعلام لشرعنة الفساد والتطبيع معه وإسكات تلك الأصوات الخافتة داخل أفراد المجتمع التي تنادي عليهم دوماً وتدفعهم لاستنكار الباطل. ويترادف ذلك مع استخدام الذراع الأمني للسلطة لمنع وكبح المصلحين الذين يسعون دوماً لتذكير الناس بوجوب هذا التفريق. والأسوأ أنها قد تسمح فقط بأن يعلو صوت المتطرفين الذين ينكرون الواقع فيصيروا مثالاً يقدم للمجتمع عن البديل المتاح أمامهم إن رفضوا هذا التطبيع. وحتى إن قبل البعض هذا التطرف فإن الأغلبية تبقى عاجزة عن التوفيق بين المثالية الزائدة لهؤلاء اللاواقعيين وبين أبسط الأمور الحياتية التي تكفل لهم الحد الأدنى للعيش الكريم فيميلون لاختيار الأسهل ويستسلمون للتطبيع مع الفساد القائم حتى يستشري أكثر وأكثر ويصبح كماء البحر كلما شرب منه المجتمع ازداد عطشه.
أما وقد زالت تلك الذراع الأمنية التي طالما كبحت المصلحين وصار الباب مفتوحاً أمامهم أيضاً للوصول إلى وسائل الإعلام, فقد حان الوقت ليدرك الناس أنفسهم أن الكرة صارت في ملعبهم هم وأن التعويل على الحاكم أياً كان توجهه وفكره لإصلاح المجتمع هو مجرد صورة أخرى من صور التطبيع مع التكاسل والاكتفاء بإلقاء اللوم هنا وهناك في الوقت الذي يتربع فيه كل فرد أو يستلقي في أحضان الفساد كما هو دون تغيير ولسان حاله يقول "الفساد عشرة عمر" وطالما بقي ولم يذهب من نفسه أو بفعل فاعل من غير أنفسنا فإننا باقون معه على العهد الذي قطعناه على أنفسنا يوم اخترنا التطبيع معه وإضفاء الشرعية عليه.
اقرأ أيضاً:
علم جديد / إشهار إفلاس، إدراك الحقيقة