كنت أتجول في متحف الأحياء المائية في وسط المدينة كوالالامبور عاصمة ماليزيا فشاهدت حوضا من السمك يبدو مختلفا عن باقي الأحواض حيث يحوي عددا من الاسماك مختلفة الأحجام والأشكال والألوان والأنواع ومكتوب عليه "سباحة مباركة في تناغم دقيق بصرف النظر عن النوع أو الحجم أو اللون".... ويبدو أن هذه هي فلسفة الحياة في المجتمع الماليزي والذي يضم حوالي 60% من سكانه من المسلمين والباقي عبارة عن هنود وصينيين يتبعون ديانات مختلفة كالماوية والبوذية والهندوسية والكونفوشيوسية وهم يعيشون في سلام ويعملون بنشاط في حياتهم العامة, وكل منهم يذهب إلى مسجده أو معبده ليؤدي طقوس عبادته. ولقد زرت الكثير من المعابد لديانات مختلفة فلم أجد على أي منها حراسة أمنية من أي نوع, بل الكل يعبد ربه الذي ارتضاه في أمان وسلام.
وحين تمشي في شوارع ماليزيا يلفت نظرك هذا التنوع الكبير في البشر فمنهم الشرق اسيوي ومنهم العربي ومنهم الأوروبي. وقد تجاوز المجتمع الماليزي الإستقطابات القائمة على العرق أو اللون أو الدين وتوجه نحو البناء وتبنى مفهوم البناء وتبنى مفهوم المواطنة، فالعمل والبناء والتطوير والتميز هي قيم سائدة في المجتمع الماليزي، وسيادة هذه القيم وبروزها غطى على الانتماءات الفرعية وشكل نسيجا مجتمعيا متماسكا ومتوجها نحو بناء البلد وازدهاره.
وكنتيجة لهذا التعايش والتصالح الاجتماعي انطلقت ماليزيا في نواحي حياتها نحو النهضة والرقي حتى انك ترى أن شوارعها وأسواقها وبنيتها الاساسية لا تقل في شيء عن أي بلد اوروبي متقدم, وأيضا تجد الروح الإسلامية موجودة وبقوة.
وتكتمل هذه الفلسفة التواءمية التعايشية في البرجين التوأم وهما أحد أهم معالم ماليزيا الحديثة حيث يعتبران من أعلى الأبراج في العالم، والسبب في كونهما برجين, كما علمت من بعض الماليزيين, أنهما يمثلان حالة التعاون والتعايش بين الذات والآخر ولهذا تجد قنطرة تربط البرجين في وسطهما ، واسفل البرجين مكتوب عبارة: Reimagination of Energy بمعنى إعادة تخيل الطاقة، ويبدو أن للبرجين رمزيات أخرى كثيرة ومنها هذا الإرتفاع الشاهق الذي يتجاوز حدود الإنتفاع بالمبنى إلى حالة من الطموح والرغبة في الإرتقاء إضافة الى معنى التزاوج والتآخي والتعايش والتصالح والإرتباط.
وتتأكد هذه المعاني في وسط كوالالامبور وبالتحديد قرب مركز Pavilion التجاري وفي شارع العرب القريب منه حيث تجد خليطا من الجنسيات ومن السلوكيات ومن المعروضات في هذه الاماكن دون تصارع أو إقصاء، فعلى الرغم من أن ماليزيا بلد اسلامي وأن مشروع نهضتها كان ومازال ذو صبغة إسلامية عصرية ،إلا أن هذا لم يمنع وجود مظاهر في وسط المدينة عكس هذا تماما فمثلا تجد زجاجات الخمر على أرفف الكافيهات والمطاعم، وتجد مظاهر للدعارة المقنعة (تحت مسمى المساج) منتشرة في شارع العرب, وقد تكون هاتين الظاهرتين (الخمر والدعارة المقنعة) صادمتين لذوي الرؤية الدينية والاخلاقية، ولكنهما دليلا قبول وتنوع لدى اصحاب الرؤية الديمقراطية.
وقد حضرت خطبة الجمعة في أحد المساجد الكبرى وسط العاصمة، ولاحظت استخدامهم لتقنية "الباور بوينت" (عرض الشرائح على الشاشة) بالمسجد من خلال شاشات كبيرة تعرض على أحدها صورة الخطيب وتعرض على الأخرى عناصر الخطبة مكتوبة بلغات مختلفة بحيث تواكب ما يقوله الخطيب، وأحيانا تعرض صور وخرائط توضيحية لأماكن الأحداث التي يذكرها خطيب الجمعة.
وتبدو مدن ماليزيا جديدة تماما بما يدعو للعجب, ولقد علمت بان الحكومات الماليزية المتعاقبة (خاصة أيام مهاتير محمد) قامت بعمل خطة لتطوير الاحياء القديمة على مدى جدول زمني بحيث تبدأ بحي حتى تنتهي منه ثم تنتقل الى الذي يليه حتى أنجزت الخطة كاملة.
ومما يلفت النظر ذلك الجمال الطبيعي الخلاب والذي يساهم فيه مساحات الخضرة الهائلة (حيث أنها بلد استوائي) ومستوى النظافة الرائع في كل مكان والجزر والشواطىءالتي تعطي الزائر طعم الطبيعة البكر والبساطة المجتمعة المريحة. ويضاف الى ذلك طيبة الشعب وتوجهه نحو رعاية الزائر لبلاده دون استغلال أو مضايقة وكأنهم مفطورين على الرعاية والعناية، شأن شعوب جنوب شرق آسيا عموما، وربما يفسر هذا تقدمهم في مهن مثل التمريض والمساج وخدمة المنازل وإدارتها في كثيرمن دول العالم. ولهذا لا تستغرب حين تعلم بأن ماليزيا تعدادها 28 مليون نسمة ويزورها 30 مليون سائح سنويا. ولكي تلمس ما وصلت اليه ماليزيا (كأحد النمور الاسيوية) من تقدم صناعي تكنولوجي فيكفي أن تزرو أحد المراكز التجارية العملاقة التي تمثل سوقا للإلكترونيات لتكتشف النقلة الهائلة التي وصلت اليهاماليزيا.
كانت ماليزيا بالنسبة لي منذ 25 سنة تتمثل في سائق ماليزي فقير يدعى داوود كان يعمل في المركز الطبي الذي كنت أعمل به في الخليج وكان معظم الماليزيين يرضون بالمهن البسيطة والهامشية بحثا عن لقمة عيش لا يجدونها في بلادهم وكانوا يتحملون في سبيل ذلك بطش وقهر وتسلط الكفيل الخليجي، أما الآن فهم يعيشون أسيادا في بلادهم ويذهب اليهم الخليجيون والعرب عموما كسائحين يساهمون في تنشيط الاقتصاد الماليزي الصاعد بعقل ووجدان المواطن الماليزي الذي وجد قيادة مخلصة فتعاون معها ليبني بلدا عصريا وفي نفس الوقت محتفظ باصالته الدينية والثقافية.
واقرأ أيضًا:
الجماهير .. من السوقة والدهماء إلى عصر المجتمع المدني / التعليم السلطوي