ونحن نعيش ذكرى (وعد بلفور)، وقد عشنا قبل أيام حادثة اختراق طائرة بدون طيار أرسلها "حزب الله" إلى أجواء فلسطين المحتلة، تتزاحم العديد من الأفكار والخواطر، وكلها ينضح ألماً وحُرقة على ما وصلنا إليه، بيد أن نصاً يُلح على الحضور والقفز من وإلى الذهن، نص أو حدث عمره 76 سنة... النص هو رسالة الحُكام العرب إبان الثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1936م إلى اللجنة العربية العليا التي دعت صراحة إلى «وقف الثورة، والاعتماد على النيات "الطيبـة" لصديقتنا بريطانيا العظمى التي أعلنت أنها سـتُحقق العدالـة»، وما تلا النص المذكور حيث دعت اللجنة العربية العليا إلى وقف الإضراب، وإلى حل التنظيمات العربية وعودة الثوار العرب إلى دولهم!!
هذه أحداث ونصوص مهمة للغاية؛ فوقتها لم يكن هناك "فتح" ولا "حماس"، ولا انقسام بات شماعة وذريعة، ولم يكن وقتها ثمة صراع سني -شيعي أو عربي- فارسي وخطر إيراني ولا حرب باردة، بل كانت هناك هجرة يهوديـة كثيفـة يدعمها انتداب بريطاني مجرم آثم، ثار الشـعب الفلسـطيني في وجهـه، وجعل من خطـة إقامـة كيان صهيوني على هذه الأرض أمرا مسـتحيلا لأن الثورة قلبت كل الموازين وغيّرت وبدّلت كل المعادلات، فجاء نداء قادة العرب الذي سـارعت قيادتنا إلى التجاوب -مع الأسـف- معـه ليُنقذ سـلطـة الانتداب ويُنقذ الهجرة اليهوديـة التي جعلتها الثورة العارمـة عكسـيـة!
هكذا اسـتمر الحال المزري قبل قيام الكيان وبعده، قبل "فتح" و"حماس" وبعدهما؛ إنه حال عربي يرمي طوق النجاة دائماً للاحتلال، ولا يُسـتثمر في المقاومـة الفلسـطينيـة ولا يرى أن التخلي عن دعم هذه المقاومـة يعود على العرب -شـعوباً وأنظمـة- بالكوارث العظام، ويرى أن مشـكلتنا "إنسـانيـة" فقط تُحل بكميات من الغذاء والدواء ليـس أكثر!
وعندما غزا الفرنجة أرض فلسطين والشام ونفذوا المذابح الرهيبة في بيت المقدس توجه العلماء والقضاة إلى بغداد والقاهرة ودمشق فلم يجدوا إلا التراخي أو الوعود الفارغة، ولكن صمت العباسيين والفاطميين لم يحمِ حواضرهم من طمع غزو وتوسع الفرنجة القادمين من وراء البحار... ويتكرر (السيناريو) في عهد الكيان العبري ولا تجد من المتعظين إلا قليلاً؛ فلعل من الواجب والمهم التذكير بأنـه لولا مقاومـة وصمود الشـعب الفلسـطيني لأصبحت حدود الكيان من النيل إلى الفرات؛ وكان قادة وجنود ومخابرات وتجار الكيان وما زالوا يعرضون علينا أن نعيش معهم بسلام، والهدف واضح وهو أن يتفرغوا تماماً للتمدد، ولو قبلنا بهذا لعشنا داخل أرضنا حياة هي بلا شك أفضل مليون مرة من حياة إخوتنا في مخيمات البؤس والقهر والفقر، ولكُنا حصلنا على جنسية الكيان وأصبحنا مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة، ولكن هي مواطنة تعطينا ما لا نأخذه في بلاد أشقائنا العرب... بيد أننا رفضنا كل هذه العروض التي ما تزال قائمة مما اضطر الكيان إلى بناء الجدران والأسلاك الشائكة حول الأراضي التي اغتصبها بدل أن يتمدد أكثر فأكثر!
ولم يكن دعم العرب -وأقصد هنا المستوى الرسمي- للمقاومة الفلسطينية استثماريا بل خضع لحسابات إقليمية ودولية ومحلية، وشابته شُبهات كثيرة، وكان الاستثمار فيما لا يُفيد الدول العربية في أن يكون لها سند وظهر فلسطيني مخلص؛ فما فائدة دعم القذافي وصدام حسين لمجموعة صبري البنا (أبو نضال) مثلاً!؟
في المقابل فإن إيران استثمرت "حزب الله" بكل ما للكلمة من معنى فأصبح الحزب قلعة متقدمة تُخيف بها الكيان بل وتضرب الكيان بحصنها القوي الذي يُمثله الحزب؛ فالحزب مسلح بسلاح وعتاد قد تعجز دول عن امتلاكه، وبكل تأكيد لم تتطوع أي دولة عربية لتزويد المقاومة الفلسطينية به؛ ولا أقبل ذريعة الحدود محكمة الإغلاق لأن العرب لو أرادوا شيئا فعلوه؛ فالنظام السوري مخابراتي حتى النخاع وأمني بامتياز ومع ذلك نجح العرب في إدخال سلاح إلى المعارضة هناك، كما أن "حزب الله" بات يمتلك طائرات بدون طيار ويُهدد الكيان بأنه يستطيع قصف أي متر مربع داخله بصواريخه، وهو يعني ما يقول...
إنه حزب بإمكانات جيش قوي منيع مدرب على حرب العصابات والمواجهة التقليدية كذلك، كل هذا ما كان ليتأتى لحزب في بلد صغير كلبنان لولا الاستثمار الإيراني الجاد، ورفض القيادة الإيرانية منذ عقود جميع أساليب الترغيب والترهيب الغربية لوقف هذا الاستثمار، وأصر على كلمة استثمار لأنها الأنسب هنا... في الوقت الذي يخاف فيه العرب من أي دعم للمقاومة الفلسطينية حتى لا يُتهموا بالوقوف مع «الإرهاب» وظناً منهم أنهم سيتمتعون بالنجاة في عالم لا يُقيم وزناً لضعيف أو رافض لاستثمار حقيقي يقيه تقلبات التاريخ وتغيرات الجغرافيا!
يقولون بأن "حزب الله" يتلقى الدعم، وهو استثمار إيراني في لبنان والمنطقة لأنه ينتمي إلى المذهب الشيعي؛ حسناً... "حزب الله" من الطائفة الشيعية اللبنانية التي تعود جذور أبنائها إلى قبائل عربية من اليمن والجزيرة والعراق، ويتلقى دعماً من إيران الفارسية التي ترتبط معه بالمذهب (حسب التعليل المذكور)، ونحن الشعب الفلسطيني عرب أقحاح وتربطنا علاقات قرابة مع محيطنا العربي وأغلبيتنا الساحقة مسلمين سنة مثل محيطنا، والخطر الإسرائيلي على المحيط العربي أعظم منه على إيران البعيدة نسبياً، ومع هذا نجد استثماراً إيرانياً "لحزب الله"، ورفض عربي لأي استثمار في المقاومة الفلسطينية... بل يقدمون مبادرات "سلام" يقول عنها قادة العدو بأنها لا تساوي ثمن الحبر الذي كُتبت به!
إلى متى يبقى الحال كذلك!؟ ففي زمن الثورات والتحولات آن أن يستثمر العرب في المقاومة، وألا يُعللوا عدم فعل ذلك بالانشغال بقضاياهم الداخلية، فإيران لم تمنعها حربها مع العراق ولا الحصار ولا المشكلات الداخلية من أن تستثمر "حزب الله"... فهل نرى قريباً استثماراً عربياً في المقاومة الفلسطينية؟ إذا كان الجواب نعم فسيكون مثمراً للفلسطيني وشقيقه العربي، فلو كنا فقط نريد الغذاء والدواء فبإمكاننا الحصول عليها من «تنوفا» و«كوبات حوليم» فقط مقابل أن نُخلي بين العبرانيين والعرب!
واقرأ أيضاً:
اتركوا غزة، وفكروا بالضفة الغربية / الجنود العرب في جيش إسرائيل / هل تنتقم حماس للجنود المصريين؟ / هل مزقت مصر الكوفية الفلسطينية؟! / مخدرات خاصة بقطاع غزة؟ / الفلسطينيون على طريق المصريين