خلال الفترة القصيرة الماضية مرت سلسلة من الأحداث الدامية والمؤلمة من حولنا وغدوت أتأمل ردود الأفعال هنا وهناك، وكان مما لفت انتباهي وجعلني أقف مذهولاً واجماً علامة تعجب كبيرة، لو كان بيدي أن أرسمها بطول برج القاهرة ليراها القاصي والداني لما ترددت فيذلك. إن ذلك الإنفصام الفكري الذي يعانيه بعض المتطرفين والمغالين يطرح تساؤلات كثيرة، فخلال كارثة الإعصار الذي ضرب مدينة نيويورك قبل بضعة أسابيع كان هناك من غلاة الإسلاميين من يشمتون في الكارثة فرحين بإهلاك الله للكفار الذين سبو النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أدري من أين لهم هذا الربط أو من طمأنهم وبشرهم بالجنة فظنوا أنفسهم في مأمن على أرائك الجنة يشمتون في أهل النار.
ليس من الإسلام الشماتة في ضحايا إعصار أو كارثة، فإنه وإن كان معلوماً أن مثل هذه الأحداث قد تكون عقوبة للقوم على فساد استشرى بينهم فإنها أيضاً قد تكون ابتلاء وامتحاناً لهم، وقد تكون لبعضهم بلاء ولبعضهم عقاباً وفي كلا حالين فإن من التراحم أن نواسي أهل الابتلاء لا أن نشمت فيهم وأن نمد لهم يد المساعدة، وأن تحزن قلوبنا على من عوقبوا حزناً على ما فاتهم من رحمة الله وإدراكاً أن جزءاً من ذلك الذي فاتهم إنما كان بتقصير من أهل الخير، وأن الواجب علينا بدلاً من الشماتة أخذ العبرة فإننا جميعاً عرضة لأن نكون في مثل ذلك الحال يوماً وما الزلازل مثلاً عنا ببعيد. فلا نزكي أنفسنا ولا نظن أننا قد ضمنا رحمة الله عجباً بقلة من خيرنأتيها من حين لآخر.
وعلى الجانب الآخر كنت ترى المتطرفين من التيار العلماني لم يترددوا في اصطياد أمثال هؤلاء تشهيراً بهم وتداعيا إلى الرحمة وإظهار التعاطف مع ضحايا الإعصار والتعريض بالإسلاميين وبقساوة قلوبهم إلى آخر تلك الأسطوانة التي يحفظها الجميع. وإلى هنا والموقف مفهوم ولكن الطريف وشر البلية ما يضحك أنه بعد أسبوعين فقط انقلبت الآية تماماً أثناء قصف العدو الصهيوني للإخوة والأشقاء في غزة، وتداعي الجميع لنصرتهم وإغاثتهم، فهؤلاء أنفسهم صرت تسمع منهم كل عبارات الغل والشماتة في أهل غزة!! حتى وصل الأمر بمقدم شهير لأحد البرامج على الفضائيات أن يضرب تعظيم سلام لإسرائيل على فعلتها ويقول لهم أنتم صح!!
دعني أفترض جدلاً أن من في غزة حكومة وشعباً ليس بيننا وبينهم مجرد خلاف فكري تتسع له صدور العقلاء، بل لنجعله خلافاً عقائدياً وثقافياً وأيدلوجياً ووو.... إلخ من كل أنواع الخلافات التي ما تبرح وسائل الإعلام تطربنا بنوع جديد منها يوم بعد آخر، ولنفرض حتى أن حجم هذا الخلاف أضعاف ما بيينا وبين "الإخوة والأشقاء الأمريكيين" بين قوسين، أو ليس هؤلاء المدنيون القتلى والجرحى في غزة بشر ينطبق عليهم نفس كلام ونفس المنطق والواقع!!
إن التعجب هنا هو كيف حكم كلا الطرفين المهاجمين الشامتين في كلا الموقفين وكيف انقلب إلى النقيض تماماً في الموقف الآخر دون مبرر مفهوم سوى حساب المصالح والأيدلوجيات. ولكل منهما يجب أن يقال أنه حين تكون الرحمة في القلوب خاضعة للمصالح والأيدلوجية فهي ليست رحمة بل شعارات تتاجرون بها. فلا أيدلوجية هؤلاء أو هؤلاء في صلبها النظري تقر مثل هذه الشماتة وانعدام الرحمة في القلوب، أو مثل هذه الرحمة الإنتقائية التي تخضع لحسابات السياسة والمادة. إن هؤلاء وهؤلاء يجمع بينهم أيدولوجية ثالثة تسمى في المصطلحات الفكرية الحديثة بالبراجمتية اللاأخلاقية أو الميكافيلية وفي المصطلحات الدينية تسمى النفاق.
ومع ذلك تظل علامة التعجب الأكبر التي تجعلني أقف مشدوهاً لم تكن أي من هذا كله، بل كانت كيف أصبح هؤلاء هم رموز المجتمع ونجومه!! وإذا كان هذا هو حال كبار القوم ورموزهم وملهميهم فكيف تكون حال قلوب عامة أفراده!! أخشى أن أعرف الإجابة أو أصرح بها ولكني أراها ماثلة ناطقة حولنا كل يوم وفي كل لحظة وفي كل مكان في تعاملتنا اليومية حتى صرت أصحو كل صباح وأنا أخشى أن ما يحول بيننا وبين مذابح كتلك التي شهدتها رواندا والبوسنة في التسعينات ليس إلا خيطاً رفيعاً قد ينقطع فجأة دون أن نشعر ونجد أنفسنا نغرق في بحور الدماء وأمواجها لأننا منذ البداية رفضنا أن نتعلم السباحة في أنهار الرحمة وسكونها نسأل الله اللطف بنا وأن لا يجعل بأسنا بيننا شديدا.
واقرأ أيضاً:
الإغلاق في العاشرة، بين المثالية والواقع / التطبيع مع الفساد / مفاتيح حل معضلة المرور / الرحمة والبديل الثالث