الثورات تسقط وتتوحل في أطيان العجز والضياع والتفسخ والاضمحلال وتلد حالة مضادة لها، في اللحظة التي تبدأ فيها باستخدام مفردات تبريرية وتسويغية لتفاعلاتها الاستنقاعية في حوض القنوط، وفقدان الرؤية والقدرة على الخطو إلى الأمام. ومن علامات هذا السلوك الانتحاري للثورة، أنها تبدأ بتداول مفردات مقرونة بما مضى وما انقضى، مثل (تراكمات)، (مخلفات)، (فلول) و(تركات) وتقرنها بالنظام السابق، فتمضي مقيدة ومخدرة بها وبغيرها من المفردات المرتبطة بها، والتي تعني التحرر من مسؤولية الحاضر والمستقبل، والتمسك بالذي مضى وتحويله إلى قميص عثمان، لتبرر به كل ما تعجز عن إصلاحه وإنجازه في الحياة.
هذه العقلية عندما تخيم على السلوك السياسي، تحطم أركان أية سلطة وحزب وثورة، مهما توهمت بأنها قوية وقادرة على صناعة التغيير والتعبير الأمثل عن رسالتها. وقد بدأت علائم ذلك التأسن الحضاري والتعفن السياسي تدب في بعض الثورات، التي لا زالت فتية وتتمرغ في ميادين طفولتها الثورية. وترانا نقرأ ونسمع المفردات المقرونة بالنظام السابق، وكأن هذه الشماعة ستبقى متنامية لتعليق أسباب الفشل والعجز عليها. فأخذنا نلاحظ المسؤولين والقادة يتحثون عن أن ما يجري اليوم، هو بسبب ما جرى قبل عقود وربما قرون وأكثر. وبأنهم لا ناقة لهم ولا جمل في ما يتحقق في الواقع الذي يتسلطون عليه.
وعندما نسألهم عن إنجازاتهم وخططهم وما قدموه للبلاد، لا تجد عندهم إلا أن الماضي منعهم بكل ما فيه وما عليه، وإنهم مشغولون بإزالة أنقاضه التي لا يمكنها أن تنتهي أبدا.
ومن المحزن أن المتغيرات التي حصلت في عدد من البلدان، لا تشير إلى قوة حضارية ثورية صاعدة على سكة الإيمان بالحاضر والمستقبل، وإنما إنحدارات متوشحة بمعطيات الماضي القريب والبعيد. وهذا يبرهن على أن ما سيأتي لن يكون أحسن من الذي كان أو مضى، وأن الثورات التي جاءت ضد الظلم والطغيان، سترفع راياته وتتلذذ بما يتوجب عليها القيام به من أجل تأكيد سطوته وسيادته المطلقة على أركان الوجود الوطني بأبعاده جميعا. ولا يمكن للثورات أن ترتقي إلى مستوى الثورة الإنسانية الحقيقية، إن لم تصنع رمزها الحضاري وتلد قدوتها المستوعبة لمعاني الثورة ومفاهيمها البنّاءة الواضحة الوهاجة.
4 /12 /2012
واقرأ ايضًا:
اليقظة الثورية / التدمير الثوري / الدفاعية الثورية / صورة ثورة...! / مرسي والكرسي / الجكم بالأزمات