لقد بدأت حملة رفض الدستور قبل بداية كتابته، فرفضت أول جمعية تأسيسية لوضع مشروع الدستور بحجة إنها غير متوازنة وأعيد تشكيلها، وكلما نوقش أمر يخالف رأي البعض انسحب أو هدد بالانسحاب. ولم يقتصر الأمر على الجمعية التأسيسية بل امتد ليشمل مجلس الشعب، ولأن البعض من الفلول وغير الفلول لم يوفق في الانتخابات، توحدوا سعيا لحل ذلك المجلس الذي شهد الجميع بنزاهة انتخابه.
إن تشكيل الجمعية التأسيسية في بادئ الأمر كان يتضمن٧٥ ٪ إسلاميين والباقي ليبراليين، ثم وصل الأمر إلى ٥٣ ٪ إسلاميين و٤٧٪ ليبراليين، ثم تنازل حزب البناء والتنمية المنتمي للجماعة الاسلامية عن مقعدين لتصل النسبة إلى ٥١٪ إسلاميين و٤٩٪ ليبراليين وتم الضغط على الحرية والعدالة وتنازل عن مقعد لتصل النسبة إلى ٥٠٪ -٥٠٪ وتم هذا الاتفاق وتمت كتابة أسماء المشتركين في التأسيسية وأسماء الاحتياطيين كذلك، ويقولون أنه لم يتم التوافق على التأسيسية...!
إن ما يجمع هؤلاء هو الكراهية والمصالح الشخصية، كراهية الإخوان أجتمعت مع كراهية الثورة، والإجتماع على الكراهية لا يبني ولكنه يهدم كل شيء.
وتشتد حملة الكراهية لتصل إلى التزييف، حيث يحاول كارهو الدستور إقناع الآخرين أن ذلك الدستور مدمر سوف يقضي على مصر، ولأن الغالبية لا تقرأ فسوف يستسلم قطاع منهم لتلك الحملة. أما من يقرأ فهناك طريق آخر، إغراق أجهزة الإعلام المقروءة والمرأية والمسموعة والبديلة بمسودات قديمة طرحت للمناقشة ولم تقر بل وبنسخ مزيفة أيضا.
إني أتفهم هواجس البعض الناتجة عن عدم الثقة في الإخوان، وفقدان الثقة هو نتاج طبيعي لما عشناه سنوات طوال. إلا أن عدم الثقة في الإخوان والنظام بدأت تتحول إلى فقدان الثقة بالنفس، تلك الثقة التي استعادتها ثورة 25 يناير.
إلا أنه في أمر إعادة بناء الدولة يجب أن نبحث عن عوامل البناء ونقويها ونبحث عن عوامل الهدم ونقودها، والأمر فيما يخص الدستور واضح، فعلينا أن ندقق هل يحقق هذا الدستور ما قامت ثورة 25 يناير من أجله؟ من التأكيد على الحريات العامة، والمساواة المطلقة، وترسيخ قواعد الديمقراطية وتبادل السلطة؟
إن حقق ذلك فإنه دستور أستطيع أن أتعايش معه لنبدأ مرحلة بناء مصر الجديدة، وقد حاولت في المقال السابق تحليل الدستور "لنقرأ الدستور ثم نقرر"
يجب في البداية الإشارة لعدة أمور هامة تتعلق بكينونة الدساتير، فالدساتير لها دور هام في حياة الشعوب، ولعلنا نتفق على أن:
- الدستور هو كتاب مقدس ينظم العلاقة داخل المجتمع ويمثل عقد إجتماعي لما يقبله ويستسيغه المواطنيين من أبناء هذا الوطن الحاليين، وذلك ورغم كونه كتاب مقدس لكنه قابل للتعديل كلما رأى المواطنون ذلك.
- والدستور هو كتاب مرهون بالزمان والمكان، فما يصلح لدولة قد لا يصلح للأخرة، وما يصلح لعصر لا يصلح للآخر.
- الدستور ليس القانون، فلا يكتب كل الدقائق به، وكل الدساتير تشير إلا أن القوانين تكملها.
- الدستور قد يحتاج لتفسير، ولذا تضمنت كل الدساتير نصوص تنظم المحكمة الدستورية
- للديباجة دلالة هامة لا يلتفت لها الكثير، فيلجئ لها للتفسير في حال الإختلاف في مقصود المشرع. وهي سند للحكم بدستورية القوانين من عدمه. (أول صفحتين في الدستور هما أعظم ما فيه)
- الدستور أداة وليس هدفا، ولذا كان من المهم ارتباطه بالممارسة الديمقراطية
- الدستور له دور هام في الحفاظ على السلم الاجتماعي داخل المجتمع، ولذا يجب ألا يتخطى قدرات الاستيعاب لدى كافة فصائل المجتمع
وسأحاول هنا استعراض وتفنيد بعض النقد الذي يوجه للدستور عن رأي أو عن طريق الدس ببعض الأمور غير الواردة بالدستور أصلا، وحتى تكون الأمور واضحة أدعو الجميع لقراءة مشروع الدستور من النسخة الوحيدة الصحيحة والمعروضة للاستفتاء من موقع الجمعية التأسيسية لوضع مشروع الدستور وسماعه لمن لا وقت لديه للقراءة:
عندما سألت صدبقا ما هو النص الذي ترفضه في الدستور؟ أخرج لي قائمة مليئة بالأكاذيب والدليل على أنها لا علاقة لها بالدستور الذي دعي الشعب للاستفتاء عليه أنه يستخدم اسم "مجلس الشعب" و"مجلس الشيوخ" وقد سماهما الدستور "مجلس النواب" و"مجلس الشورى"
ولنستعرض هنا بعض الأكاذيب وبعض المخاوف:
- لا يوجد في المسودة ما ينص على تعيين نائب للرئيس وقد كان مطلب ثوريا، غالبية النظم الرئاسية في العالم لا يوجد بها منصب نائب للرئيس، وتنص الماده 153 أنه إذا قام مانع مؤقت يحول دون مباشرة رئيس الجمهورية لسلطاته حل محله رئيس مجلس الوزراء.
- مسموح لمزدوجي الجنسية الترشح للرئاسة، مغالطة فالمادة 134 تنص على ألا يكون قد حمل جنسية دولة أخرى
- مسموح لمزدوجي الجنسية الترشح للرئاسة، مغالطة فالمادة 134 تنص على ألا يكون قد حمل جنسية دولة أخرى
- من حق الرئيس تعيين كل رؤساء الأجهزة الرقابية والتي من واجبها الرقابة على أعمال الحكومة والرئيس، معلومة منقوصة فالمادة 202 تنص على أن ذلك يكون بعد موافقة مجلس الشورى.
- الرئيس له حصانة برلمانية مدى الحياة لعضويته في مجلس الشيوخ ولا توجد طريقة لمحاكمته الا التلبس، هذه مغالطة كبيرة فهذه المادة لا وجود لها، بل أن المادة 152 تنظم محاكمة رئيس الجمهورية
- من حق الرئيس تعيين الضباط العسكريين وعزلهم دون وضع قيد، هذا أمر طبيعي لأنه من أعمال السيادة ونصت المادة 147 أن ذلك على النحو الذي ينظمه القانون
- يكلف الرئيس رئيس الوزراء تشكيل الوزارة دون وضع معايير لاختيار رئيس الوزراء، نصت المادة 156 على معايير لاختيار رئيس الوزراء ، ونصت المادة 139 على ضرورة موافقة مجلس النواب عليه.
- من حق الرئيس إعلان حالة الطوارئ بعد موافقة مجلس الوزراء ثم يعرض على البرلمان وليس العكس، نصت المادة 148 على ضرورة موافقة مجلس النواب عليه خلال الأيام السبعة التالية، وباقي المادة تنص على:
يعلن رئيس الجمهورية، بعد أخذ رأي الحكومة، حالة الطوارئ؛ على النحو الذي ينظمه القانون؛ ويجب عرض هذا الإعلان على مجلس النواب خال الأيام السبعة التالية، وإذا حدث الإعلان في غير دور الانعقاد وجبت دعوة المجلس للانعقاد فورا للعرض عليه، وفي حالة حل المجلس يعرض الأمر على مجلس الشورى؛ وذلك كله بمراعاة المدة المنصوص عليها في الفقرة السابقة. وتجب موافقة أغلبية عدد أعضاء كل من المجلسين على إعلان حالة الطوارئ، ويكون إعلانها لمدة محددة لا تتجاوز ستة أشهر، لا تمد إلا لمدة أخرى مماثلة بعد موافقة الشعب في استفتاء عام ولا يجوز حل مجلس النواب أثناء سريان حالة الطوارئ
- من حق الرئيس حل مجلس الشعب في حالة اعتراض البرلمان على تشكيل الحكومة مرتين متتاليتين دون قيود، نصت المادة 139 على الحل إذا فشل مجلس النواب في تسمية رئيس لمجلس الوزراء وهو أمر طبيعي ومعمول به في كل العالم.
- تدرج جميع نفقات رئاسة الجمهورية والأجهزة الرقابية التابعة لها للميزانية العامة للدولة وتخضع لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات التابع للرئاسة وهو جهاز للإحصاء فقط وليس للمحاسبة، المادة 205 تنص على أن يتولى الجهاز المركزي للمحاسبات الرقابة على أموال الدولة، والرقابة ليست الإحصاء.
- يعين الرئيس ١/٤ أعضاء مجلس الشيوخ والذي من صلاحياته إمكانية الاعتراض وتعطيل أي قانون صادر عن مجلس الشعب، نصت المادة 128 أنه يجوز لرئيس الجمهورية أن يعين عددا لا يزيد على 1\10 عُشر عدد الأعضاء المنتخبين، ولا يعين أحد لمجلس النواب
- حق الرئيس أن يختار قضاة المحكمة الدستورية المسئولة عن محاسبة الرئيس شخصياً والحكومة والبرلمان عن عدم دستورية أي قانون يتم اصداره، تنص المادة 176 على أن يصدر بتعيينهم قرار من رئيس الجمهورية وإصدار القرار ليس التعيين.
- لا ذكر لاستقلال الهيئات القضائية أو الطب الشرعي وقد كان مطلبا شعبيا، المادة 168 تنص على أن السلطة القضائية مستقلة
- تقليص دور الجهاز المركزي للمحاسبات لمراقبة الأموال العامة فقط وليس الخاصة وتلك كارثة، المادة 205 ودوره لم يتغير.
- إلغاء الإشراف القضائي الكامل على الانتخابات وإسنادها إلى مفوضية مع عدم وجود معايير لاختيار أعضاء المفوضية مادة (210)، هي المواد من 208 إلى 211 وهو أمر معمول به في غالب الدول، ولحماية العملية الانتخابية نصت المادة 210 على أن تسند المفوضية الإشراف للسلطة القضائية والهيئات القضائية لمدة عشر سنوات على الأقل من تاريخ العمل بالدستور.
- الاقتراع والفرز سيقوم به تابعون للمفوضية ولا توجد آليات محددة لاختيار هؤلاء التابعين ولا تحديد من يقوم بالاختيار، هي المواد من 208 إلى 211 وهو أمر معمول به في غالب الدول، ولحماية العملية الانتخابية.
- لم يتم ذكر من يعين محافظ البنك المركزي ولم ينص على تقديم تقرير العمل لمجلس النواب، لا مفاضلة ولا سابقة في ذلك
- لا يجوز تغيير مواد الدستور قبل عشر سنوات مادة (220)، لا وجود لهذه المادة
- أين مادة حظر بيع اراضي سيناء، لم يكن هناك محددة لذلك، ولماذا سيناء وليس الصحراء الغربية مثلا، والمادة 18 تنص على أن الثروات الطبيعية للدولة ملك الشعب......
- أين مادة حظر تأجير قناة السويس، لم يكن هناك محددة لذلك، ولماذا تأجير قناة السويس وليس الهرم مثلا، والمادة 18 تنص عل أن الثروات الطبيعية للدولة ملك الشعب......
- أين مادة حظر زواج الأطفال، لا يوجد دستور يتحدث عن سن الزواج، هذه الأمور تحددها القوانين.
- لمذا نصت المادة 234على أن يسري الحكم الخاص باستئناف الأحكام الصادرة في الجنايات المنصوص عليها في الفقرة الثالثة من المادة 77 من الدستور بعد سنة من تاريخ العمل به؟
وجود هذه المادة 234 تحت الفصل الثالث: أحكام انتقالية يجعل المقصود منها عدم وجود فراغ قانوي، نظرا لأن التشريع الخاص الفقرة الثالثة من المادة 77 "وينظم القانون استئناف الأحكام الصادرة في جنحة أو جناية" لا يمكن أن يكتمل في وقت قصير.
- الغني والفقير هيدفعوا زي بعض نفس الضرايب، المادة 26 تقول "العدالة الاجتماعية أساس الضرائب وغيرها من التكاليف المالية العامة" والمادة 14 تتحدث كذلك عن "العدالة الاجتماعية"
- المادة ٢١٩ تكرث الطائفية، تم إضافة هذه المادة لتتفق مع حكم سابق للمحكمة الدستورية، فهي تثبيت لذلك الحكم من الدستورية عندما سئلت سابقا عن ماهية مبادئ الشريعة الإسلامية، وما العيب في ذلك وهي قناعة غالبية المسلمين المصريين ويؤخذ به في أحكام الأحوال الشخصية للمسلمين فقط ولا تأثير لها على أية أمور أخرى أو على غير المسلمين.
- لا توجد حرية لإنشاء النقابات، تنص المادة (54) على أن القانون ينظم النقابات المهنية، وإدارتها على أساس ديمقراطي، وتحديد مواردها، وطريقة مساءلة أعضائها عن سلوكهم في ممارسة نشاطهم المهني وفق مواثيق شرف أخلاقية. ولا تنشأ لتنظيم المهنة سوى نقابة مهنية واحدة. ولا يجوز للسلطات حل مجلس إدارتها إلا بحكم قضائي، ولا تفرض عليها
- الدستور يسمح بمحاكمة المدنين أمام القضاء العسكري، لقد فهم ذلك خطأ، من المادة 198 "لا يجوز محاكمة مدني أمام القضاء العسكري إلا في الجرائم التي تضر بالقوات المسلحة؛ ويحدد القانون تلك الجرائم"، ومن سيضع القانون هومجلس النواب (مجلس مدني منتخب)
أعتقد أن هذه المادة إيجابية لعدة لأسباب:
- لا يجوز محاكمة مدني أمام القضاء العسكري إلا في الجرائم التي تضر بالقوات المسلحة
- يحدد القانون (المدني) تلك الجرائم
- يحدد القانون (المدني) اختصاصات القضاء العسكري الأخرى.
- أعضاء القضاء العسكري مستقلون، غير قابلين للعزل، فلا سلطة لقيادات القوات المسلحة عليهم.
- الرعاية صحية لغير القادرين فقط، إن كانت المادة 62 تضمن رعاية صحية لغير القادرين، فهذا تقدم كبير، الأن لا يوجد أي نوع من الرعاية في مصر الأن، وبهذه المادة تضمن الرعاية صحية لغير القادرين وهم قطاع كبير ويحتاج لها.
- أول دستور يجرم بنص دستوري، بعض المواد الدستور، خاصة في باب الحريات وعزل الفلول، بها نصوص تحدد جرائم لا تسقط، ومقولة نص دستوري تعود على نص التجريم.
- لا توجد حرية لإنشاء الجمعيات الأهلية والأحزاب، المادة 51 تنص على: للمواطنين حق تكوين الجمعيات والمؤسسات الأهلية والأحزاب بمجرد الإخطار، وتمارس نشاطها بحرية، وتكون لها الشخصية الاعتبارية ولا يجوز للسلطات حلها أو حل هيئاتها الإدارية إلا بحكم قضائي؛ وذلك على النحو المبين بالقانون
- لم يتضن الدستور نظام لمراقبة الجمعيات لإعطاء الحرية لجماعة الاخوان المسلمين، الدستور ينظم عمل الجمعيات الأهلية، وبناء على ذلك من المتوقع أن يصدر البرلمان حين انتخابه قانون يلزم جميع الجمعيات والمؤسسات الأهلية والأحزاب بتقديم إقرار مالي سنوي، وهذا من الأسباب التي تجعل البعض (جمعيات وهيئات كبيرة) تعمل جاهدة لتعطيل عملية التحول للحياة الديمقراطية.
- حرية الإبداع مقيدة بالقوانون فهي غير مطلقة، حرية الإبداع بأشكاله المختلفة حق لكل مواطن (مادة 46)، وبخصوص "الدستور دائما طبقا لم يحدده القانون" هذا أمر طبيعي ولذلك فالمواطن ينتخب المشرع الذي يضع القوانين "البرلمان" وفي حالنا "مجلس النواب"، ولا يوجد حق مطلق لا ينظمه القانون.
إن المستفيد الوحيد من عدم إقرار هذا الدستور هو المفسد المخلوع مبارك وخطاياه الباقية على الساحة. وسوف تُنفق الملايين لتعطيل الدستور وسوف تُنفق الملايين لرفضه لأنه لم يحقق مطامع الطامعين وهي:
- إعادة انتخاب رئيس الجمهورية عقب إقرار الدستور، وهذا أمر يعارض الرغبة في الاستقرار.
- النص على عزل قيادات الحزب الوطني لمدة عشر سنوات، ولهذا وللأسف نرى بقايا النظام السابق تملئ ميدان أعلام وشوارع مصر.
فهل نقبله دستورا لنا عن ثقة أن أبنائنا لهم أن يعدلوه كما يشاءون، أم نرفضه ونعيش دوامة لا مخرج منها إلا عودة نظام المخلوع.
واقرأ أيضاً: