يجلسون متفرقين في صالة الشقَّة أمام التلفاز، يراقبون -وقد انتفخت كروشهم- أقدام اللاعبين اللاهثة وهي تذرع أرض الملعب! فتحوا أفواههم في استغراق تام وبلاهة متكاملة الأركان! لا يتململون من مواضعهم قيد أنملة إلا بقدر حركات اللاعبين التي يهتزون معها اهتزازت مغناطيسيَّة عصبيَّة بلا إرادة!!
لا يكادون يغلقون أفواههم لحظة واحدة عن التعليق على الأحداث؛ رغم أنهم جميعًا غارقون في مشاهدة متبتلة! يضربون أفخاذهم بشدَّة مؤلمة وهم يسبون "فلان" لأنَّه لم يُحسن التمرير أو صدَّ الكرة! أو يسبِّحون بحمد "علان" الذي لولاه لقضينا ليلتنا في ضجر وسآمة! ويطلقون صرخات يمكنها تحرير القدس بالرعب لفرص ضائعة!
بينما هم كذلك إذ انتفض أحدهم خارجًا من حالة "الربط" التي وقعوا فيها؛ استجابة لنداء البرية في صنع كوب من الشاي، استجداه الجميع في سرعة وهم يبتسمون في بلاهة الظافر باللاشيء: اعمل لنا شاي معاك!!
انتهوا جميعًا من المباراة ومعها كوب الشاي "السهل الممتنع"؛ فجلسوا يشاهدون متخصِّصًا في تحليل المباريات! يشاركونه في التعليق على ذات الأحداث التي علقوا عليها منذ قليل! ماذا فعل "فلان"، وماذا كان يجب أن يفعل "علان"! ولو أن "فلان" فعل، ولو أن "علان" لم يفعل!
أكواب الشاي متفرِّقة سكرى في مواضعها بما فيها من بقايا وقد تجمع حولها الذباب؛ كجرحى أنهكهم ليل طويل من قتال مستعر ذبًّا عن أعراض غافلة كانت قد أوشكت أن تستباح! وقد تجمعت حولهم الجوارح تقتطع أنصبتها في صمت، بينما لمتكلِّف الأعراض الغافلة نفسها عناء التفاتة إليهم بعد انتهاء المعركة!
فاجأهم مَن صنع الشاي ضَجِرًا: لِمِ لمْ تغسلوا الأكواب؟!
فتحوا أفواههم في تصنُّع للمفاجأة، ودارت أعينهم يبحثون فيما بينهم عن أُضحية تكفيهم مؤنة أداء المهمة الشاقَّة.
يشرخ الصمتَ الحادث بينهم فجأة أصواتٌ قادمة من التلفاز، تنوح، تضرب الطاولة أمامها في شدَّة مؤلمة! تصرخ صرخات تكاد تزلزل يهود الأرض المغصوبة إن لم تنشق قبل ذلك حناجرها!
- كان يجب على الرئيس أن يفعل "كذا"، كان يجب على "جماعته" أن لا تفعل "كذا"! لو أنه فعل "كذا" لكنا صفقنا له جميعًا، لو أنها لم تفعل "كذا" لما اضطررنا لقضاء ليلتنا في بكاء ونواح!
يجفُّ الريق فتمتدُّ الأيدي بين الفينة والأخرى لتلتقم أكوابًا لا يُدرى محتواها؛ ترتشف منها رشفات مسرعة وقد انقبضت الوجوه؛ ندمًا على تلك الثواني الضائعة التي اقتطعها نداء البرية من لحظاتهم الصارخة!
في نهاية اللقاء خفتت الإضاءة، وانفض الجميع تاركين الأكواب في مواضعها؛ اجتمع الذباب من حولها، تكاثرَ! انقضت دورة حياته! بينما لا زالت الجوارح تقتطع أنصبتها في صمت، والأعراض الغافلة تأبي أن تكلِّف نفسها عناء الالتفات ناحية الجرحى!
واقرأ أيضاً:
شخير في غرفة مجاورة / الضيف / و. م. و. ز / قطار آخر الليل / قش الأرز / طفولة مذعورة / احتياجات خاصة / القَدَرُ المسكوب / كان جدي.. وكان / بدر / عائد إلى الأرض