بعد حماس المؤسسين لعلم النفس وعلم الطب النفسي الحديثين وخاصة فرويد (1856 – 1939) جاء الهدوء والمراجعة لتظهر حركة نقد ثم حركة مضادة تناقش سلبيات العلمين الوليدين، بدءا من ستينيات القرن العشرين. بزعامة ميشيل فوكو (1926 – 1984) وهو فيلسوف ومؤرخ وعالم اجتماع، ولانج (1927 – 1989) وهو عالم طب نفسي وعقلي، وتوماس اساز (1920- ) وهو عالم طب نفسي وعقلي، وفرانكو بساجليا (1924 – 1980) وهو عالم طب نفسي وعقلي، ودافيد كوبر (1931 – 1986) وهو عالم طب نفسي وعقلي والذي وضع مصطلح "مضاد- الطب النفسي والعقلي" (Anti-psychiatry).
لكن في السلم التاريخي يسبق الأدب ليسجل تغيرات المجتمع ثم يأتي التحليل النفسي، ولهذا ظهر أميل زولا (1840 – 1902) قبيل فرويد مصورا ما حدث أثناء مخاض الثورة الصناعية.
أوربا تغيرت بسرعة فائقة عقب خروجها من العصر الوسيط لتتخلص من الحجر السلفي والذي أخفق في أوربا، رغم ميل الكنيسة لعقل بدائي مفعم بالأشباح والخرافات مرجعه قبائل الجرمان والسلت وبقايا الرومان. وجاء زولا ليصور نتائج الثورة الصناعية وما تبعها من تغيرات اجتماعية، صور العنف والسكر والعهر والعربدة وسائر ما صاحب الثورة الصناعية ليس بهدف التطهر منها؛ وإنما بقصد تقرير ووصف وضع غير وسيغير عيش البشر إلى الأبد. زولا من البداية في سن الثامنة والعشرين من عمره فكر في تصميم كامل لسلسلته الروائية، بهدف تتبع الآثار "البيئية" التي أثرت في فرنسا في عصر الإمبراطورية الثانية وتأثيرات انتشار العنف وشرب الكحوليات والبغاء التي أصبحت أكثر انتشارا خلال الموجة الثانية من الثورة الصناعية. هذه السلسلة الروائية تتبعت فرعين من عائلة واحدة: المحترمون (أو الشرعيون) Rougons والسيئو السمعة (غير الشرعيين) Macquarts، على مدى خمسة أجيال.
وصف زولا سلسلته بقوله "أريد أن أصور في بداية عهد الحرية وتلمس الحقيقة عائلة لا يمكنها أن تمارس ضبط النفس في اندفاعها الطبيعي لامتلاك كل الأشياء الجيدة التي يتيحها لها التقدم، فتخرج عن مسارها بسبب زخم الحياة حولها والانقباضات القاتلة التي ترافق ولادة نظام عالمي جديد". زولا كان واعيا أن ثمة تقدم يحدث وثمة حضارة جديدة تولد، لكن نحن حين صورنا أدبيا تأثير تلك الحضارة الوليدة علينا وعيناها كفرا ومجرد فسق ومجون بلا طائل فتغافلنا عن الشق الحقيقي الإيجابي العلمي من النضال الحضاري الجديد من أجل حياة ظنناها أفضل؛ إذ كانت لدينا حياتنا آلافضل تتمثل في العيش البدوي المغلف بعيش فلاحي يحتضر وعقل ريفي مجهد.
يوجد فرق حقيقي بين احتشاد الفلاحين لدعم الجسر حول بيوتهم خشية الفيضان، وحشدهم سخرة لمد خطوط السكك الحديدية أو حفر قناة السويس أو حشد محمد علي لهم في معسكرات الجيش ونسائهم تتشرد وتأوي بجوار المعسكرات بأطفالهن أو حشد عبد الناصر لهم بخدعة الوطنية الساذجة المروج لها بإسماعيل ياسين ليذهبوا إلى نحو اليمن كما اتجه بهم محمد علي إلى نحو القرم. مقاومة الفيضان كانت فعلا حضاريا نابعا من الحضارة الزراعية الأصيلة التي ابتدعها المصريون القدماء وابتكروا لها مظاهر وهياكل وبنايات ما زالت حتى اليوم تتحدى كلا من العلم والفن؛ وخصوصية وداعة ومسالمة مصر القديمة تمثلت في إفشائها النظام والتناسق ووعيها ما فيهما من الفن في كل أرجاء مصر الذي كان وانقرض الآن لنواجه مجرد عيش على هامش الفن الحضاري القديم كمجرد حراس جهلاء مقموعة ومقهورة مجهدة. فلا يجب أن نأتي اليوم ونصور حشودا قمعية على أنها حشود حضارية من أي نوع.
إنجاز السد العالي الذي يحسب لعبد الناصر هو إنهاء لحضارة زراعية سادت آلاف السنين، وما عدا ذلك من عبد الناصر كانت محاولات فاشلة لصنع مستقبل علمي للشعب، لأنه لم يفطن أنه إنما يسرق نار إبداع حضاري من الغرب لن يدعه بحال يختلسها إلا بمهرها من مشاركة ونضال علمي حقيقي وعته مثل اليابان، بينما زاغ عنه عبد الناصر حين تورط متعرقلا في دوائره الثلاثة (آلافريقية والعربية والإسلامية) ومحاولة استقطاب جيرة البداوة أو الخضوع لترويضهم وتوريطهم إياه لصالح وهم القومية العربية، وفشل مواجهة مأزق اليهود إذ رجعوا مسلحين بالعلم مقابل بدو مسلحين بحكي بدوي لا غير.
نجيب محفوظ تأثر بزولا، لكن مشكلته كمنت في معالجته وضعا كان ما زال فجا لم ينضج بعد، فصار يستقي مرجعيته في الوعي من أوربا ويلبسها شخصيات محلية؛ تماما شأننا اليوم حين ينغمس الفنانون المصريون خفية في مشاهدة كل صور الفنون الغربية فيتأثرون بالتيمات واللفتات العارية، لكنهم يعرضونها لنا من وراء حجاب فلا تصل الرؤية وتتشوه صورهم وتتشتت صورنا؛ ولا أفهم كيف يؤزر رئيس جمهورية، يميني متحفظ ومحافظ، فنانا سرياليا للثقافة في بلد تعج بالحجز والحجر على العقول والأبدان.
العالم القديم انتهى بالعصر الوسيط. العصر الوسيط استغرق نحو ألف عام، من القرن الخامس حتى القرن الخامس عشر. عقب العصر الوسيط دخلت منطقتنا في غيبوبة الصراعات السياسية الداخلية لتنهار مع انهيار تركيا الرجل المريض. ووقت أن كنا فريسة الصراع والاحتضار والانهيار في منطقتنا، كانت أوربا تخرج من شرنقة عزلتها وحصارها الذي كان العرب والترك قد فرضاه عليها بسبب احتكارات التوابل والمواد النفيسة مثل الذهب والفضة. نحن هنا في مصر مضينا نتقلب على جمر الدول الإقليمية ثم المماليك ثم العثمانيين بعيدا عن الاحتكاك بأوربا حتى عادت هي من تلقاء نفسها لتحتك بنا بدءا بحملة نابليون بونابرت عام 1798 وتجرنا جرا للوعي بما يحدث عبر البحر الأبيض المتوسط خاصة في باريس ولندن.
ثم جاء جورج أورويل (1903 – 1950) مشككا في سلامة عقل النخب السياسية التي حاولت الاستفادة السريعة المتعجلة من ثمار تمخضت عنها الثورة الصناعية، ولوت مسيرة علم النفس والطب النفسي وسخرتهما لقهر وقمع الناس؛ وشأن السلطة دائما فهي أول من يستفيد بمنجزات العلم لقهر الناس.
أورويل رغم أنه كاتب روائي فقد تمكن من نقد الاستغلال السييء لعلم وطب النفس والعقل. قدم نقده في رواية مزرعة الحيوانات (طبعت عام 1945) ورواية 1984 (طبعت عام 1949)، نقد فيهما استغلال المعرفة والثقافة المتراكمة لعلم وطب النفس والعقل في قهر وقمع وإخضاع الخصوم والشعوب؛ ورغم أن أورويل كان اشتراكيا ديمقراطيا وانتمى إلى حزب العمال البريطاني المستقل عدة سنوات إلا أنه نقد سلبيات الاشتراكية والشيوعية بسبب ما وعاه من أذى وعدم مبالاة وجهل وجشع وقصر نظر. وهي سلبيات توجد الآن في التجربة المصرية الرأسمالية، فالفساد واحد أيا كان مذاقه. رأى أورويل أن المجتمع المقموع المقهور يتربع على قمة هرمه الدكتاتور أو كما سماه الأخ الكبير ثم تأتي النخبة الموالية بنسبة 2% من جمهور المجتمع ثم الطبقة الوسطى المستفيدة من النظام والحامية له بتمترسها معه ضد الطبقة العاملة والتي تأتي في أسفل الهرم الاجتماعي وتمثل 85% من ناس المجتمع، وهم البروليتاريا المقموعة كليا.
لدى جورج أورويل نجد:
1- النخبة (قيادة الحزب)
2- الطبقة الوسطى (دعم الحزب وفرشته الشعبية)
3- البروليتاريا
الوزارة شملت:
1- وزارة السلام وتختص بالحرب
2- وزارة الوفرة وتسعى زورا لرفع مستوى المعيشة بينما هي في الحقيقة تنقص الطعام وتقلل توفره وإنتاجه
3- وزارة الصدق حيث تتحكم في الأخبار والترفيه والفنون وتدعي أن الحقيقة هي ما يصدر عنها
4- وزارة الحب ومهمتها مراقبة الناس واعتقالهم وإعادة المنشق سواء كان منشقا بالفعل أو لمجرد تخيل الوزارة.
وهنا لابد من الحديث عن نظام المجتمع المصري القديم، والذي لابد من وضعه في اعتبارنا إذا نشدنا مرجعيات صادقة لمجتمعنا غير عشوائيات وترهل نظام البداوة. فنحن مهما طرأ علينا من نظم بداوة نعيش في ظل حضارة زراعية. وهرمية النظام الزراعي اقتضاه ضرورة المركزية الشاملة للتمكن من إدارة شبكة ري حيضان السهل الفيضي عبر كل الوادي والدلتا. الإدارة المركزية الشاملة خلاف الإدارة الشمولية القامعة. اليوم في ظل فكر سياسي مستقى من الغرب يحتوي على نظم قامعة استفادت بسياسات الشيوعية الشمولية والدكتاتورية الرأسمالية، يحاول ساستنا المصريون المعاصرين إيهامنا أن نظام حكمهم لنا يرجع (أي له مرجعية) إلى آلاف السنين خلت، ويتلاعبون بأسماء مثل البيروقراطية العتيدة والإدارة المركزية الشاملة.
بينما لا يلتفتون إلى وجود قطيعة سياسية في حكم البلاد عبر آلاف السنين، وإن وجد سيال مستمر من الحفريات الأنثروبولوجية المعاشة بين الناس بحكم تواجدهم فوق ذات المكان وذات نظام ري الحياض الذي كان وانتهى بظهور السد العالي والري الدائم (1971)؛ ولا بد لنا من إعادة وعي نظامنا السياسي وكونه محاولة متخلفة للسيطرة علينا من خلال تبنيه سلة أنظمة قامعة مصدرها الغرب السياسي والتي هو نفسه (الغرب) اليوم يعارضها ويتظاهر ضدها . المجتمع المصري اليوم ليس بحال مجتمع فرعون والكهنة والكتبة الإداريين والفلاحين، وإنما هو مجتمع مجهد في طور جديد من التكون والتبلور ولا أدري أي نوع من الكائنات الاجتماعية سيظهر من شرنقة الخلق هذه.
حضارة زراعية كانت ويلزم انقراضها من وعي المصري اليوم ليحيلها إلى المتحف المصري الحضاري الكبير. لقد عشت جيل رواد النهضة الفقراء، كنا نسعد ونحن ندفع ملاليم لشراء كتبهم المطبوعة على ورق رخيص محدود الصفحات؛ وكانت الفاقة التي جمعتنا واياهم تلزمهم بالقصد في الإسهاب مما جعلهم يعانون لبلورة أفكارهم بحيث تشغل أقل حيز فوق الورق. وربما كان آخر من عانى من ذلك هو نجيب محفوظ والذي اعتذر له السحار أن يطبع ثلاثيته لطولها قبل أن يتلقفه الضابط يوسف السباعي ويطبعها له على حلقات، لينشئ منهجا جديدا تبنته سياسة الضباط الأحرار وهو منهج شراء المثقفين، مما قضى نهائيا على رومانسية جيل الرواد، وصار من أصر على الاقتداء بهم وحمل مثلهم أضابيره تحت إبطه ليختال بها أمام مطابع شارع الفجالة وشارع محمد علي، مجرد هاو تجاوزه الزمن أو مختل تجاوزه الناس.
ثم جاءت طامة أخرى أشد حين لعب مال الخليج بأفئدة الناس، واشتم المثقفون عبر الرياح الحارة القادمة من الشرق فائدة الالتحاق بطلاب الجوائز؛ وأخص سلسلة "عالم المعرفة" الكويتية التي بهرت الكثيرين، كتابا وقراءا. هرع الكتاب لاقتناص المال حريصين على تنفيذ بنود السلسلة وأفعموا أضابيرهم بنصوص مرجعية لاحصر لها وتحليلات مطولة، مما جعل الكتاب شديد العمومية شديد الدسامة عسير الفهم وإن أمكن التباهي بحمله وامتلاكه، وحرصت يوما ما أن أخصص بعض رفوف مكتبتي أضع فوقها كتب عالم المعرفة، حتى تبينت استحالة خروجي منها بوعي حقيقي لما أنشده، بسبب المعرفة الموسوعية العقيمة والتي ظهر لي هدفها الحقيقي في صورة الحصول على مال وليس بث شجون وطن وتلمس طموحات ناس تنشد المستقبل.
وقد وعى هذه الحقيقة قلة من المثقفين فأعرضوا عن الجري وراء مال الخليج، وتجاسروا لمنافحة السلطة الحاكمة والتي هي المسلك الطبيعي لريادة النهضة. جيل الرواد الأوائل تاريخهم الشخصي مفعم بمنافحة السلطة. ولقد فرحت السلطة يوما وهي ترقب مثقفيها وقد غرهم مال الخليج فانشغلوا عن مناوشاتهم معها بهرولتهم لنوال الريال والدينار؛ لكنها فرحة لم تتم فقد عاد إليها مثقفوها يناوشون. على المثقف اليوم الاختيار بين ذهب الخليج وسيف السلطة. بل بين حلم ذهب عموم الخارج عبر الهجرة ونحوها وبين واقع مناوءة السلطة القامعة.
عيش البداوة حيث الفيصل هو حاجة الماشية لبراح غير محدود من الأرض للرعي؛ وحيث تخيم كل قبيلة بعيدا على مدى الشوف من الأخرى، لضان عدم جرح حمى بعضها البعض، وقد عشت سنوات في الصحراء الكبرى بليبيا ووعيت بألفة كاملة هذه الظاهرة. بعكس عيش الفلاحين؛ حيث لابد من تزاحم الناس لحاجة الزراعة والري، وهنا يستبدل بعازل المكان بسرية مغشوشة، إذ هي مفضوحة بالضرورة، ففي القرية والعزبة والنجع كل فرد، رجل أو امرأة بل وطفل، يعرف كل شيء عن الآخر بحيث يمشي ليس حيث تسوقه قدميه وإنما حسب نمنمات معرفته لأسرار ناسه، مدركا كيف يسلك وفقا لهذه المعرفة.
كلا النمطين؛ البدوي والفلاحي خارج الحداثة بالضرورة. الحداثة ناتج النمط الصناعي لعيش البشر في أوربا. ولا يمكن لنا الالتحاق بالحداثة من خلال عيشنا البدوي أو الفلاحي. كما أننا نخدع أنفسنا إذا ظننا أن محمد علي باشا وقف بمصر على باب الحداثة، فالاستعانة بتقنيات حديثة لا يعني بالضرورة حداثة من أي نوع. بلاد الخليج اكتظت بتقنيات ومنتجات الغرب الحديثة ليلتهمها مجتمع متخلف. الحداثة نتيجة لتغيرات شملت المجتمع الأوربي منذ خرج من العصر الوسيط بالثورة الصناعية التي غيرت نمط عيش البداوة والزراعة معا.
الثورة الزراعية مثلت حقيقتها أربع نقاط لتوطن بشري في العالم القديم: هي الصين والهند وما بين النهرين ومصر، كما نقول اليوم بالدول الصناعية الكبرى والتي تظهر أمامنا كنموذج يحتذى. كذلك الزراعة تم الاحتذاء بها يوما ما من قبل كل المعمورة، حتى البدو عرفوا كيف يزرعون ويقلعون أسفل نخيلهم إذا توفر ماء بئر أو حتى رطوبة ندى. لكن هذا الوجود الزراعي لا يمثل بؤرة ثقافة حضارة زراعية وإنما يمثل استفادة بتقنيات الزراعة، ويظهر هذا جليا فيما عرف بالإقطاعيات في أوربا أواخر العصر الوسيط حيث تمكن الرجل الثري بماله وعصابات سيطرة أحاط نفسه بهم لإخضاع بعض الفلاحين ليخدموا في مزارعه كأقنان؛ ليعيش الإقطاعي حياة متعة خاصة خالصة بلا حكم اجتماعي حقيقي وبلا ولاء اجتماعي حقيقي؛ وهذا ما يجعل نظام الإقطاع متمايزا عن نظام الحضارة الزراعية التقليدية. ومن ثم فقد فشل نظام الإقطاع في إنتاج مظاهر حضارية كمثل تلك التي حفلت بها بؤر الحضارة الزراعية أي الصين والهند وما بين النهرين ومصر.
ويتبع >>>>>: ثلاثة ساهموا في الحداثة! زولا، أورويل، فوكو2
واقرأ أيضاً:
نص فصامي! / الثقافة المصرية أحد روافد الحداثة ! / آليات الإجهاد الثقافي الجمعي المصري!