الخلاصة:
هذا المقال يتعلق بدراسة لحالة نادرة من الصرع الجزئي المستمر Epilepsia Partialis Continua صاحب ظهور هذا الاضطراب تحسن في السلوك العدواني Aggressive Behavior لآنسة أصيبت بجرح في الدماغ مقابل تدهور في السلوك مع السيطرة على الصرع. لم يتم تسجيل حالة مشابهة وبهذا الوضوح لظاهرة التطبيع القسري مع هذا النوع من الصرع الجزئي وهذا بدوره يلقي بعض الضوء على تفسير السلوك العدواني مع عاهات الدماغ، وربما يساعد على تفسير السلوك العدواني في العديد من الأفراد.
المقدمة:
يمثل السلوك العدواني تحدياً مستمراً في علم النفس والطب النفسي. يواجه الطبيب النفسي بصورة منتظمة هذا التحدي، وتطلب منه الجهات القانونية والاجتماعية الكشف عن فرد يتصف سلوكه بالعداء تجاه الآخرين. مهمة الطبيب النفسي الكشف عن الفرد واستنتاج ما يلي:
1- هناك اضطراب نفسي ذهاني علاقته مباشرة بالسلوك العدواني.
2- لا يوجد اضطراب نفسي وإدارة الحالة من اختصاص الجهات الاجتماعية والقانونية.
3- محاولة صياغة السلوك ضمن عوامل اجتماعية ونفسية وإبداء الرأي حول احتواء المخاطر الناتجة من السلوك.
ليست الغاية من هذا المقال مناقشة السلوك العدواني من جميع أبعاده، وإنما التطرق إلى زاوية علمية لظاهرة معروفة منذ القرن التاسع عشر تدعى هذه الأيام التطبيع القسري(5،6) Forced Normalization هذه الظاهرة بحد ذاتها قد تساعد على كشف الستار عن أسباب السلوك العدواني البشري.
هناك علاقة عكسية بين وجود أعراض ذهانية في بعض المرضى المصابين بالصرع وعدد النوبات الصرعية. بعبارة أحرى تميل الأعراض الذهانية إلى التدهور مع السيطرة على الصرع، وتميل إلى التحسن والاختفاء مع زيادة النوبات الصرعية. منذ ما يقارب 60 عاماً تحدث لاندولت عن هذه الظاهرة وأعطاها المصطلح أعلاه وتم تعريفها خلال بحوث متعددة بالرجوع إلى عودة التخطيطي الكهربائي للمخ إلى حالته الطبيعية مع ظهور أعراض ذهانية(13،14). بعبارة أخرى أصبح مصطلح التطبيع القسري مرتبطاً بتخطيط المخ الكهربائي.
هذا التحديد في استعمال مصطلح التطبيع القسري حفز بعض الباحثين على أن يستعملوا مصطلحاً سريرياً وهو الذهان البديل Alternative Psychosis الذهان البديل لا يختلف تماماً عن التطبيع القسري ولكنه لا يشير إلى تخطيطي المخ الكهربائي. ولكن استعماله سريرياً في الممارسة المهنية لا يقتصر على الذهان فحسب وإنما أصبح يشمل أحياناً أي تغيير في سلوك المريض مع ملاحظة التحسن في السيطرة على النوبات الصرعية. بسبب ذلك فقد المصطلح قيمته بسبب التعريف المتشدد للاندولت واستعماله جزافاً في الممارسة المهنية.
صاحب بحوث لاندولت للتطبيع القسري دخول عقار جديد لعلاج الصرع أيامها وهو الإيثوسكسوياد Ethusuximide في علاج الصرع. على ضوء ذلك أنكر وينكر كثيرون وجود ظاهرة التطبيع القسري، وهناك من الأخصائيين في مجال الصحة النفسية والعصبية كثيرون لم يعالج أحد منهم حالة تطبيع قسري ويفسر أي تغيير في السلوك إلى عاملين:
1- العقاقير المضادة للصرع.
2- وجود عاهة دماغية مسؤولة عن الصرع والذهان والسلوك العدواني.
يمكن تلخيص هذه العوامل كما يوضح الشكل المقابل:
جروح الدماغ والسلوك العدواني
منذ فترة طويلة تم ربط السلوك العنيف باضطرابات وآفات الدماغ من جراء انعدام التنسيق في وظائف الجهاز العصبي المركزي. التهيج و/أو السلوك العدواني هو مصدر رئيسي يعيق تأهيل المرضى بعد إصابات الدماغ وقد يكون مصدرا للتوتر في أولياء أمورهم. هذه الانفعالات التي تظهر خلال المراحل الحادة في مرحلة التعافي من إصابة في الدماغ قد تعرض المرضى للخطر وتتجاوز إلى سلامة القائمين على رعايتهم. وبعد ذلك يمكن ملاحظة سرعة انفعال بعض المرضى في مراحل التأهيل المتأخرة.
انتشار السلوك العدواني بعد الإصابات في الدماغ هو موضع جدل. معظم الدراسات ركزت على متابعة المتغيرات التي يمكن قياسها مثل التهيج والمزاج والانفعالات بدلا من السلوك العدواني الموجه تجاه الآخرين. يمكن تقدير ظهور هذه الانفعالات في الثلث من المرضى على مدى عامين، وهذا بدوره يتناسب بصورة مباشرة مع شدة الإصابة.
المصطلح المستعمل في المجلد الرابع الإحصائي التشخيصي هو "تغير الشخصية نتيجة حالة طبية عامة"(2). يتم تحديد الحالة: إما الشخصية العدوانية أو الشخصية ذات المزاج القابل للتغيير. وللأسف مثل هذه المصطلحات ليست مفيدة، ولا تختلف كثيرا عن أن نقول أن شخصا ما يعاني من اضطراب ذهاني أو اضطراب المزاج. لهذا السبب يفضل الكثير استخدام مصطلح متلازمة العدوانية العضوية Organic Aggression Syndrome ذات الخصائص التالية في السلوك:
1- رد الفعل: ناتج عن محفزات متواضعة أو تافهة.
2- غير عاكس: لا تنطوي على سبق الإصرار والترصد أو التخطيط.
3- غير هادف: السلوك لا يخدم أي أهداف واضحة على المدى القصير أو الطويل.
4- انفجاري: لا يحدث بسبب تراكم العواطف بصورة تدريجية.
5- دوري: موجة من الغضب والعدوان تتخللها فترات طويلة من الهدوء النسبي
6- مرفوض من الأنا: استياء وإحراج بعد الحدث بدلا من إلقاء اللوم على الآخرين.
الفص الجبهي والسلوك العدواني:
هناك حالة خاصة من السلوك العدواني المعروفة سريرياً تتعلق باضطرابات القشرة المدارية الجبهية للمخ (متلازمة المدار الجبهي Orbitofrontal Syndrome ) التي تتميز بالإفراط السلوكي مثل التهور، تقلبات وجدانية، إفراط في الحركة، وضعف في التركيز. تكثر ملاحظة السلوك العدواني بعد تعرض السطح الأدنى السفلي للفص الجبهي والجزء الأمامي للفص الصدغي لصدمة(3).
تقرير حالة
آنسة عمرها 21 عاماً. كانت ولادتها طبيعية، ولكن سلوكها أثناء مرحلة التعليم اتصف بالمشاكسة وفرط الحركة. بدأت بتعاطي الحشيشة منذ عمر 12 عاماً وتم طردها من التعليم في عمر 14 عاماً وتلقت تعليمها في البيت لعمر 16 عاماً. استمر سلوكها التهوري بعد ذلك وفي عيد ميلادها العشرين تعرضت لجرح دماغ صدمي Traumatic Brain Injury بعد مشاجرة مع مجموعة من المراهقين.
بعد التداخل الجراحي بعدة أسابيع بدأت تشكو من نوبات هلع بصورة منتظمة وتم علاجها بعقار البريكابالين Pregabalin بجرعة 300 مغم يومياً. بعد 6 أسابيع تم تحويلها إلى قسم الأمراض العصبية النفسية لعدم إمكانية السيطرة على سلوكها العدواني تجاه بقية المرضى. كان التشخيص الأولي بأنها مصابة بمتلازمة العدوانية العضوية حيث اجتمعت جميع الصفات أعلاه في السلوك باستثناء غياب الحرج والاستياء من السلوك. على العكس منذ ذلك كانت لا تبالي بتأثير سلوكها على من حولها. كان التفسير الأولي بأن غياب الصفة الأخيرة يمكن تفسيره بشخصيتها العدوانية السابقة لجرح الدماغ. لاحظ الأب والأم بأن شخصية ابنتهم تغيرت تماما، ورغم سلوكها العدواني بين الحين والآخر، فإنها أكثر مرحاً وغير متهورة أثناء زيارة البيت في نهاية الأسبوع.
في أحد الأيام اعتدت على 3 ممرضات في يوم واحد. تم وقف البريكابلين مع إضافة العقاقير التالية بعدها:
1- الاولانزابين Olanazpine 10 مغم ليلاً.
2- الترازادون Trazadone بجرعة 100 مغم ليلاً وتم رفعها تدريجياً إلى 200 مغم ليلاً.
ظهر تحسن ملحوظ على سلوكها واختفت النوبات العدوانية تماماً. صاحب ذلك ملاحظة رعشة متواصلة في اليد اليمنى تظهر يومياً ولفترة لا تقل عن ساعة كاملة لا تتوقف إلا بجرعة 20 مغم من الديازيبام Diazepam من خلال الشرج أو 15 مغم من عقار الميدازولام Midazolam عبر الفم.
الفيلم المرفق يوضح رعشة اليد اليمنى التي هي جزء من فعالية صرعية في الفص الجبهي الأيسر من الدماغ تم تثبيتها بتخطيط الدماغ الكهربائي المرافق للرعشة.
تم إضافة الكارباميزابين Carbamazepine وتم رفع الجرعة تدريجياً ليصل تركيز العقار في الدم إلى 36 مايكرو مول/ لتر(7 مغم/عشر اللتر). تمت السيطرة على الرعشة تماماً مع خفض جرعة العقاقير أعلاه، ولكن السلوك العدواني عاد إلى الظهور مع اختفاء الفعالية الصرعية. في نهاية الأمر تمت السيطرة على السلوك العدواني والفعالية الصرعية بهذا الخليط من العقاقير:
1- الكارباميزابين 800 مغم يومياً (تركيز 35 – 40 مايكرو مول/ لتر)
2- الأولانزابين Olanzapine 12.5 مغم ليلاً.
3- ترازادون Trazadone 300 مغم ليلاً.
4- كلوبازام Clobazam 10 مغم 3 صباحاً ومساءاً.
مناقشة:
ما توضحه هذه الحالة هو أولاً أن ظاهرة التطبيع القسري لا يمكن إهمالها لتفسير السلوك العدواني المصاحب لاضطرابات الجهاز العصبي. هذه الحالة تجسد بوضوح أن نبضات كهربائية في منطقة اليد الواقعة في الفص الجبهي في الجزء المتسلط من الدماغ تؤدي إلى تغير سلوكي إيجابي(9،10). أما وقف هذه النبضات الكهربائية لمنع انتشارها وحدوث نوبات صرعية يؤدي إلى سلوك عدواني يشكل خطراً على من يتولى رعايتها.
ليس هناك الكثير من النظريات لتفسير ظاهرة التطبيع القسري وربما ظاهرة الإضرام Kindling هي الوحيدة التي تلقي الضوء على تفسير وربط التغير في السلوك مع الفعالية الصرعية في الدماغ(11). تم اكتشاف هذه الظاهرة من قبل أولونسو دي فلوريدا وديلكادو(1).
تتلخص هذه النظرية في أن الإرسال المتكرر لنبضات كهربائية عالية التردد والقصيرة المدة إلى مناطق القشرة المخية والجهاز الحوفي(8) تنتج تغييرا تدريجياً في استجابة المناطق الأخيرة للحافز ومن جراء ذلك تكون النتيجة صرعة حركية(17). أما إرسال هذه الحوافز إلى منطقة اللوزة Amygdala فالنتيجة قد تكون تغيرات سلوكية عدوانية مصاحبة لاضطراب الصرع(16).
يمكن ربط ظاهرة الإضرام كذلك بتأثير المواد الكيمائية المحظورة وتأثيرها المزمن على التغيرات السلوكية لمن يتعاطاها. خير مثال على ذلك استعمال الأمفيتامين Amphetamine الذي يؤدي إلى ظهور حالة من الذهان الزوراني Paranoid Psychosis مع استعمال كميات ضئيلة منه على المدى البعيد(18). بعد انقطاع الفرد من تعاطيه لفترة ترى حالة الذهان تظهر بصورة حادة قوية بمجرد استعمال جرعة صغيرة من الأمفيتامين.
إن الآثار المزمنة على السلوك تؤدي إلى الاستنتاج بأن الناقلات العصبية تلعب دورها في التطبيع القسري والذهان البديل، والمرشح الأول لهذه الظاهرة هو الدوبامين(12). يمكن اعتبار الدوبامين محفزا للذهان والعقاقير المضادة للذهان ما هي إلا عقاقير مضادة للدوبامين(15). أما السيروتونين Seotonin والكلوتاميت(4) Glutamate فالعلاقة غير واضحة. الأول يحفز الصرع والذهان أما الثاني فهو يحفز الصرع دون الذهان.
إن ظاهرة الإضرام لا تقتصر على الصرع(9) والتطبيع القسري. يمكن ملاحظة ظاهرة مشابهة للإضرام في حالات الإدمان وتكرر حدوث النوبات الوجدانية في بعض الأفراد كرد فعل لظروف البيئة والعمل. في نوبة الاكتئاب الأولى ترى العامل البيئي يلعب دوره بوضوح ومع مرور الزمن يصاب الفرد بالاكتئاب بمجرد تعرضه لضغوط اجتماعية أو مهنية بسيطة(7).
السلوك العدواني مع الاضطرابات الصرعية لا يشكل إلا جزءاً ضئيلاً من الاضطرابات النفسية العصبية المرتبطة بالسلوك العدواني. هناك العديد من الاضطرابات العصبية التطورية Neurodevelopmental Disorder وفي مقدمتها اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة ADHD الذي يبدأ في الطفولة. ربما هناك علاقة بين ظاهرة الإضرام والسلوك العدواني الذي تكثر ملاحظته في الأفراد المصابين بهذا الاضطراب، وربما هناك علاقة بين ظاهرة مشابهة للتطبيع القسري والتغير السلوكي التي تمر عبر عملية الإضرام. ربما المزيد من البحوث في هذا المجال قد تكشف النقاب عن الأسباب البيولوجية والسلوك العدواني وطرق علاجه.
REFERENCES المصادر :
1- Alonso-DeFlorida F, Delgado JMR (1958) Lasting behavioural and EEG changes in cats induced by prolonged stimulation of the amygdala. Am J Physiol 193:223-9.
2- American Psychitaric Association: Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders(2000). Fourth Edition. Text Revised. Washington DC.
3- Cheung AM, Mitsis EM, Halperin, JM(2004). The relationship of behavioural inhibition to executive functions in young adults. J Clin Exp Neuropsychol 26: 393-404
4- Coyle JT(1996). The glutaminergic dysfunction hypothesis of schizophrenia. Harvard Rev Psychiatry 3:241-53.
5- Landolt H(1958) Serial EEG investigations during psychotic episodes in epileptic patients and during schizophrenic attacks. In: Lorentz De Haas AM, ed. Lectures on epilepsy. Amsterdam: Elsevier, 91-133.
6- Landolt H(1953). Some clinical EEG correlations in epileptic psychoses (twilight states). EEG Clin Neurophysiol 5:121.
7- MacLennan AJ, Maier SF(1983). Coping and the stress-induced potentiation of stimulant stereotypy in the rat. Science 219: 1091-3.
8- Stevens JR, Livermore A Jr(1978). Kindling of the mesolimbic dopamine system: animal model of psychosis. Neurology 28:36-46.
9- McIntyre DC, Racine RJ(1986). Kindling mechanisms: current progress on an experimental epilepsy model. Prog Neurobiol 27: 1-12.
10- McNamara JO) 1988)Pursuit of the mechanisms of kindling. Trends Neurosci 11:33-6.
11- Post RM, Kopanda RT. Cocaine, kindling and psychosis. Am J Psychiatry 1976; 133:627-34.
12- Sato M, Chen C, Akiyama K, Otsuki S(1983). Acute exacerbation of paranoid psychotic state after long-term abstinence in patients with previous methamphetamine psychosis. Biol Psychiatry 18: 429-40.
13- Trimble MR, Schmitz EB(1997). The psychoses of epilepsy. In: Engel J Jr, Pedley TA, eds. Epilepsy: a comprehensive textbook. New York: Lippincott-Raven Press, 2071-82.
14- Wolf P. The clinical syndromes of forced normalisation(1984). Folia Psychiatr Neurol Jpn 1984;38:187-92.
15- Sato M, Hikasa N, Otsuki S(1977). Experimental epilepsy, psychosis and dopamine receptor sensitivity. Biol Psychiatry 13:537-40.
16- Sato M, Tomoda T, Hikasa N, Otsuki S(1980). Inhibition of amygdaloid kindling by chronic pre-treatment with cocaine or methamphetamine. Epilepsia 21:497-507.
17- Sato M, Chen C, Akiyama K, Otsuki S(1983). Acute exacerbation of paranoid psychotic state after long-term abstinence in patients with previous methamphetamine psychosis. Biol Psychiatry 18: 429-40.
18- Smith PF, Darlington CL(1996). The development of psychosis in epilepsy: a re-examination of the kindling hypothesis. Behav Brain Res 75:59-66.