لولولولوليييييش كانت هذه أول صيحة سمعناها من النافذة حين عادت الكهرباء بعد انقطاع دام تسع ساعات متواصلات....
عادة نسمع صيحة "هيييييييييييه" تعلو من بيوت الجيران كلهم مع بعض عندما (تنورنا ست الحسن والجمال)... فكأن الصوت صادر عن ملعب كرة بعد إحراز هدف...
لكن هذه المرة كانت ال(لولولولولييييييييش) وحيدة فريدة، صدرت عن شخص واحد فقط!!
ربما لأن الناس سئموا من طول الانقطاع، ليس كأيام زمان...
أو عفوًا...، ربما لأنهم وجدوا مدة الانقطاع قصيرة، لا تحتاج ل(هييييييييييه) طويلة....، فأماكن أخرى في العاصمة تفارقها شمس الضحى 16 ساعة متواصلة... وطبعًا لا أتحدث عن أماكن أصبحت الكهرباء فيها جزءًا من التراث...
بالنسبة لي شخصيًا...، أحب ضوء الشمعة كثيرًا...، وأنسى مساوئ قطع الكهرباء طوال اليوم عندما أرى لهيبها...
في النهار تتعطل أعمالنا الحضارية، فنجدها فرصة سانحة للدعاء وقراءة القرآن وسائر الأذكار، فلا شيء آخر نفعله غالبًا!!!
يأتي الضيف...، لا داعي لإتعاب النفس والحيرة في ما سنقدمه له! لا غاز...، لا كهرباء...، يعني لا طهو... لا شاي ولا قهوة !!! ربما قطعة فاكهة، أو قطعة خفيفة من الشوكولا أو السُّكر إن وجدتا...
لا أحد يعتب لماذا منزلكم بارد؟ ولا أحد يطلب أن توقد المدفأة له!
لا أحد يعيب على أحد إن كانت ثيابه غير مكوية!
لا أحد يسأل لماذا لا أفتح الإنترنت كثيرًا...، أو لماذا لا أجيب بسرعة...
لا أحد يقلق عندما يتصل بجوال أحدهم فيكون (مغلق أو خارج التغطية)...، فغالبًا انتهى شحن البطارية، ولم تأت الكهرباء بعد ليعيد شحنها...
انقطاع الكهرباء قد يبدو مزعجًا لكنه في الواقع مريح!! أراحنا من تعقيدات الحياة ومن المحاسبة على الأمور الكمالية التافهة!!!
نعود للشمعة!
أنتظر لقاءها بفارغ الصبر! لأنظر إلى لهيبها، وإلى قطرات الشمع المتساقطة...
أصورها أحيانًا...، وأجد متعة في تناول قطعة من الشمع المتساقط، وإعادة إذابتها بحرارة اللهب الضعيف...
صحيح أن الشمع سيئ ولهبه ضعيف جدًا هذه الأيام...، لكنه يبقى جميلًا...
الذي لم أنجح فيه بعد، كيف أتدفأ على الشمعة!!! إن وضعت يدي جانب اللهب، لا تصلها الحرارة مهما قربتها...، وإن وضعتها فوقها لسعني اللهيب دون أن أشعر بالدفء!!!
ربما أجد وسيلة أخرى للتدفئة تكون مثيرة كالشمعة....، نفكر باستعمال الفحم واستعادة ذكريات جدة جدتي...!
بالأمس حاولت إحراق بزرة الزيتون بذلك اللهيب الضعيف بعد تناولنا للعشاء على ضوء شمعتي الحنونة...، لكن منع فكرتي عن التطبيق صوت أمي تصرخ: ماذا تفعلين؟؟ لم يعد الضوء يصلنا!!
قلت: لا شيء! أحاول أن أحرق البزرة علِّي أكتشف طريقة تدفئة!!
قالت: اذهبي واكتشفي على غير شمعتنا!!!
نام أهل البيت، حتى من كان يسهر منهم... والحمد لله على نعمة انقطاع الكهرباء والنوم المبكر...
وبقيت أرقب ضوء الشمعة...، أحب القراءة على ذلك الضوء...، وأتذكر أبي رحمه الله عندما كان يحدثنا عن ذهابه إلى المدرسة بالقُبْقاب الخشبي، ودراسته في المساء على ضوء الشموع، أو على أضواء الشارع...، حيث لم يكن هناك كهرباء في البيوت...، وكيف كان الطلاب مع هذا غاية في الجد والنشاط والتفوق، يعمل أحدهم في النهار ليعين أهله، ويدرس في الليل على تلك الشاكلة!
أتخيل فورًا عندما أكبر -إن أحياني الله- وأصبح في الستين والسبعين...، وأرى الأطفال أمامي، وأحدثهم كما كان يحدثنا جدي، وجدتي: (لقد أمضينا أيامًا لا نعرف فيها الكهرباء....، واستغنى الناس عن البرادات، والغسالات، وجميع الأدوات الكهربائية....، وعجزنا عن تشغيل الكمبيوتر بواسطة الشموع!!! أما الإنترنت...، فينقطع حين تأتي الكهرباء، ويأتي حين تنقطع الكهرباء...)..
أدع هذه التخيلات جانبًا، لأعود للتفكير مرة أخرى: هل هناك شيء آخر يمكنني أن أستفيده من هذه الشمعة؟؟؟ ثم يبدأ اللعب باللهب والشمع الذائب مرة أخرى!!
أجلس لأقرأ أذكار المساء...، ويتمثل أمامي علماؤنا الأجلاء الذين كانوا يمضون ليليهم ذكرًا وتعلمًا وتأليفًا على ضوء الشموع والسُّرج....، وكيف يبقون مستيقظين رغم الضوء الخافت؟! ليس مثلي يخفق رأسي، بعد دقائق من الذكر!! وتغمض عيناي، وإن حاولت فتحهما أرى الباب قد أصبح على اليمين بدل اليسار، وأرى أمي تجلس بجانبي، وتكلمني قصة تنتهي بعد ثوانٍ، حين أنتبه لسقوط السبحة من بين أصابعي!!!
حينها أندسّ في فراشي يائسة من فعل أي شيء...، وأطفئ الشمعة...، أضع رأسي على الوسادة، لا يزعجني سوى صوت مولد الكهرباء من بيت الجيران يكسر صمت الليل...
لا تسألوني عن أصوات القصف أين ذهبت؟ لم أعدّ أسمعها، ولا أنتبه إليها!!!
وإن علا صوتها واقتربت، شددت الغطاء وأدرت ظهري وقلت: لأغتنم الفرصة وأنمْ قبل أن تقترب أكثر ونضطر للاستيقاظ والخروج من البيت!!!
أنام...، وأحلم بالاستيقاظ وقد عادت الكهرباء، لأنجز بعض ما تراكم من الأشغال...، وأَكِل الباقي لضوء
واقرأ أيضًا على مجانين:
التعليق: أستاذتنا الفاضلة د رفيف، أعانكم الله تعالي على ما أنتم فيه وفرج كرب أهل سورية أجمعين.
أود أن أعرف منك لأتعلم كيف تتعاملين مع افتقادك لأبيك بعد موته؟
كيف تتعاملين مع افتقاد إحساس لا يحققه إلا الأب؟