الذئب الأول.. توثيق الفساد
الذئب الثاني.. تدويل الفساد
النظاموي حين يبطل سحره!
بات في حكم المؤكد أن الفساد الأكثر ضراوةً في مختلف الدول ليس هو "الفساد الصغير"، بل "الفساد الكبير" (Grand Corruption)، ويحذِّر بعض الباحثين من مغبة ما يعرف بـ"اقتناص الدولة" (State Capture)، وهو ذلك الفساد الذي يصيب المستويات والأجهزة العليا في الدول، مع تسخير "النخب" لخدمة أهداف تلك الأجهزة والشخصيات النافذة المستبدة. وعدم مجابهة هذا الفساد الكبير يعني أننا قبالة تكوّن أعتى أنواع الفساد، وهو ما أسميه بـ"الفساد المقنّن"، الذي يولّد ذاته تلقائياً ويحمي نفسه بنفسه.
ومحاربة الفساد كان أمراً ملحاً قبل "الربيع العربي"، وقد أضحى بعده حتميةً لا مناص من تحمل استحقاقاتها ومواجهة انعكاساتها، ويخطئ من يظن أن تعامل الشعب العربي مع الفساد سيظل هو هو. ثمة اختلافات كبيرة تفرضها ظروف ومعطيات جديدة.
وما تقرر سابقاً، يؤكد ضرورة استشراف مستقبل "الفساد الكبير" في عالمنا العربي، لا سيما أنه يزداد وينمو، فالدول العربية تتقهقر في تصنيفات الفساد والشفافية على المستوى العالمي، ولم نرَ تحركات حقيقية لوقف دولاب هذا الفساد الخطير سوى إصلاحات شكلانية وتشريعات وآليات مفرّغة من مضمونها وفعاليتها، وهي "حيل متقادمة" لم تعد تنطلي على أحد.
سبق لي توقع أمرين، أرى أن المشهد العربي الراهن يؤكد صحة تحققهما، وفي وقت أقرب مما كنت أظنه. ولعلي أستعرض هذين الأمرين أو "الذئبين" الساعيين إلى افتراس "خراف الفساد العربي"، بطريقة قد تربك كل من هم داخل المزرعة وخارجها، فالافتراس سيكون مفاجئاً ومفجعاً، وربما مهلكاً للحرث والنسل!
الذئب الأول.. توثيق الفساد
التعاطي مع ملفات الفساد الكبير في عالمنا العربي كان يتم بصورة سرية في الجلسات الخاصة، وكان الناس داخل جدران "أمينة" يتهامسون بفساد فلان من المسؤولين الكبار الذي اختلس "كذا مليار عربوش" (العربوش: العملة العربية غير الموحّدة للفساد!)، أو ابتلع ملايين الأمتار والهكتارات من الأراضي داخل المدن وخارجها، وأولئك الفاسدون "يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين" القلم: 24.
والتحليل المنطقي يقول إنه لم يعد بمقدور الفاسدين منع أحد من الدخول، فشرائح عربية باتت تؤمن بشكل متزايد بضرورة التوثيق لملفات الفساد الكبير، بكافة أنواعه ومصادره.
وهنالك قفزة كبيرة تحققت في الشأن التوثيقي للفساد الكبير، بعد أن آمنت الأجيال الجديدة بضرورة محاربة هذا الفساد الذي ينغّص عليها مستقبلها ويحرمها من حقوقها والتمتع بامتيازاتها من "المال العام" والعدالة والحرية والديمقراطية والكرامة. ولربما يتساءل شخص: ما الذي يدفعك للزعم بتحقق مثل هذه القفزة بانضمام الشباب إليها؟
في واقع الأمر، يمكن الجواب من وجوه متعددة، ولكن يهمني في هذا السياق تسليط أضواء كاشفة على حقيقة أن الأجيال الشابة مؤمنة بالشفافية المطلقة، فها هم أبناؤنا ينقلون حياتنا الشخصية الخاصة إلى مواقع شبكات التواصل الاجتماعي كـ"تويتر" و"فيسبوك" و"يوتيوب" و"فليكر"، فقد أضحوا مراسلين بالمجان لنقل أخبار وصور بيوتنا وطعامنا وجلساتنا ورحلاتنا إلى أصدقائهم في كل مكان دون أن يفكروا بمجرد استشارتنا، ودون أن نفكر نحن في مجرد زجرهم، فالأمر ليس لنا، والعصر بات يحملهم ويحلمنا على ذلك القدر من الانكشاف والشفافية.
إذن، ثمة قفزة كبيرة في مجال توثيق الفساد بانضمام هذه "الأجيال الشفافة". نحن نشاهد جميعاً كيف بدأت هذه الأجيال في تسريب بعض ملفات الفساد إلى مواقع التواصل الاجتماعي بصور متعددة بما في ذلك تقنيات "واتسب أب" و"لاين" في أجهزة الهاتف الذكية، وقد توسلت هذه الأجيال بتشغيل آلة "الإبداع الفني"، فأنتجت أفلاماً ومقاطع قصيرة عن الفساد في قوالبه المختلفة وفي كثير من البلاد العربية، وبثته في موقع "يوتويب" وغيره، ونجحت الأجيال الجديدة في مخاطبة شرائح عريضة في المجتمع العربي، حيث يصل عدد المشاهدين لتلك الأفلام والمقاطع لمئات الآلاف، بل قد يلامس أحياناً حاجز 5 ملايين مشاهد.
الذئب الثاني.. تدويل الفساد
في الكتاب الذي أصدرته المنظمة العربية لمكافحة الفساد (2006)، يقرر مديرها العام عامر خياط أن مسألة مكافحة الفساد أضحت من المسلمات التي لا يتجاسر أحد على الوقوف في وجهها، كما دأبت الكثير من الهيئات الدولية على معالجة هذه المسألة ضمن برامج عملها، مما ساعد على تجذير فكرة مجابهة الفساد عالمياً، وقد تُوّج ذلك بتوقيع معاهدة تُعنى بمكافحة الفساد عام 2003، لتكون آلية أممية تعين المجتمعات على تقليل هوامش الفساد ومحاربته.
ونحن نعلم أن أغلبية الدول العربية قد وقعت على الكثير من الاتفاقيات الدولية المناهضة للفساد بشتى أنواعه، مما يعني أن هنالك مسؤولية قانونية تترتب على ذلك التوقيع من جهة، وإمكانية الترافع لبعض الهيئات الدولية من جهة ثانية بوصفها ذات اختصاص قانوني.
وحين نأخذ في الاعتبار ما سبق، في الوقت الذي نراعي فيه الأمر الأول المتعلق بالتوثيق المتنامي للفساد وظهور جيل يؤمن بالعمل التوثيقي ويمتلك مقوماته ومهاراته، فإن استشرافي لمستقبل الفساد العربي قادني إلى توقع حدوث "تدويل لملف الفساد العربي" عبر عرضه على هيئات دولية مختصة بقضايا الفساد، وهذا العرض سيكون في البداية من قبل بعض الأطراف المتضررة من "فساد الكبار"، وسيتطور الوضع إلى أن يكون عبر عمل مجتمعي تقوم به مؤسسات المجتمع المدني وبعض الشخصيات الإصلاحية والحقوقية.
ومن المتوقع زيادة عمليات التدويل عبر مشاركة أفراد أو دول أو منظمات تتخذ موقفاً معارضاً أو حتى عدائياً لهذه الدولة أو تلك، حيث سيكون المجال فرصة سانحة لتصفية الحسابات والإغارة على "المناوئين" أو "الأعداء".
وحينها سيدرك الجميع أن "أسوار الفساد الكبير" باتت قصيرة، وسيصاحب التدويل القانوني للفساد الكبير تدويل إعلامي ضخم، وسيفاقم من المشكل السياسي والمجتمعي، وسيدفع الأمور إلى أن تكون نتيجتها فتاكة بالجميع، وعلى رأسهم كبار الفاسدين والمفسدين.
النظاموي حين يبطل سحره!
ذئبا التوثيق والتدويل سيفترسان الفساد العربي، وسيتكاثران ويخلفان "جراميز" (أبناء الذئاب)، وسيعملان على تعرية المفسدين، مفسداً مفسداً، وسيُظهِران معلومات تفصيلية تكشف الفساد وأنواعه وأحجامه ومصادره وآلياته وعصاباته، وربما أمكن الكشف عن الأرصدة في البنوك المحلية والدولية ووثائق تملك الأراضي والشركات ونحو ذلك.
ويصعب تصور أن يكون أحد بمنأى عن مخالب هذين الأغبرين (الذئبين) اللذين يتضوران جوعاً ويتلعلعان خطفاً. الجميع –أقول الجميع– دون استثناء سيكون معرضاً لافتراس التوثيق والتدويل، خاصة أنهما جاءا في سياق تشكّل وعي جمعي لدى الشعوب العربية إزاء النهضة والإصلاح والحرية والتخلف والفساد والاستبداد، وهنالك حملة شعبية مفادها "شايفين وعارفين ومش راضين"، وهي حملة متنامية، تتجذر في الأرض وتتصلب سيقانها وتتخشب فروعها، وتقذف هذا الفساد بثمار التوثيق والتدويل.
ولا يتوهم أحد أن هذين "الأطلسين" (الذئبين) سيصدهما "النظاموي"، وأعني به الموظف الحكومي أو المجند الذي يهب نفسه للدفاع المستميت عن النظام الحاكم بسحره الغبي المكشوف وأسلحته العتيقة من "النفاق" و"الدجل"، فالإنسان الصغير اليوم أضحى يمتلك معلومات كانت حصراً على أجهزة استخباراتية كبرى.
ومن هنا تتبين حكمة وجوب مسارعة الأنظمة العربية في تصحيح الأوضاع ومحاربة الفساد الكبير وتجاوز منطق "أنا فهمتكم"، فالشعب العربي هو من يقول الآن: "أنا فهمتكم"، و(دينار إصلاح حقيقي خير من قنطار حَراك ثوري)! وما كتبته هو محض نصيحة صادقة، أن أدركوا أنفسكم وأنفسنا، فكلنا في قارب واحد.
المصدر
http://aljazeera.net
واقرأ أيضًا:
خطايا ثقافية 2-2 / خطورة خلق صور ذهنية سلبية! / للمنصف المغيّر.. الديناميكية اللولبية / لماذا يفشل العرب في تأسيس مجتمع المعرفة؟