اكتمل الجمع فوق مقاعد خشبية واسعة طرية يتمكن القاعد فوقها من التربع بل وطى ساقيه كيف شاء، وكان الجمع قد انتهى بالتو من أداء صلاة العشاء؛ وساد صمت فى قاعة الحكم والكل يفلت بين الإبهام والسبابة حبات مسبحته التسع والتسعين يختتم صلاته. لكن الذى ساهم فى ما بدا من ارتخاء الأبدان، كان يرجع إلى تخمة ما بعد الأكل؛ وقد مالت بعض الرؤوس تطلب نوما عز فى حضرة الخليفة.
بعد قليل تمكن لبعض الدم الهروب من المعدة ليصعد إلى الدماغ، وينعش المخ فيبادر مؤانس الخليفة بهز رأسه كمن يستيقظ للتو من نوم عميق؛ وينظر بركن عينه بحذر إلى عينيى الخليفة فيراه منشغلا عنه. ثم يتذكر أمرا فيهب واقفا، ويجري خارجا من القاعة؛ ليعود خببا في جلبابه الواسع. ومعه رجل يحمل ربطة في يده، يتقدم به إلى الخليفة؛ حتى صار قريبا من أذنه فهمس فيها بعض الوقت. ثم تحول مشيرا إلى الرجل الذي حل ربطته، وأخرج جهازا قدمه إلى الخليفة في خشوع؛ وهو يهمس: "آخر تعديل لمحمول يعمل بالقمر الصناعي مباشرة ويتحدى كل المخابرات".
وإبتسم مؤانس الخليفة بسمة سرعان ما كتمها مخافة أن تتحول إلى ضحكة في حضور الخليفة، لكنه تجرأ إذ وجد بهجة في عينيي الخليفة فرمش بعينه لمؤرخ الخليفة الذي قال: "دي ياسيدنا أفيد من هدية شارلمان!"؛ بينما الخليفة يشير بيده إلى الرجل ليجلس، ويدير بصره في عيون القوم سامحا لهم بالكلام؛ مشجعا بقوله: "والله العجم دول عفاريت مين يضيف الرجل ويكرمه عله يسلم فيفيدنا".
وأحس الخليفة بإرهاق فاتكأ إلى مسند مقعده طالبا القهوة، وفهم المؤانس فالتفت إلى الجلوس وكان يحفظ جدول سمر الخليفة اليومي؛ فصاح في دلال: "من حفظ مرادفات أعضاء البدن!؟". صاح رجل "أنا بما فيهم الهن والفرج والكس" ضحك القوم فى خفوت واحترام، وتساءل المؤانس "مقابل ماذا يارجل؟"؛ قال الرجل "مقابل الذكر والقضيب والذب". ضحك الخليفة محركا بدنه متسببا في حركة مروحية لدى القوم، وهمس الخليفة: "يخرب بيتك يا مؤنس فكرتني بأبي نواس ظن مولاه مولاته"؛ فتضاحك الكل غبطة وأنسا. فبادر إمام مسجد الخليفة بالقول بعد أن تنحنح بصوت عال منبها: "ياجماعة كثرة الضحك تميت القلب"، وتجرأ المؤانس فعلا صوته متحريا عينيي الخليفة: "هي مراوحة"؛ وصاح قاضي الخليفة: "كفانا مراوحة وخلونا نتكلم في العلم".
فتحرك الرجل مقدم الهدية وتكلم في حياء: "كويس أحب أكلمكم في الجينوم!"، اعترض إمام الخليفة: "بصفة إيه تتكلم وكمان أعجمي لا تتقن العربية إذا كنا عاوزين عندنا السماك يكلمنا عن خيشوم السمك!"؛ تدخل قاضي الخليفة مؤيدا الإمام: "العجم لا يحسنون العربية وعلمهم مشكوك فيه! وهم أشبه بالأعراب!". تشجع إمام الخليفة فاسترسل: "وأنا أرفض أن يجمعنا مجلس بأعجمي أشبه بالأعراب، وقد قال الله تعالى في سورة التوبة آية أربعة وثلاثين (الأعراب أشد كفرا ونفاقا) وفي سورة الحجرات آية أربعة عشر (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) فنحن الفئة المؤمنة وهم من استسلموا لنا.
فوقع في يد الرجل الهادئ وتلعثم هامسا: "الموضوع مش عجم وغيره الموضوع أنا بأتكلم بمعجم يختلف عن معجمكم"، قفز إمام الخليفة واقفا في غضب ناظرا إلى قاضي الخليفة طالبا مناصرته صائحا: "أنا أغضب لله هل يوجد معجم غير العربية!؟"؛ قال قاضي الخليفة: "العربية بيان رباني بها العلم كله وما عداها عجمة عجماء ومن نشد العلم في غيرها فقد نشد العوج وفقد السند". زاد إمام الخليفة: "ولولا رضا الله ما أورثنا أرضهم وملكهم"، صحح الخليفة مترفقا: "إنما الملك لله وهو قميص ألبسنيه الله"؛ عقب مؤرخ الخليفة: "إنما الأرض لله يورثها من يشاء" وتنحح معجبا بنفسه مردفا "من يقول لي من هو جوهر الصقلي؟".
همس أحدهم بصوت ناعس "صاحب صقلية؟"، فزاد مؤرخ الخليفة مفاخرا بعلمه: "لا جوهر الصقلي قائد المعز لدين الله الفاطمي"؛ عاود من أوشك على النعاس "إذن هو قائد جيش مصر؟" صحح مؤرخ الخليفة مكررا: "لا هو قائد المعز لدين الله الفاطمي". بان الكدر على وجه الخليفة وتململ في قعدته طالبا القهوة، فعرف المؤانس أن الوقت قد حان للمؤانسة؛ فغرف من كتاب الأنس والمؤانسة وغمر به الجميع.
واقرأ أيضا:
الوحش! / يوميات قرص دواء ! / قصة لخينعة ينوف ذو شناتر