سأحاول أن أجري تشريحا نفسيا لقصيدة أنشودة المطر للشاعر العراقي ورائد الشعر الحر بدر شاكر السياب, آملا أن أكتشف أعماق اليراع الذي كتبها والنفس التي تفاعلت مع مفرداتها وإيقاعاتها ونبضاتها العاطفية والانفعالية والفكرية, وكيف بقيت ذات طعم خالد في النفس العربية.
وقد قرأت الع
ديد من الكتابات عن القصيدة, وهذه المحاولة تهدف إلى وعي الصورة الشعرية وتحليل مكوناتها التعبيرية النفسية والعقلية وربما ستثير نقدا غاضبا, أو ستحسب على أنها حالة أخرى, لكنها قراءة نفسية بحتة.
تبدأ القصيدة بكلمة "عيناك", والعين العراقية من أغنى عيون الدنيا بما تبوح به من المعاني واللغات, التي تعجز عن احتوائها أبجديات البشرية جمعاء ذلك أن الروح العراقية بجميع طاقاتها وقدراتها الخلقية والإبداعية تنحبس في الأعماق ويتعذر التعبيرعنها بالكلمات, فتتحول العيون إلى ينابيع بوح صادق وأليم ومضرج بالحزن والمرارة والحرمان لكن الشاعر يقلب تلك الصورة المأساوية فيقرن بين غابات النخيل البصراوية المتهامسة عند السَحر والمعبرة عن طاقات الحياة والعطاء وفي هذا توحد وتمثل عشق مطلق, لا يرى العاشق فيه حبيبته كما هي, وإنما مثلما يتمثلها في خياله وآرائه الشعرية المعتقة في قوارير الحب الفتان.
وبهذا تكون العينان في حالتي تمثل جمالي متساوق مع نبضات الأشواق والأحلام واللهفة. وهذا توحد جزئي يريد به الكلية, لأن وجود الحبيبة وصورتها الخيالية قد تكثفت في العينين. ولذلك فإن التعبير يمتلئ بالصدق والحس الشاعري الإنساني العراقي الفياض, لأن ما يريده الإنسان وخصوصا المرأة من شدة إنحباسه يفيض من العيون, فتكون النظرة العراقية أغنى من كتاب.
ويبدو أن الشاعر يجيد قراءة العيون ويترجم أبجدية النظرات, بأسلوب انتصر فيه على قيود الشعر العمودي وحرر النفس والروح من أصفاد العروض الثقيلة, فكانت العيون منطلق الارتقاء بثورة الحرية الفكرية والفنية, لأن العيون ترمز للحرية والجمال والصفاء والانتماء.
عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحر
في وقت السحر تكون العيون الناعسة المستريحة متحررة من أعبائها, فتبدو في غاية النقاء والروعة الخلابة التي تداعب أنياط القلوب, فكان الوصف دقيقا وموسوعيا فيما تلاه من تطورات في الصورة الشعرية والتركيبات الأسلوبية المؤثرة في النفس والروح.
أو شرفتانِ راحَ ينأيا عنهُما القمر
في هذا رسم لحالة النعاس وبهاء بريق الحياة المنبثق من العيون, التي تكثفت فيها طاقة الوجود والنماء والتجدد والبقاء وكأن وهج الروعة بدأ يخبو بانسيابية نأي القمر عن الأشهاد وقت السحر الصافي الساكن العذيب.
عيناكِ حين تبسمانِ تُورقُ الكروم
وهنا يتحول رفيف الأجفان إلى ابتسامات, لكن المقل الثرية بالمشاعر والأحاسيس كأنها سكرى بالأشواق والأمل, ولهذا أورقت الكروم لتسقيها بسلاف روحٍ انتشر.
وترقصُ الأضواءُ.. كالأقمارِ في نهر
دفق الحياة الوثاب في فضاء العينين استنزل الأكوان وامتد في رحاب المطلق البعيد, فصارت الأضواء تنعكس فيه وتتلألأ الأقمار وتتجدد الصور.
يرجُّهُ المجدافُ وَهْناً ساعةَ السحر
وكأنه يقرأ لغة الأجفان ويقرنها ببيئته, ويقارن ما بين إيقاعاتها الناعسة وحركة المجداف, الذي يحركه إنسان هدّه تعب الليل, وهو يسعى بالظفر بصيد يعينه على مشقة الأيام.
كأنّما تنبُضُ في غوريهما النجوم,
وفي هذا المقطع لم يكتفي بما يرى بل أخذ يغوص عميقا جدا في قاع
العيون بمنظاره الشعري وآلة خياله التواق, فيرى نجوما أخرى, لأن العيون صارت طبقات أكوان ومختصر وجود أعظم.
وتغرقان في ضبابٍ من أساً شفيف...
ويخيل للقارئ أن الرحلة الخلابة في عيون المعشوقة قد تحولت إلى صورة بانورامية, لأن الحبيبة تتوطن خيالا متدفقا ومعبرا عن طاقات لا محدودة تخشى منها الحروف والكلمات. وهكذا تهبّ ومضات الأسى وتتبارق حولهما, فيراهما الشاعر ضبابا, لأن صفاء النظر قد شابه التعب, وأفقده بَعد المنال توهج حرارته ونماء إرادته الإنسانية.
كالبحرِ سرَّحَ اليدينِ فوقَهُ المساء...
هذا النهر الدافق قد سكن في بحرٍ ذي أمواج صاخبة لا تهدأ, لكن المساء أوهمنا بسكينته, وما هو إلا قوة فوارة معتلجة بالطاقات وانطبقت الأجفان, وما كان الشاعر يرى إلا سواد المقل قبل أن تغيب الحبيبة في رحلة الهجوع كأنها البحر.
دفءُ الشتاءِ فيه وارتعاشةُ الخريف...
وكأنه يقرن ما بين البحر والعيون حيث الدفئ اللذيذ في أعماقه المسكونة بالأحياء وأمواجه التي قرنها بالخريف, وهذا يرمز إلى غياب الجمال وانعدام العطاء والتواصل الفعال مع الأشياء, فهدأت الحبيبة واستوحش الحبيب.
والموتُ والميلادُ والظلامُ والضياء...
في لحظة التبصر والإدراك العميق لمعاني القوانين الكونية العظمى, المنبثق من مشهد العيون في رحلتها الحرمانية القاسية, تشخص المتناقضات وتنطبق الكليات على الجزئيات, ويكون صوت الحياة واحد غياب وحضور, وحضور وغياب, ودوران في قفص الوجود كالبلبل المذبوح بصوته الفتان, وما غناؤه إلا بكاء أليم وانفجارات روح في حنجرة الأسير.
فتستفيقُ ملء روحي، رعشةُ البكاء...
بهذا الوعي الأليم يفقد الإنسان لغاته ويبدأ البكاء صولته, لكي ينقّي الأعماق من صديد هول الحرمان وفقدان الرجاء, فينئى بما يريد إلى غير وجهته, أي يتسامى إلى ما لا يريد لكي يحافظ على ما يريده ويبتغيه من الآمال والرغبات المخنوقة في دياجير فؤاده الكسير.
ونشوة وحشية تعانق السماء... إنها نشوة متدفقة ذات سمات حرمانية, ومعوقات أرضية, فلا يمكنها أن تتحقق فوق التراب, ولا بد لها أن تطوف السماء, وترج أركانها, لأنها من شدة الاختناق فقدت صوابها وتوحشت وأمعنت بصورتها الفنائية العلوية, فتماهت بطاقة السماء.
كنشوةِ الطفلِ إذا خاف من القمر...
ويدخل الطفل في المشهد ليرمز إلى تحطم القيود, والتمني بالتعبير عن الرغبات المكبوتة بحرية الطفل الذي لا يعرف الممنوع, وأنه يسعى إلى ما يريده بحرارة عواطفه وطاقة مشاعره البقائية نشوة العاشق المتيم المحروم, تشق لها دروبا في خلجان النفس وتصل إلى ما تريده من اللذة والتوحد مع المعشوق.
كأنَّ أقواسَ السحابِ تشربُ الغيوم
المقطع يشير إلى تعبير رمزي عن الرغبة الجياشة المحترقة التواقة للاندماج المطلق في بدن المحبوب, والتغلغل بكيانه والسريان بعروقه ويتحقق بعد ذلك الاعتصار العنيف, فينزفان حقيقتهما الذاتية ويسريان في كيان الوجد والسرمد وكأن السحاب ذكرا والغيوم أنثى أو العكس.
وقطرةً فقطرةً تذوبُ في المطر
هذا التداخل الإنساني الروحي العميق يتجسد بأن الحبيبين قد تحولا إلى صيرورة واحدة متسربة في الصيرورات الأخرى, وأن اللذة القصوى تتجسد في ذلك.
وكركرَ الأطفالُ في عرائش الكروم...
وبعد التفاعل الخيالي مع المحبوبة المأسورة بالممنوعات والتقاليد الجائرة, يكون التحدي بطاقات الخيال فيتحقق كل التفاعل في الفضاء, وتلد مسيرة العشق أثمار التلاحم النفسي والبدني, فيكون الشاعر في حضرة الخيال المجسد لما لا يكون إلا فيه.
ودغدغت صمتَ العصافيرِ على الشجر.
وبغتة يستفيق من رحلته العميقة في العيون, ويصغي إلى إنشودة المطر التي أخذت تنبه الأحياء والبشر....
أنشودة المطر
مطر
مطر
مطر...
العلاقة بين الإنسان العراقي والمطر ليست حميمة, وإنما هي قاسية وتشير إلى ما سيحصل من سيول وفيضانات وتداعيات مأساوية إلى بضعة عقود مضت, برغم أن المفهوم العام هو الخير, لكن الأعماق الخفية ترى غير ذلك, فللمطر تداعيات نفسية وسلوكية ذات نتائج متعددة في دنيا العراقيين ففي القصيدة حزن حرماني موجع وقاسي يستدعي الذكريات المتلائمة معه, والمؤازرة لسيرورته العاطفية وكثافته الانفعالية القاتمة ومن أقسى حالات الحزن أن تتلقى المدارك إشارات الخير والنماء على أنها غير ذلك, فيكون المطر مفتاحا لبوابة الأحزان التي تندلق معانيها وشواهدها في عبارات القصيدة.
تثاءبَ المساءُ, والغيومُ ما تزال
تسحّ ما تسحّ من دموعها الثقال...
هنا يتجلى الكسل والتراخي وفقدان العزيمة والاستسلام, فتغيب روح التحدي والمواجهة والإصرار على صناعة الحياة , فصار المساء يتثاءب متكاسلا ومحاصرا بيأسه وحزنه, وكأن الغيوم تشاركه همومه فتبكي بدلا عنه, أو تبكي معه, لأن دموعها قد تخزنت وتكثفت وازدادت ثقلا وغزارة لدرجة ما عادت تمتلك القدرة على لجم جماح تدفقها وانهمارها الغزير على سفوح الآلام.
كأنّ طفلاً باتَ يهذي قبلَ أنْ ينام: ...
وفي ذروة هذا اليأس والقنوط, يتحقق الهذيان, أو تخيل الأشياء الغير موجودة, فيكون الإنسان في أجواء تساقط المطر وكأنه السجين المقيد, الأسير في ذاته ومكانه, ولا يمتلك القوة على الحركة والتعبير عن الحياة الجميلة, بقدر ما يستكين لأراجيف التصورات والرؤى السوداوية, التي تستدعي ما يناهض الحياة.
بأنّ أمّه - التي أفاقَ منذ عام...
المقطع حاد في التعبير عن الفقدان وشدته وقوته العاطفية وتأثيره في السلوك والتفاعل مع المحيط, وكأنه يريد القول بأن الإنسان في بلاده, قد فقد الرعاية والأمومة, فأصبح تائها بلا دليل ولا تربية, وإنما يتخبط ويتأمل على أن شيئا ما سيتحقق ذات يوم ويتمكن من التفاعل الصحيح مع الحياة.
فلم يجدْها، ثم حين لجَّ في السؤال... البحث عن المفقود لا يؤدي إلى نتيجة, وإنما يدفع إلى سلوكيات مخادعة وتضليلية تجانب الحقيقة وتنكرها, لأننا لا نريد أن نواجه أنفسنا بل نخدعها , ونبرر لها ما تقوم به, ونسقطه على غيرها إن كان غير مقبول وهذا سياق ثابت في تربيتنا منذ الطفولة, وينعكس على تفاعلاتنا في المجتمع عموما.
قالوا له: "بعد غدٍ تعود" ...
وهكذا يتم تجسيد سلوك الكذب والتضليل كأسلوب مريح ومساهم في مساعدة الإنسان على مواجهة الحرمان, فلا يتأكد العمل بالبحث والجد والاجتهاد, وإنما بالتجافي والتجاهل وخداع الذات وتخديرها, حتى تستكين وتذعن لحالها وظروفها لكي تبقى وتتواصل مستعذبة البؤس والحرمان.
لا بدّ أنْ تعود...
يتأكد الكذب ويتكرر بحيث يكون اليقين محض افتراء, فكيف يكون الصدق بعد ذلك هو السلوك المفيد, ما دام الطفل قد كُذِب عليه في أدق حالاته الانفعالية وأصعبها فكيف تعود الأم؟ في هذه الحالة عليه أن يتخيلها ويتوهمها ويتصور كيف تتفاعل معه وتستجيب لحاجاته, وبهذا يتم خلق إنسان مقطوع عن محيطه, ومنشطر عنه, وبذلك لا يمكنه أن يغيره أو يضيف إليه لأنه في حالة انقطاع تام عنه.
وإنْ تهامسَ الرِّفاقُ أنّها هناك...
مرة أخرى يتكرر مشهد مأساوي تربوي يؤدي إلى بذر الشك وعدم الثقة في الإنسان, فالكذب الموجع, والتفاعل الذي يدعو إلى الحيرة وعدم الثقة ينمي قدرات الشك عند الإنسان, ولذلك فإن الإنسان يكون ميالا للشك وسوء الظن كثيرا بغيره وحتى بأقرب الناس إليه. في جانبِ التلِ تنامُ نومةَ اللحود،...
نعم إنها هناك لكننا نكذب عليك لكي نتخلص منك ومن تداعيات معرفتك بحقيقة أمرها, فلن نقول لك الصدق وما عليك إلا أن تكتشفه بنفسك بعد رحلة شقاء وكدر, وفي ذلك تنمية لمشاعر الغضب والعدوان والكراهية والانتقام, لأن الطفل سيبقى يتساءل بحسرة عن ذلك الكذب والتضليل الذي صاغ حياته بطريقة أخرى, وأخذها في مسالك متعثرة وغير مجدية, وحالما اصطدم بالواقع القاسي, تنطلق مشاعره وانفعالاته المحبوسة المضغوطة فتفعل ما تفعله في محيطه الظالم المضاد لمسيرته الآدمية.
تسفُّ من ترابها وتشربُ المطر...
هذا تعبير ثقيل وأليم, فالمطر لا يصلح للأحياء وإنما هو يتسرب إلى مواضع الأموات ويزيدهم موتا. وبهذا تتحقق الصورة الحقيقية عن علاقتنا بالمطر, ولا بد من الغوص في أعماق الصورة وتعبيراتها السلوكية والانفعالية المطر فعل تراجيدي غريب, لا يمكن تفسيره بسهولة, فالإنسان يستاء من المطر ولا يريده, لأن البيوت كانت من الطين, وتصريف المياه متخلف وغير موجود, وكم يفيض النهران بسبب المطر ولا يستطيع الإنسان من مواجهة شراسة الفيضان, وكأنه العدوان الذي يهاجم الناس كل ربيع, حتى نهاية الستينيات من القرن العشرين ولم يستريح الناس من فيضانات النهرين إلا في العقود الخمسة الماضية فالمطر عدوان, ولا ينفع إلا الأموات, وقد يخلصهم من فم التراب ويجرفهم إلى حيث الذوبان في تيارات المياه والتواصل مع دورة الماء في الطبيعة المتغيرة وهذا موقف سلبي ومناقض لطبيعة الأشياء, فالمطر هو الخير, وإنساننا ما تعلم مهارات التواصل مع المطر واستثمار مياهه في التنمية الاقتصادية, حتى غاب المطر وندر, فصار الجفاف ضاربا والمطر عزيزا ومجهولا في أكثر الأحيان.
كأنّ صياداً حزيناً يجمعُ الشباك...
ويلعنُ المياهَ والقدر
وينثرُ الغناء حيث يأفلُ القمر
مطر، مطر...
الفرق بين صياد همنغواي وصياد شاعرنا كالفرق ما بين القطبين, وكأن جلجامش ليس عراقيا, وكأننا ما قرأنا ملحمته التي ترجمها صياد همنغواي الصياد حزين ويائس وتم تفريغه من طاقات التحدي والإصرار, وشحذه بالانفعالات السلبية القاسية, والتفاعلات الإسقاطية الاستسلامية للقوى والقدرات الأخرى, أيا كان عنوانها ورمزها ولكي يزيح مشاعره الأليمة البائسة, لا بد له من الغناء الذي يرسم فيه لوحة نفسه ويسكب أنواء عجزه وبهذه الصور القاتمة الدامعة المتحسرة الكسيرة تتسم أغانينا والشعر الذي نؤكد في ألفاظه وإيقاعاته الرقص على أوردة نزيف الأجيال المذبوحة بالحرمان والظلم والامتهان وهكذا يبدو المطر وسيلة إجهاضية سلبية, تدين فقداننا لمهارات استثماره وتوظيفه لصناعة الحياة الأفضل.
أتعلمين أيَّ حزنٍ يبعثُ المطر؟
وكيف تنشجُ المزاريبُ إذا انهمر؟
وكيف يشعرُ الوحيدُ فيه بالضياع؟
بلا انتهاء - كالدمِ المُراق، كالجياع
كالحبّ كالأطفالِ، كالموتى –هو المطر!
وتعلو صرخة النفور من المطر والتخاطب معه على أنه عدو للوجود وليس مبتدأ إنطلاق روافد الحياة ومشيد حلتها الوارفة الخضراء, فتعلن المزاريب بكائها ويتصاعد عويلها, وتهديداتها ووعيدها لأن المطر سيجرف الأشياء وبسببه تتهاوى البنايات, لأننا ما تعلمنا كيف نجعل الطين يقاوم المطر, وإنما شيدنا بيوتنا من الطين الذي يعشق المطر ويتفاعل معه لصناعة الحياة المعطاء, وبفعلنا قد حرمنا الطين من دوره ورسالته واعتدينا على حرمته ومصيره, فالطين من أدوات الخلق المتجدد ولا يمكن حشره في جدار ولهذا فإن المطر الشديد عنوان وعيد وخطر.
وفي هذا المقطع تجتمع متناقضات فاعلة في السلوك البشري, الجوع والحرمان والوحشة والقتل والمطر! فكيف تتفق مع المطر؟ إن في ذلك دليل على أن الإنسان قد تنازل عن دوره الخلاق ومسؤوليته في المساهمة بالحياة الأفضل, واستثمار المطر في صناعة الطعام وتنمية الإقتصاد فالناس تلهو ببعضها وتستعذب سفك الدماء والتناحر والتصارع على الأشياء بسبب آفة العجز والاستسلام ولهذا فإن كل موجود دامع حزين ويائس ولا يعرف إلا أن يرى بعيون ذات آليات إدراك محنطة.
ومقلتاك بي تطيفان مع المطر
وعبرَ أمواجِ الخليجِ تمسحُ البروق
سواحلَ العراقِ بالنجومِ والمحار،
كأنها تهمُّ بالشروق
فيسحبُ الليلُ عليها من دمٍ دثار
أصيحُ بالخيلج: "يا خليج
يا واهبَ اللؤلؤ والمحارِ والردى"
فيرجع الصدى
كأنّهُ النشيج:
"يا خليج
يا واهب المحار والردى.."
في هذا المقطع تحليق وهروب من مواجهة الواقع والصعود إلى أكوان الفانتازيا والخيال الساعي إلى إرضاء الحاجات بتصورها وتمنيها, فما دام الإنسان عاجزا عن مواجهة مصيره وقيادة أمره, فمن الأفضل أن ينداح في مواقد العيون ويناجيها ويحسبها بساط الريح, فقد تجمعت فيها أسرار المطر وعواديه وكل ما يتصل به من الأحزان والمشاعر والعواطف القاسية, فالعيون عندنا يحمّلها الرجل كل ما يريده ويراه, فينعكس ما فيه من الهموم فيها, فهي مرآة نفسه وصدى صراخات أنينه وحرمانه. وعندما يستجير بالخليج, لا يحصل إلا على الصدى وهو تعبير وتعزيز لمشاعر اليأس وعدم القدرة على الفعل والإبداع الحياتي العملي المتجدد المتسابق مع عجلات العصر الدوارة.
نعم إنه الصدى, فالواقع الذي حولنا هو الصدى الأصيل لما فينا, فما دام العجز سيدنا, فإن كل ما حولنا يبعثه ويشير إليه ويعبّر عنه بوضوح وبسالة.
أكادُ أسمعُ العراقَ يذخرُ الرعود
ويخزنُ البروقَ في السهول والجبالِ
حتى إذا ما فضّ عنها ختمَها الرجال
لم تترك الرياحُ من ثمود
في الوادِ من أثر
أكادُ أسمعُ النخيلَ يشربُ المطر
وأسمعُ القرى تئنّ, والهاجرين
يصارعون بالمجاذيفِ وبالقلوع,
عواصفَ الخليجِ, والرعود، منشدين:
مطر.. مطر .. مطر
في هذا المقطع تتلخص القصيدة بفكرتها الأصلية وما فيها من آليات التفاعل والحراك, فطاقات الحرمان المكبوتة بقوة مكابس الظلم والقهر والاستبداد والجهل والتبعية وسحق الإنسان وتجريده من آلة عقله, كلها تعودت الانفجار بين حين وآخر, وحالما تنفجر تقضي على ما حولها وعلى نفسها, لأن الطاقات المنفلتة تكون عمياء مضطربة ومشوشة, وتجهل العقلانية والحكمة وتنكر الهدوء, فما أن تنطلق حتى تصنع مأساة جديدة تساهم في ترسيخ المآسي الدائبة ويكون المطر عبارة عن متوالية هندسية من التداعيات والملمات القاسية التي تفتك بالشعب على مر العصور فمن الذي يمتلك قدرات الخروج من هذه الدائرة المفرغة المأساوية الحزينة الدامعة المنهمرة الروح كالمطر؟!
"وفي العراق جوع
.......................
.......................
ويهطل المطرْ.." !!؟
تحية لرائد الشعر الحر ولقصيدته الإنسانية النابضة في أعماق النفس البشرية, والمعبّرة عن صدق التواصل الحي الخلاق بين الإنسان وما يختزنه المطر من معاني وتفاعلات مطلقة, ذات آفاق سرمدية مضمخة بندى الأبد والخلود.
ودام الإبداع منارنا الوهاج وسراج مسيرتنا الواعدة الغنية بالجواهر الفكرية والأدبية والعلمية السامقة الساطعة.
واقرأ أيضاً:
وإنّ العقل في نفسٍ تماهى / المدمن على القتل / هزة نفسية...! / يطارد ذيله / يا مرسيا / لماذا يا دمشق لنا المآسي / أنا حرٌّ ...! / بها رمزا نريد / يقظة دمشق / يا نفوسا / رنين / حَبيبُ الله