انتشرت بعد الثورة عمليات الاغتيال المعنوي وشملت العديد من الرموز والجماعات والجمعيات والأحزاب، وهذه العمليات تعني إلصاق تهم أو صفات تحط من قدر الشخص أو الجماعة أو الحزب سواء كانت هذه التهم أو الصفات حقيقية أو مختلقة أو بعضها حقيقي ولكن يتم تضخيمه، والهدف في النهاية هو كسر الهيبة وإضعاف الثقة وتقليل القيمة ومحو التأثير للمراد اغتياله.
والاغتيال المعنوي ربما يكون أقسى وأشد وطأة من الاغتيال الجسدي، فقد يغتال الشخص جسديا فيصبح بطلا في نظر الناس أو يتعاطفوا معه لأي سبب، ولكن في حالة الاغتيال المعنوي فالشخص يظل على قيد الحياة ولكن تلاحقه صورة ذهنية غاية في السلبية والتشويه ويصبح مرفوضا أو منبوذا في المجتمع.
وعمليات الاغتيال المعنوي ليست عمليات نظيفة في مجملها، فهي تستغل أحط مافي الإنسان (الذي يمارس الاغتيال) من صفات، إذ يحمل في نفسه الكراهية التي تصل لدرجة العنصرية تجاه الشخص المقصود (أو المجموعة أو الهيئة المقصودة) وهذا يدفعه لإسقاط كل مالديه من نقائص وانحرافات وتشوهات وتصورات مريضة عليه، ولا يكتفي بذلك بل يتربص بالشخص ويتجسس عليه ويتتبعه ويبحث في تاريخه القديم والحديث عله يعثر على زلة يستخدمها للتشهير به وفضحه وإهانته، وإذا وجد تلك الزلة فإنه يوسع دائرتها ويضيف إليها من قريحته العدوانية ما يجعلها خطيئة لا تغتفر، وحتى إذا لم يجد تلك الزلة فإنه يختلق مجموعة من الأكاذيب والشائعات ويظل يرددها بكل الوسائل المقروءة والمسموعة والمرئية حتى ينال من خصمه.
والشخص الذي يمارس الاغتيال المعنوي تعرفه ببعض العلامات منها إلحاحه المستمر على تشويه ضحيته، وابتعاده عن الموضوعية، ومبالغاته الواضحة، وتسليطه الضوء على عيوب الضحية طول الوقت بحيث لا يرى فيه إلا العيوب والخطايا والتشوهات ويعجز عن رؤية علامة إيجابية واحدة فيه، كما تعكس لغة الجسد لديه حالة من الغضب والقرف والاشمئزاز والعدوانية والعنصرية بينما هو يتحدث عن ضحيته أو ضحاياه.
ولقد رأينا بعد الثورة العديد من عمليات الاغتيال المعنوي ضد أفراد وجماعات، نذكر منها:
1- الدكتور البرادعي، وما ألقي عليه من اتهامات بالعمالة لأمريكا، وأنه تسبب بتقاريره وهو في الوكالة الدولية في تدمير العراق. ولا يخفى على أحد أن الرجل تأثر بشكل أو بآخر خاصة حين تعرض للهجوم عليه في أحد جولاته الشعبية، وقد جعله هذا يتحرك بحذر ويتردد في النزول إلى الشارع، ويتراجع عن الترشح لرئاسة الجمهورية.
2- السلفيين، خاصة حين دخلوا عالم السياسة –وهم بعد قليلي خبرة به– فانطلقت السهام نحوهم من كل ناحية، واستغلت أخطاء وتصريحات بعض المنتسبين إلى التيار السلفي بهدف تشويه هذا التيار، وألصقت إليه تهم مثل الظلامية والرجعية والتخلف والتحجر والسطحية والانغلاق. ولكن التيار السلفي استطاع رغم هذا أن يطور نفسه ويكتسب المزيد من الخبرة في وقت قليل وأن ينافس في الانتخابات ويصبح رقما مهما في المعادلات السياسية.
3- المجلس العسكري، حيث استغلت قلة خبرته بعالم السياسة، واستغلت بعض الأخطاء التي حدثت (بقصد أو غير قصد) للهجوم الشرس على المجلس العسكري وخاصة الرؤوس البارزة فيه، وخرجت المظاهرات تطالب بمحاكمته وأحيانا بإعدامه. والواقع يقول بأنه رغم أي أخطاء حدثت إلا أن أعضاء المجلس العسكري وضعوا أرواحهم على أكفهم وغامروا بحياتهم حين تخلوا عن مبارك ووقفوا في صف الشعب، وكان يجب وضع ذلك في الإعتبار حين التعامل معهم، ولكن عمليات الاغتيال المعنوي لم ترحمهم، وربما ساهمت في إقصائهم المبكر وتغيير موازين القوى بما أضر بخريطة السلطة ومصالح الوطن. وربما شعر المصريون أو قطاع منهم بما حدث من اغتيال فعادوا الآن يعلون من قدر المجلس العسكري بل ويطالبونه بإدارة شئون البلاد مرة أخرى ووصلوا إلى عمل توكيلات رسمية له بذلك، واعترف عدد من الكتاب بما قدمه المشير طنطاوي لمصر، وبأنه وعد بترك السلطة للرئيس المنتخب ووفى بوعده فعلا.
4- الشرطة، وخاصة أن الشرطة قد تم توريطها في مواجهة الشعب إبان حكم مبارك والتصقت بها أخطاء وصلت إلى حد الجرائم، فكان من السهل ممارسة عملية الاغتيال المعنوي لها وتشويهها وكسر معنويات أفرادها وتحريض الناس للتطاول والاعتداء عليها، وكان هذا أحد (وليس كل) أسباب إحجامها عن أداء وظيفتها واتخاذها لموقف المتفرج وأحيانا الشامت فيما يجري من فوضى وانفلات أمني. وعلى الرغم من كل أخطاء جهاز الشرطة إلا أن الحل لم يكن في الاغتيال المعنوي بل في التطهير الحقيقي وإعادة الهيكلة مع استبقاء الاحترام والتقدير لهذا الجهاز الحيوي.
5- شباب الثورة، وهؤلاء على الرغم من فرحة الناس وحفاوتهم بهم في البداية بسبب ما أنجزوه من بطولات في التخطيط والتنفيذ للثورة، وقدرتهم على إسقاط رأس النظام بطريقة إبداعية متحضرة، إلا أنهم لم يسلموا من الاغتيال المعنوي، حيث تم استضافتهم بكثافة في وسائل الإعلام ونصبت لهم أفخاخا وتم استدراجهم حتى يبدو أمام الناس في صورة المندفعين المتهورين الذين لا يحترمون الكبار ولا يتمسكون بالقيم المصرية، وأنهم صناعة أجنبية ويعملون لحساب أجهزة مخابرات غربية..... إلى آخر الإتهامات والتشويهات، وكانت النتيجة ابتعاد الكثيرين منهم عن ساحة العمل الثوري والسياسي، وانصرافهم إلى أعمال أخرى ربما لاتليق بهم كأبطال ثوريين.
6- الإخوان المسلمون، وقد استغلت العديد من القوى المناوءة لهم أخطاءهم للتشهير بهم من خلال آلة إعلامية ضخمة معادية للإخوان في مجملها، ونجحت هذه القوى في تصدير صورة ذهنية سلبية جدا للإخوان، ولم يكن لدى الإخوان الوعي الكافي ولا القدرة الإعلامية الكافية لصد هذا الاغتيال المعنوي، بل إن وجودهم في السلطة أعطى الفرصة للمعارضة التي تفرغت تماما للهجوم عليهم ليل نهار للنيل منهم وضربهم في مقتل.
7- جبهة الإنقاذ، والتي لم تسلم من الاغتيال المعنوي، وانقسمت وتفتتت بسرعة خاصة وأنها كانت تحمل عوامل تفتيتها منذ البداية، ونسب إليها كل أعمال الشغب والعنف في المظاهرات والاحتجاجات الأخيرة وتمت السخرية من زعمائها ومفكريها على المواقع الإلكترونية، وضرب أحدهم على قفاه في ميدان التحرير.
8- الثورة نفسها يتم اغتيالها معنويا بسبب ما حدث من أخطاء في المرحلة الانتقالية وما حدث من تعثرات ونكبات سياسية واقتصادية واجتماعية نسبت إلى الثورة والثوار لدرجة أن قطاعا من المصريين أصبح يتشكك في جدوى الثورة وربما يشعر بالندم لقيامها أو المشاركة فيها.
9- بعض الدعاة وعلماء الدين خاصة الذين اشتبكوا مع المشكلات السياسية والاجتماعية والأحوال الحياتية المضطربة.
ولم تقتصر أساليب الاغتيال المعنوي على المقالات والحوارات والمناقشات، وإنما امتدت وتقوت من خلال برامج ساخرة تهز من قيمة ووقار واحترام الشخصيات والجماعات والأحزاب بحيث لا يبقى لأحد هيبة أو احترام. ولا ننسى النشاط الإلكتروني على الإنترنت والذي يمارسه ويشارك فيه ملايين الشباب من كافة الاتجاهات. وقد يخلط البعض بين النقد والاغتيال المعنوي فالأول مشروع ومطلوب لإصلاح المسيرة والثاني مدان ومرفوض لأنه يهدم المقومات البشرية في المجتمع. وللأسف الشديد يساهم في هذا الاغتيال المعنوي (بوعي أو بدون وعي) مجموعة من الإعلاميين الموهوبين ذوي الشعبية الواسعة والتأثير الخطير.
والنتيجة النهائية لذلك هي سقوط كافة الرموز الفردية والجماعية وفقدان الثقة بين الجميع وفقدان الأمل في أي نهوض أو إصلاح، وتدهور صورة الآخر وصورة الذات لدى الجميع، وفقد بوصلات التوجيه في المجتمع، ويدع الأمر في يد الشارع الذي يديره ويحركه مجموعة من المغامرين والمندفعين والمتهورين ليدخل المجتمع في حالة احتراب داخلي لا يعلم مداه أحد.
واقرأ أيضاً:
مازوخية المصريين: باي باي ثورة!/ فرط الطمأنينة في خطاب الرئيس/ من يوقف هذا السلوك الانتحاري الإخواني ؟/ الهجوم على المقرات شرارة الحرب الأهلية