(ينتظــــــر صــدور الطبعــــــة الــــجديـــدة للدليـــل التشخيــــصي للأمــــراض الــــنفسيــــة العـــــــــــام الـــــحــــــــــالــــــي 2013 ، ستكون هنـــــــــاك تغييــــــــــــــــرات مثيــــــــــــــــــرة).
العام 1969، تقدم "دافيد روزينهان" إلى مصلحة الاستقبال في مستشفى للأمراض العقلية بـ"بنسلفانيا". كان يشتكي من سماع كلمات وأصوات غريبة تتردد في رأسه: "فارغ" "صوت أصم" و"أجوف". فتم إدخاله على وجه السرعة للاستشفاء على أنه مصاب بالفصام الشخصي Schizophrenic Disorder ، على الرغم من كونه لم يُظهــــر إلا هذا العرَض الوجيد. لم يكن "دافيد روزينهان" هذا إلا أستاذ علم النفس بمعهد "سوارتمور"، والذي واصل اللعبة مع المستشفيات الطبنفسية، فتم قبول سبعة من طلبته وأصدقائه في أحد المستشفيات على اعتبار أنهم يسمعون أيضا أصواتا غريبة. وكانت شكواهم الوحيدة. فكان تشخيص الأطباء النفسيين الفصام الشخصي أو الاضطراب الثنائي القطب. ووُصِفت لهم الأدوية المضادة للذهان.
بالطبع لم يأخذ هؤلاء الأشخاص الدواء، ولم يكونوا يسمعون الأصوات، ولم يتحقق أحد أنهم كانوا أصحاء، وذلك ومنذ البداية- لم تكن الأصوات إلا حيلة الدكتور روزينهان. (المتوفي السنة الماضية-فبراير 2012).
على إثر حادث المرضى الوهميين هذا، كُتب المقال الشهير في مجلة العلوم "SCIENCE" العام 1973: "شخص معافي في أماكن ليست كذلك". الخلاصة أن الأطباء النفسانيين لم يكونوا يتوفرون على وسائل موثوقة لتشخيص المرض العقلي.
أدت تجربة الدكتور "روزينهان" إلى تحويل جذري للدليل المرجعي للأطباء النفسانيين، الدليل التشخيصي والإحصائي للأمراض النفسية (DSM)، الذي تصدره الجمعية الأمريكية للطب النفسي (APA). تمت مراجعة وإتمام الدليل، وسمي بالدليل الثالث (DSMIII) وصدر العام 1980، وكان يربط كل مرض بلائحة من الأعراض، التي يتوجب وجود الكثير منها ليكون التشخيص سليما. في الطبعات السابقة، كانت الأوصــــــــاف تترك المجـــال للكثير من التأويــل الشخصــــي، هذا الدليــــل يمثل دائمــا المرجــــع في الطب النفســـــي.
الآن، تُعِد الجمعية الأمريكية الإصدار الخامس ويتوقع نشره في مايو 2013. الدليل الرابع (VDSM-I) كان مشابها للدليل الثالث (DSM-III). على العكس، يمثل الدليل الخامس (5 - DSM) التغيير الهام الأول مند 30 سنة (تخلت الجمعية في هذه الطبعة عن الأرقام الرومانية). وبفرض تشخيصات أكثر دقة ولتتبع تطور المرض، سيُدخل الدليل توصيات تتعلق بخطورة الأعراض. ويحذف محررو الدليل نهائيا بعض الأعراض ،مثل متلازمة أسبرجر، ويضيفون أعراضـــــا جديـــدة، منهــــا، فرط الأكل الشــــرهي وإدمان الألعاب.
وقد تم انتقاد الجمعية الأمريكية للطب النفسي بحدة لكونها لم تسمح بشفافية عملية مراجعتها. العام 2010، سمحت الجمعية بالاطلاع على الطبعة الرقمية للدليل الجديد على موقعها على الإنترنت، وذلك من أجل جمع تعليقات العموم. كان حجم الإجابات مفاجئا للناشرين: 50 مليون وصلة صادرة عن 500.000 شخص، وأكثر من 100.000 من التعليقات لحد الآن. الكثير من الانتقادات وُجهت للدليل حسب بعض الأطباء النفسانيين، يتضمن المؤلَّف اضطرابات أكثر مما يوجد في الواقع، مما يسمح بتشخيصات لا لزوم لها – خاصة لدى الأطفال.
بالرغم من أن العديد من الأطباء النفسيين لا يتبعون الدليل حرفيا – ويعتمدون بالأحرى على تجربتهم الشخصية لوضع تشخيص ما- ، يحدد هذا الدليل في جزء كبير منه التشخيصات التي يضعها الأطباء السريريون.
باختصار
- سيصدر الإصدار الخامس للدليل التشخيصي والإحصائي للأمراض النفسية مايو 2013 .
- إنه أول تغيير للتشخيص الطبنفسي مند 30 سنة.
- ستحذف الطبعة الجديدة للدليل تشخيصات طبنفسية مختلفة، مثلا متلازمة أسبرجر واضطراب الشخصية البارانوية.
- ستتم إضافة تشخيصات جديدة، دون شك فرط العنف لدى الأطفال، وإدمان الجنس.
في الولايات المتحدة، تشترط شركات التأمين في غالب الأحيان تشخيصا للدليل قبل صرف التعويضات العلاجية، وبعض المصالح التربوية والاجتماعية -مثل البرامج المدرسية الموازية للأطفال التوحديين- تشترط ذلك أيضا. وبالتالي سيكون الأطباء النفسانيون مجبرين على اقتصار تشخيصاتهم على الاضطرابات التي حددها الدليل.
نقائص الدليل
يعتبر هذا الإصدار في طور الإعداد، بالرغم من أن المراجعة قد تمت بنسبة %90، وقد تنظر الجمعية الأمريكية للطب النفسي في إحداث تغييرات هامة، بل إلى حد التفكير في تأخير إصدار المؤلف. وحتى بعد صدوره، يبقى الدليل محاولة طموحة للإحاطة بعلم في تطور دائم، وغامض في غالب الأحيان.
وحول الطريقة الأفضل لمراجعة مرجع الأمراض الطبنفسية هذا، اقتُرحت عشرات التوصيات. في أبريل 2006 ، أوكلت الجمعية الأمريكية للطب النفسي مهمة تحليل الأدبيات العلمية واقتراح مراجعات الإصدار السابق إلى الأخصائي النفسي السريري "دافيد كبفير" والطبــــيب النفســــــــي "داريل ربجير" وهما بالتوالــــــــــي رئيس ونائب رئـــيس فريق علمــي مكـــون من 27 عالما.
وقد سجل هؤلاء الباحثون نقائص كبرى كثيرة في الدليل الرابع. أولاها، إن الكثير من الأعراض كانت متشابهة إلى درجة أن العديد من المرضى يخرجون من الكشف الطبي النفسي بتشخيصات عدة بدل تشخيص واحد. واحتمال ضئيل أن يشتكي العديد من المرضى من أعراض عديدة متزامنة. في رأي "ستيف هيمان"، عضو مجموعة العمل هذه، العملية الإدراكية نفسها، مثل طريقة تفكير غير متكيف أو نمو دماغي خاص، قد تتجلى على شكل أعراض مشتركة لأمراض عديدة. ومن أجل تجنب هذه العقبة، قام مسئولو المؤلّف الجديد بدمج بعض الأعراض المتقاربة جدا في أصنــاف أكثر اتساعا، مثل طيف الاضطرابات التوحدية (انظر الصفحة 12).
كما أن المرضى وطبيبهم النفسي يواجهون في أحيان كثيرة الصعوبة المعاكسة: قد تكون أعراض المريض أقل عددا أو أكثر اعتدالا من تلك التي يصنفها الدليل، أو لا تطابق بتاتا أي من الأمراض المصنفة. في هذه الحالات، يتحدث الأطباء النفسيون عن "اضطراب غير محدد Not Otherwise Specified Disorder " لكثير من مرضاهم. والاضطراب الغذائي الأكثر تشخيصا هو "الاضطراب الغذائي غير المحدد Eating Disorder Not Otherwise Specified "، أو أيضا، في مجال التوحد: ما هو الاضطراب السائد في الطيف التوحدي Autistic Spectrum ؟ حسب أغلب التقديرات، إنه "الاضطراب النمـائي الشامل غير المـــحدد" والاضطراب الثالث للشخصية الأكثر شيوعا هو "اضطراب الشخصية غير المحدد".
وإذا كان مهنيو الصحة يرجعون إلى تشخيصات واسعة جدا، ففي الدليل الحالي الآن ثغرات هامة، لكن في نفس الوقت، مداخل مهمة عديدة. وهكذا، يشجع الدليل الخامس (DSM-5) الأطباء النفسانيين على استقصاء معلومات أكثر تفصيلا حول أعراض المرضى. نظريا مع اعتبار عدد أكبر من المعطيات وتوصيفات أكثر احتمالا في الدليل، من المفترض أن يعطي الأطباء تشخيصات أكثر موثوقية.
ترى هل سيمَكن الدليل الخامس بشكل أفضل من الموسوعات السابقة من تجنب إدخال إلى المستشفى لا لزوم له ومن تشخيصات غير مجدية؟
درجـــات مختلفة من الاختلال
من أجل تحسين التشخيص، يدعو الدليل الخامس الأطباء إلى التقييم الدقيق لخطورة أعراض مرضاهم. مثلا، يجب أن يتضمن تقرير عن اكتئاب خطير تقييما دقيقا لكل عَرض – مثلا الأرق أو الأفكار الانتحارية. أو أيضا قدرة طفل مشكوك في إصابته باضطراب فرط النشاط مع نقص الانتباه يجب أن يقاس على سلم يبتدئ من ضعيف إلى ممتاز.
ويرمز هذا التغيير إلى رفض المفهوم التبسيطي الذي تُعرف-وفقه الأمراض النفسية على أنها حالات خفية متميزة تماما عن الحالات النفسية السليمة. على العكس، تعكس النسخة الجديدة الفكرة التي مفادها أن الكل يوضع على قائمة متصلة من سلــــوك نوعي إلى سلوكيـــــــات تطابق درجات مختلفة من الاختلال. وتحدد الدرجة على هذا السلم ما إذا كان يجب علاج المرض أم لا. ويمكن هذا الإجراء من مساعدة الأطباء النفسانيين على تقييم صعوبات الانتباه لدى المريض، صعوبات تبدو تقريبا منهجية لدى الطفل الصغير.
ومقارنة فرد مع آخرين قد تساعد على كشف حالات تتطلب المساعدة. بالطبع، خلال ممارستهم اليومية، يستعمل الأطباء النفسانيون سلالم عديدة واستقصاءات مختلفة . الدليل الخامس يعمل على تقييس هذه السلالم بحيث يستخدمها الأطباء جميعا لتقييم اضطراب معين، وبالتالي يزيدون من احتمال الوصول إلى نتائج مشابهة حول مرضى للمقارنة.
وبهذا قد تمكن هده التقييمات من توحيد أفضل للعلاجات، فتغيير أسلوب الحياة مثلا له حظوظ أكبر ليكون مفعوله أكثر من أدوية مضادة للاكتئاب، حيث تشير دراسات حديثة أنها أكثر فعالية لدى أشخاص يعانون الاكتئاب الحاد. ويمكن للأطباء النفسانيين والمرضى أيضا التتبع الجيد لتطور المرض. فالانتقال من "خطير" إلى "معتدل" على سلم الاكتئاب قد يحسن في حد ذاته مزاج المريض، محفزا إياه على مواصلة التغييرات التي سمحت له بالتقدم.
نحو تقييم كمّي أكثر
في نظر بعض الأطباء، عملية القياس الكمي للأمراض قد تكون لها آثار فاسدة. وهكذا، تجميع اضطرابات كثيرة مختلفة في البداية تحت خانة التوحد، مثلا، يثير تخوفهم من أنه قد لا يتم تشخيص الأشخاص التوحديين ذوي الأعراض الخفيفة أو العناية بهم. وأثيرت مسائل أخرى تتعلق بالتعاضديات الأمريكية للصحة: هل هذه السلالم قادرة على التأثير على سياستهم التسعيرية؟
وستفرض الإجراءات الجديدة أن يخضع المريض المفترض لتقييمات واستقصاءات أكبر عددا عما ذي قبل، مؤدية إلى زيادة وقت الممارسين لوضع التشخيص .وينشغل بعض الأطباء النفسانيين من كون هذا العمل الإضافي قد يحبط بعضا من زملائهم من الاستخدام السليم للدليل. – وبعضهم اقترح صراحة التخلي الواضح والصريح عن تقييم الخطورة. وبشكل أكثر عموما، أبدى الأطباء النفسانيون شكوكا حول إضافة بعض الاضطرابات حيث لا تبدو طبيعتها المرضية مثبتة (انظر الإطار أسفله).
تغيير هام آخر في الدليل يتمثل في طريقة تجميع الاضطرابات. كان الدليل الرابع منتظما حول ثلاثة أصناف من الأمراض. كانت المجموعة الأولى تضم مجموع الاضطرابات السريرية الرئيسية، كالاكتئاب Depression ، الاضطراب الثنائي القطب Bipolar Disorder والفصام الشخصي، والثانية، اضطرابات الشخصية Personality Disorders والنمو والثالثة الاضطرابات المرتبطة بالمرض النفسي (أمراض السكري أو مرض الغدة الدرقية مثلا قد تفاقم الاكتئاب). الدليل الخامس لا يعود إلى هذه التقسيمات العشوائية نسبيا. بل يتبنى بدل ذلك تصنيفا متدرجا زمنيا للأمراض، مبتدئا بالأمراض التي يشخصها الأطباء النفسانيون نمطيا خلال الطفولة المبكرة أو الطفولة –كاضطرابات النمو العصبي– ومعالجا تلك التي نجدها كثيرا لدى الراشد، كالاختلالات الجنسية. وهكذا، من أجل تقييم طفل يبلغ من العمر ثلاث إلى خمس سنوات، قد يأخذ الطبيب النفساني في الحسبان بداية الدليل الخامس أو الفصل المخصص بإسهاب للاضطرابات لدى الطفل.
وكلما زادت الدراسات الجينية والتصوير العصبي من فهمنا للعلاقة بين الأمراض، سيتم تكييف الدليل. وقد تعتزم الجمعية الأمريكية للطب النفسي إصدار الدليل الجديد على شكل ورقي ورقمي. وكل إصدار سيتم مراجعته بشكل منتظم على شكل تحيينات متتالية (5.1 ، 5.2 ،الخ).
- أخيرا، يرمي الباحثون إلى أن يتطور الدليل على إيقاع الاكتشافات المنجزة في البيولوجيا العصبية، يأمل العلماء يوما ما إيجاد "مَعْلمات بيولوجية" للمرض النفسي – جينات، بروتينات أو إعدادات للنشاط الدماغي كفيلة بتمثيل توقيعات خاصة بالاضطرابات النفسية. ومن شأن اختيارات مختبريه مبينة على هذه المحددات أن تجعل تشخيص الأمراض النفسية سهلا، وسريعا ودقيقا.
لقد كان الدليل التشخيصي والإحصائي للأمراض النفسية دائما دليلا ميدانيا أوليا لأن الكيمياء المصاحبة للأعراض النفسية تبقى غير مفهومة بشكل جيد. وإذا كانت التوصيفات منذ العام 1950 قد تحسنت، فلا أحد يدعي أن الدليل التشخيصي دليل كامل للمرض النفسي، لكن كل إصدار يأتي بمعلومات أكثر دقة وأكثر موثوقية، وبهذا يتم تحسين فهم الناس لأنفسهم.
ويتبع >>>>>>>: إعادة تعريف الأمراض النفسية2
مترجم عن مجلة « cerveau et psycho » العدد 55 يناير-فبراير 2013
العنوان الأصلي: Redéfinir les maladies mentales
"فيريس جبر" Ferris Jabr - صحفي علمي بنيويورك.
واقرأ أيضًا:
نماذج في الصحة النفسية Models in Mental Health / المراجعة الطب نفسية فحص وتشخيص / تشخيصات محملة عبر الإنترنت / مصطلحات نفسية Psychiatric Terms