قلت قبل أربعة شهور في سياق مقالي المعنون ثورة سلمية محمية ما يلي:
بعض السوريين متفائلون بحسم قريب وسقوط كامل للنظام، لكن القلقين المشفقين المتحيرين فكثيرون، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه يقدمون على الموت بكل إخلاص، وملايين من المدنيين بين مشرد ومحاصر ومصاب.
الدعوات متناقضة بين من ينادي بالجهاد المسلح مهما بلغت الخسائر والتضحيات في سبيل الحرية والتخلص من النظام، وبين من ينادي بسلمية الثورة لأنه يرى السلمية أقوى أثراً وأقل ضرراً. لكن من ينادي بالسلمية وأنا منهم يقف متحيراً ماذا يرد على الذين يجادلونه ويضربون الأمثلة من جرائم النظام التي فاقت كل التوقعات، ويسألونه مستنكرين: هل من المعقول أن تطلب من الناس أن يكفوا أيديهم ولا يدافعوا عن أنفسهم وأعراضهم وأموالهم ومساكنهم؟.
لو التزم السوريون السلمية الكاملة وامتنعوا عن أن يبسطوا أيديهم بأي عنف حتى لو دفاعاً عن النفس والعرض والمال والديار لأمكن إسقاط النظام بسرعة أكبر ولكانت النتائج مضمونة أكثر.
أنا مؤمن أن اللاعنف أو كفُّ الأيدي كما سماه القرآن الكريم سلاح فعال في الصراعات ضمن المجتمع الواحد أكثر من القتال والجهاد المسلح بكثير. لي أكثر من عشرين عاماً وأنا أتفكر باللاعنف كوسيلة للتغيير الاجتماعي والسياسي وذلك منذ أن تعرفت على الشيخ جودت سعيد والدكتور خالص جلبي وقرأت كتبهما أكثر من مرة. المهم اقتنعت باللاعنف قناعة تامة ومازلت على قناعتي به، لكن كلمة قالها لي صديقي الدكتور مأمون مبيض الذي يؤمن مثلي باللاعنف رداً على تأكيدي أنه على الثورة السورية أن تعود سلمية مئة بالمئة وعلى مبدأ ابن آدم الأول: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)) {سورة المائدة}.
أجابني إجابة ذكية ساعدتني كثيراً على العودة إلى الواقعية الحكيمة، قال لي: "ما تقوله يحتاج إلى قديسين ليقوموا به". وعبارته تتضمن أن السوريين فيهم ضعف البشر وليسوا قديسين ولا أنبياء ولم يستطيعوا الصبر على العدوان الهمجي الذي تعرضوا له دون أن يتصرفوا التصرف الطبيعي المتوقع من البشر وهو رد العدوان بعدوان مثله، لعل ذلك يردع المعتدين ويعجل بانزياح الكابوس عن صدورهم.
كنت ومازلت معجباً كثيراً بصمود اليمنيين أمام استفزاز نظامهم ومحاولته دفعهم إلى الثورة المسلحة بدل السلمية، فثبتوا على السلمية رغم أنهم أكثر شعب عربي مسلح حتى في الأحوال العادية، ويقال إن الشعب اليمني يمتلك أكثر من خمسة ملايين قطعة سلاح، وأنا أعتقد من الناحية النفسية أن امتلاكهم السلاح من قبل الثورة بكثير حماهم من الإذلال الذي تعرض له السوريون على مدى أكثر من أربعين عاماً، وبالتالي أكسبهم وجود السلاح بأيديهم دائماً، ثقة بالنفس، جعلتهم لا يتصرفون بأسلوب رد الفعل، ولا ينفع معهم استفزاز نظامهم لهم من خلال قنص مئات المتظاهرين السلميين في يوم واحد، لكنني حتى لا أظلم السوريين وأنا أقارنهم بإخوتهم اليمنيين أقول الله وحده يعلم كيف كان اليمنيون سيتصرفون لو اتبع نظامهم سياسة الاغتصاب الممنهج المتعمد بهدف الإذلال والتخويف والدفع إلى السلاح، نحن أمة لا تتحمل الاعتداء على العرض ويصعب على أبنائها أن يملكوا أنفسهم وأن يحافظوا على السلمية المطلقة وهم يرون شرار الناس يعتدون على بناتهم وأخواتهم، واليمنيون من أشد الشعوب العربية تمسكاً بهذه القيم الأصيلة.
في مقالاتي السابقة عن الثورة السورية وبخاصة في مقالي الرابع "الثورة السورية بين العنف واللاعنف" دعوت إلى السلمية وكفِّ الأيدي، لكنني قلت إن ذلك لا يتناقض مع كون من مات دون نفسه فهو شهيد، ومن مات دون ماله فهو شهيد، ومن مات دون أهله أي عرضه فهو شهيد، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح.
لم أكن أناقض نفسي يومها، لكننا بحاجة إلى بعض التفكر لنكتشف الموقف السليم الذي يريده الإسلام منا في مثل هذه الأزمات. كلنا يعلم أن في الإسلام رخص، وفيه عزائم، فيه تعاليم تدعو للأمثل في كل شيء، وفيه الإذن بفعل ما يتماشى أكثر مع الضعف البشري، لكن ضمن إطار من العدل والطاعة لله ورسوله. القرآن الكريم صور المؤمنين أنهم أناس يكظمون الغيظ ويعفون عن الناس ويدفعون السيئة بالحسنة، قال تعالى في سورة آل عمران: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134))، وقال في سورة فصلت: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)}. وقال في سورة الشورى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ(37)}، وقال في سورة الجاثية: {قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(14)}.
إذاً هي دعوة إلى أن تدير خدك الأيسر لمن لطمك على خدك الأيمن، فلا ترد اللطمة باللطمة ولا الإساءة بالإساءة، بل تصبر وتغفر، فيكون قلبك نقياً من الغل والحقد، مما يُمَكِّنُك من أن تحسن لمن أساء إليك، إحساناً صادقاً من كل قلبك، وعندها تستطيع تغييره بدل تدميره، فيتحول كأنه ولي حميم، وإن لم يتحول إلى ولي حميم بكل معنى الكلمة. القرآن يدعو المؤمنين ليغفروا حتى للذين لا يرجون أيام الله من الكفار والملحدين والمشركين، ولا يقصر دعواه على الصبر والمغفرة على الحالة التي يكون فيها المعتدي أو المسيء مؤمناً مثلهم؛
وهذا يعني أننا مدعوون لأن نغفر للمسيء إلينا لا من أجله، فالله سيجزيه بما عمل، إنما دعانا إلى أن نغفر لترتاح صدورنا من مشاعر الغيظ والغل والحقد، وليزول الجدار الذي تشكله هذه المشاعر بيننا وبين إخوة لنا في الإنسانية أساؤوا إلينا، فنحسن إليهم ونرد الإساءة بالحسنة، وعندها يتحقق لنا ما نسعى إليه عندما نرد على العدوان بالعدوان، يتحقق لنا دفع العدوان وتجنب المزيد منه، وحماية أنفسنا من المزيد من الأذى والإساءة، وهذا واضح في قوله تعالى: ادفع بالتي هي أحسن السيئة، أي ليس الأمر عجزاً واستسلاماً وسلبية تغري المعتدي بمزيد من العدوان، بل هو دفع للإساءة، لكن بوسيلة مثالية راقية تجعلنا ننتصر على الخصم بتحويله إلى ما يشبه الولي الحميم بدل العدو اللدود الذي كانه.
هذه هي العزيمة أما الرخصة التي تتجاوب مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها أكثر، وإن كانت دونها في الرقي والسمو الخلقي والتأثير في الغير، فهي رد الإساءة بإساءة مثلها، لا بإساءة تفوقها، فقد توعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُمَثِّل بسبعين من المشركين، لما رأى تمثيلهم الحاقد بجثة عمه الحبيب إلى قلبه حمزة رضي الله عنه في غزوة أحد، فنزل القرآن الكريم بقوله تعالى في سورة النحل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ(128)}.
إن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، هذا إن عاقبتم، وإن هنا تشكك بوقوع المعاقبة، لكن تأذن بها في الوقت نفسه، دون تشجيع عليها، بل الحض هو على الصبر والإحسان، ومعه تذكير أن الصبر خير للصابرين من الانتقام، وأن الله مع المتقين، ومع المحسنين، الذين لا يظلمون، والذين يصبرون أكثر مما يعاقبون.
قال تعالى في سورة الشورى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ {37} وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {38} وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ {39} وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {40} وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ {41} إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ {42} وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ{43}}.
هذه الآيات الكريمة تلخص الموقف الإسلامي بكامله عند التعرض للعدوان، فهي تدعو إلى المغفرة، لكن تأذن برد العدوان بعدوان مكافىء، وتنهانا عن أن نظلم حتى الذين بادرونا بالعدوان والأذى، اقرؤوها مرة أخرى وتأملوها لتعلموا روعة هذا الدين الذي يجمع بين المثالية والواقعية جمعاً رائعاً مريحاً للنفس البشرية.
ومثال آخر لعل الفكرة تتضح أكثر.. يقول تعالى إن عشرين من المؤمنين حق الإيمان والصابرين حق الصبر يغلبون مئتين من غير المؤمنين، وإن مئة من المؤمنين الصابرين يغلبون ألفاً من الذين كفروا، قال تعالى في سورة الأنفال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ(65)} ثم قال: {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)}.
ونعود إلى موضوعنا الأصلي، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عنِ الأَحْنَفِ بنِ قَيْسٍ قال: ذَهبتُ لأنْصُرَ هذا الرَّجُلَ، فلَقِيَني أبو بَكرةَ فقال: أينَ تُريدُ؟ قلتُ: أنصُرُ هذا الرَّجُلَ: قال: ارْجِعْ، فإنّي سَمِعْتُ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلّم يقول: «إذا الْتقَى المُسْلِمان بسَيْفَيْهما فالْقاتِلُ والمقتولُ في النار. فقلتُ: يا رسولَ اللّهِ هذا القاتِلُ، فما بالُ المقتول؟ قال: إنه كان حَريصاً على قتلِ صاحبِه».
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم: «مَن قُتِلَ دُونَ مالِه فهو شَهيد». وقال فيما رواه أحمد في مسنده: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد». وروى النسائي في سننه الصغرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»....
هو شهيد إذن إن قتل وهو يدافع عن نفسه أو ماله أو عرضه، هذا بغض النظر عن دين المهاجم وعلاقته بالمؤمن الذي يقاتل دفاعاً، أي إن القتال دفاعاً مشروع والموت فيه استشهاد حتى لو كان المعتدي شيخ الإسلام، ومؤمناً لا يفوقه أحد في العبادة كما كان الخوارج. وكما هو حال الكثيرين من الجهاديين التكفيريين الذي يستحلون دماء الناس في زماننا هذا، مع أنهم غالباً متدينون وربما كانوا شديدي الالتزام الديني والتعبد فيما سوى استباحتهم لدماء الآخرين، الدفاع مشروع سواء كان من يهاجمك مسلماً أو كان كافراً، لكن أن يلتقي المسلمان بسيفيهما فهو محرم، وكلاهما في النار.
ما الحل عندما يكون من يعتدي علي مسلماً، وأريد أن أقاتله لأحمي نفسي ومالي وعرضي؟ الحديث الذي يحرم التقاء المسلمين بسيفيهما يقول: إذا التقى المسلمان بسيفيهما، أي خرج كل منهما من دياره ليلقى الآخر بسيفه، وكلاهما مؤمن بالعنف والقتال وسيلة لحل الخلاف، فيقاتله على أمل الغلبة وفرض الإرادة، أي يكون التقاؤهما بالسلاح هجوماً مقصوداً من كل منهما لا هجوماً من أحدهما ودفاعاً من الآخر، إنما مبادرة لمهاجمة الخصم وعدواناً استباقياً قبل أن يبدأ الخصم هجومه.
خروج المسلم للقاء المسلم بالسيف حرام، والقاتل والمقتول فيه في النار، لكن الدفاع حلال، والمقتول فيه من المدافعين شهيد.. أي عندما نقاتل جنود النظام وشبيحته ومخابراته إن هاجموا بيوتنا أو أحياءنا أو بلداتنا لنذود عن أنفسنا بما في ذلك أولادنا وأهلينا ولنحمي أموالنا وأعراضنا، فإن قتالنا يكون في سبيل الله، ومن يموت منا فهو شهيد، له أن يتوقع جنة عرضها السماوات والأرض، أما قطع المسافات كي نهاجمهم في ثكناتهم، أو مراكزهم، أو قراهم، التي هي خارج مناطقنا الآمنة وبعيدة عنا، فهذا ليس دفاعاً، حتى لو بررناه لأنفسنا، على أنه دفاع استباقي، على مبدأ الهجوم خير وسيلة للدفاع، لكن يبقى الهجوم على مراكزهم وقواعدهم التي هي ضمن مناطقنا الآمنة ومنها ينطلقون للعدوان علينا فلنا أن نخرجهم منها بالقتال إن رفضوا الخروج منها طواعية، ويكون قتالنا في هذه الحالة دفاعاً مشروعاً والله أعلم.
يمكن لكل حي أو بلدة تحديد هامش أو حمىً، لا تسمح لجيش النظام وعصاباته ومخابراته أن يجتازوه، وتقاتلهم إن اقتربوا منه، لكن لا ترسل المقاتلين لمهاجمة النظام ورجاله، طالما هم بعيدون عن هذا الحمى. أي يكون دخول الجيش وقوى الأمن والشبيحة ممنوعاً إلى مناطق الثوار، ولا يتم إلا على جثثهم، لكن للنظام ورجالاته أن يأمنوا على أنفسهم من أي عدوان من الثوار، طالما بقوا بعيدين، ولم يبادروا بالهجوم والاعتداء.
في الوقت ذاته تبقى مناطق الثوار تحت الإدارة المدنية للدولة، ويدخلها كل الموظفين الحكوميين، بما فيهم الشرطة والمباحث الجنائية وشرطة السير، وكل ما يلزم لاستمرار الحياة المدنية في تلك المناطق تحت حكم الدولة، أي لا نعلن تحرير مناطقنا ونرفع عليها أعلامنا، ونمنع كل من له صلة بالدولة والنظام من دخولها، فنحن صراعنا مع النظام، وليس مع الدولة، ونريد أن نطيح بالنظام، لا أن نطيح بالدولة في سورية.
نعلنها مناطق آمنة لكل السوريين، من الشعب بكافة أطيافه، أو من موظفي الدولة بكافة تخصصاتهم، إلا من جاء معتدياً على الأنفس والأموال والأعراض. نعلنها آمنة نخضع فيها لقوانين الدولة في كل شيء، إلا منها ما يمنعنا من المطالبة بالحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ونبذل كل جهدنا لنوصل صوتنا وصورتنا إلى العالم أجمع، ولنفضح جرائم النظام على رؤوس الأشهاد، كي لا يبقى أحد من الناس مخدوعاً به. فنتمرد تمرداً سلمياً على النظام، المتمثل بقوى القمع والبطش، من مخابرات وشبيحة وفرق عسكرية، سواء منها من يوالي النظام بإرادته، ومن هو مغلوب على أمره ومُكْرَهٌ، لا يجرؤ على المخالفة والانشقاق، من مجندين إجباريين وغيرهم من العسكريين، الذين لا يرضيهم ما يؤمرون به من قتل للمطالبين بالحرية والديمقراطية.
ندافع عن أعراضنا وأموالنا وأنفسنا حتى الموت، لكننا لا نهاجم أحداً، ولا نغزوا أحداً في أماكن تواجده أو في قريته، حتى لو اعتدى علينا منهم من يرتكب المذابح ويغتصب النساء، فإننا ندافع ونقاتل بكل سلاح متاح، فإما أن نقتلهم وإما أن نقتل لنكون شهداء عند الله، لكننا لا ننتقم بأن نهاجم قراهم أو ثكناتهم، ولا نرتكب المذابح، ولا نعتدي عليهم وعلى أسرهم كما اعتدوا علينا.
لقد أذن الله لنا بالدفاع عن أنفسنا وأعراضنا وأموالنا، ولم يأذن لنا أن نعامل أبناء وطننا بالمثل، أي بأن ننتقم ونثأر، فنهاجم ونقتل ونغتصب أهل المعتدين وأبناء طائفتهم، حتى لو كان ذلك يشكل رادعاً لهم عن المزيد من العدوان علينا. المعاملة بالمثل والمبادرة مشروعة عندما يكون عدونا دولة أخرى ونواجهه كدولة حيث يجوز الأخذ بالثأر من أي مقاتل من العدو حتى لو لم يكن هو الذي قتل منا أو اغتصب، أما عندما تتصارع فئات شعب واحد وأبناء أمة واحدة فإن المسؤولية تبقى فردية بحيث لا تزر وازرة وزر أخرى، وليس مشروعاً لنا إلا الدفاع، وكذلك الانتقام بشرط أن يكون ممن اعتدى علينا نفسه لا من أحد من عشيرته أو أسرته، ولعل في وعد نبينا لنا أن من قتل دون عرضه أو ماله أو نفسه أو أهله فهو شهيد حض وحث وتحريض على الدفاع عن ذلك كله وبذل النفس في سبيله.
فحتى لو هاجم أحياءنا وبلداتنا شبيحة أو ميليشيا تنتمي لطائفة معينة، فإن لنا الحق أن ندافع بالسلاح ونقاتل، فنقتلهم أو نقتل، لكن لا نغزو قراهم، ولا نقتل أحداً من أهليهم أو عشائرهم ما لم يكن مهاجماً لنا. ومع أن هذا يعني إعطاء الأمان للطوائف والأقوام التي ينتمي إليها المعتدون، وعدم معاملتهم بالمثل، بل إعطاء الأمان لأسر وأقرباء من اعتدوا على أسرنا وأعراضنا، فإنه أبداً ليس وليد ضعف أو جبن أو تخاذل، ولا دليلاً على شيء من ذلك، إنما هو ضبط للنفس والتزام بشرع الله مع الثقة أننا بذلك سننتصر عليهم، فالقضية ليست حرب إبادة من طرف لطرف، إنما هي جهاد من أجل حياة أفضل لجميع السوريين مؤمنهم وكافرهم، ولا يتحقق هذا الهدف إلا بالامتناع عن مهاجمة أحد منهم، إلا انتقاماً وقصاصاً، إن كنا نعرف المعتدي منهم بشخصه، وتأكدنا من هويته، لكننا نميل إلى العزيمة ما استطعنا، لأنه لا بد أنها خير لنا مما رخص الله لنا فعله مراعاة لضعفنا البشري.
لن نكون قديسين، ولن نُدِر الخد الأيمن لمن لطمنا على الخد الأيسر، بل سنرد العدوان ونقاتل في سبيل أهلنا وعرضنا ومالنا حتى الموت، وهذا حق كفله لنا الإسلام، طالما أننا لم نحتمل أن نتلقى الاعتداءات، التي طالت أعراض نسائنا وأرواح أطفالنا، ندافع، ومن مات منا فهو شهيد، لكن لا نسعى إلى الثأر ممن لم يعتدِ علينا بنفسه، فنحن أمة العدل، ثم نحن في جهاد في سبيل الله، نطالب بحريتنا، وبأن نشارك في تقرير حاضر ومستقبل بلدنا، كما يشارك أي مواطن في دولة متحضرة، وليست العداوة شخصية، بل بمجرد أن نحصل على الحرية والديمقراطية ودولة المواطنة والقانون لجميع السوريين، نحتسب ما أصابنا عند الله، ونفتح قلوبنا لإخواننا مهما بلغت إساءاتهم لنا، ونبدأ معهم صفحة جديدة، أمة متحابة متماسكة، لا يفرقها عرق أو دين، تماماً كما يتحاب أعضاء الأسرة الواحدة، حتى لو اختلفوا في الدين أو العرق.... نعم نبدأ صفحة جديدة بلا أحقاد ولا انتقام، أليس قتلانا شهداء وأحياء عند ربهم يرزقون؟ وهل يصنع الانتقام فرقاً بالنسبة لهم؟.
عندما وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن الروم يعتزمون غزو المسلمين جهز جيش العسرة وسار بهم إلى تبوك يريد أن يلقى الروم في عقر دارهم، وهو يومها لم يجد ما يجهز به رجاله من عتاد وغذاء إلا القليل، لأنه علم أن الهجوم خير وسيلة للدفاع فبادر إليه، لكن ربنا حرم الاقتتال الداخلي ضمن المجتمع الواحد ولم يسمح به إلا للمدافع عن نفسه أو ماله أو عرضه أو أهله، ونحن نؤمن أن ربنا لم يشرع لنا من الدين إلا ما هو خير ومنفعة لنا ودفع للضر والشر، وحل الخلافات بالسلاح ضمن الأمة الواحدة يعني الحرب الأهلية التي يخسر فيها الجميع، حتى لو في نهايتها تغلبت فئة على فئة، فإن تغلبها يسبقه ضحايا عديدة جداً من الطرفين وتخسر الأمة ما كان يربط أبناءها بعضهم ببعض، فيتحولون إلى أعداء، ربما لأجيال إن لم يكن لقرون، ويكون الوضع الجديد فيه غالب ومغلوب، وقاهر ومقهور، وجبار ومكره، وظالم ومظلوم، فلا يكون هنالك سلام حقيقي، ولا يمكن أن تعود الأمة متماسكة كما كانت من قبل.
واقرأ أيضاً:
ما لنا غيرك يا الله(3) / الطائفية والثورة في سورية3 / الثورة السورية بين العنف واللاعنف5 / ثورة سلمية محمية9