كان هناك برنامج منتظم على القناة الإذاعية الرابعة لوكالة الأنباء البريطانية يدعى: "على كرسي الطبيب النفسي" يقدمه استشاري الطب النفسي الأيرلندي الراحل الدكتور أنتوني كلير Anthony Clare اشتهر الطبيب النفسي الراحل والمؤلف لعدة كتب، بمهارته الإعلامية وطالما قابل كثيرًا من مشاهير السياسة والإعلام. تلقى تعليمه في أيرلندا وتدرب في معهد الطب النفسي في لندن. كان يتابع برامجه كثيرون، ولكنه قبل رحيله المفاجئ من الدنيا عام ٢٠٠٧ أثار قلق البعض حين بدأ بالحديث عن أن اختصاص الطب النفسي Psychiatry سيتم نقله إلى الطب الأسري Family Medicine العام تدريجياً، وسينتهي أمره عاجلاً أو آجلاً.
أما هذه الأيام ومع صدور الطبعة الخامسة للدليل الأمريكي التشخيصي والاحصائي فحال الطب النفسي يثير شكوك كثيرين، ويمكن ملاحظة ذلك في الانتقاد اللاذع الموجه للطب النفسي في المقالة الافتتاحية لصحيفة الإيكونيميست، أرقى مجلة ثقافية في الغرب، في يوم 18 أيار 2013 وقبل أربعة أيام من نزول هذا "الدليل" إلى الأسواق تحت عنوان غلاف الطبيب النفسي1. لم يستعمل المحرر كلمة طبيب نفسي واستعاض عنها بكلمة عامية هي الانكماش (الطبيب النفسي عامياً) فكان عنوان المقال Shrink Wrapping ورغم أن المقال لا يثير إعجاب العاملين في الصحة النفسية، إلا أنه أفضل بكثير من أي مقال تعرض لهذا المجلد.
المجلد التشخيصي الإحصائي يكاد يكون محصوراً في اختصاص الطب النفسي ولا شبيه له في الاختصاصات الأخرى. ما يثير القلق بأن وجود مثل هذا المجلد يعطي لاختصاص الطب النفسي القوة في التحكم بحياة الناس والإفتاء بما هو اضطراب عقلي أو غير عقلي. المأساة الأخرى في هذا المجلد هو أن نشره لم يتم باستشارة العاملين في الصحة النفسية وإنما المرضى وأولياء أمورهم، شركات الأدوية، وشركات التأمين.
نشرت المجلة الطبية البريطانية هذا الشهر آراءً مضادة لتعريف الاكتئاب وتطبيبه بإسراف، والعام الماضي تطرقت أيضاً لاستعمال العقاقير المنبهة في اضطراب عجز الانتباه وفرط الحركة. ما كشفته المجلة الطبية البريطانية هو الاستقطاب الواضح في آراء الطب النفسي وميول النصف منهم إلى تطبيب ظواهر طبيعية في الشعور بالحزن وضعف التركيز. لا يوجد هذا الاستقطاب في الفروع الطبية الأخرى، ولكن تسليط الأضواء على هذا الاستقطاب من المجلة الطبية الكبرى في الغرب لا يساعد في تحسين سمعة الطب النفسي والعلوم النفسية عامة.
من ظرائف الطب النفسي التي تثير سخرية الاختصاصات الأخرى والكثير من غير العاملين في الصحة النفسية هو اضطراب المعارض المتحدي4 Oppositional Defiant Disorder ليس من الصعوبة معرفة أسباب السخرية من وجود مثل هذا الاضطراب في الصحة العقلية والمدون في الطبعة الرابعة للمجلد، ولكن الطبعة الجديدة أسوأ من ذلك بكثير حين كشفت للناس أن هناك اضطرابا يدعى اضطراب تقلبات المزاج التخريبية Disruptive Mood Dysregulation Disorder لظاهرة نوبات الغضب في الأطفال التي لا تخفى على كل أم وأب.
كذلك الحال مع اضطراب الأكل بنهم أو (اضطراب نوبات الدقر)3 Binge Eating Disorder الذي يتطرق إلى الأكل بشراهة. هذا السلوك بحد ذاته مجرد واحد من عدة لصقات طبية من صنع الطب النفسي. لصقات الطب النفسي يتم تدوينها في ملفات أبدية، والتشخيص الطبي بدوره يؤدي إلى وصفة عقار وعلاج نفسي يتضمن الحديث مع إنسان آخر. لا عجب أن يقول البعض بأن الطب النفسي أصبح يفتقد إلى الفطرة السليمة Common Sense في تقييمه لسلوك الإنسان.
يفهم الجميع كيف يعمل الجهاز العصبي عندما يتحرك الإنسان، يشعر بالألم، يرى ويسمع، ويتكلم ويتذكر1. هذه الفعاليات مصدرها الخلايا العصبية، ولكن هناك ظلاما دامسا أشبه بظلام الكون والمجرات فيما يتعلق بسلوك الإنسان. ينظر الطب النفسي إلى نمط السلوك ويعتبره وكيلا عن فعاليات في الخلايا العصبية. متى ما لاحظ الطب النفسي أنماطا معينة لهذا السلوك جزم بوجود اضطراب نفسي وبعدها أضاف إليها لصقات طبية نسميها اضطرابات عقلية. هذه القاعدة استعملتها جميع الفروع الطبية على مدى التاريخ ولكن الطب النفسي تجاوز الحدود المعقولة بفضل جهود الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين.
تاريخ علوم النفس والطب النفسي مع السياسة والمجتمع2 تاريخ مظلم إن صح التعبير. لعبت المدارس النفسية التحليلية دوراً يثير الاستياء واحتضنتها مجموعات متطرفة ومنها النازية وحركات التمييز العنصري حتى يومنا هذا. لعب فرويد دوره في تهميش تاريخ الحضارات البشرية وانتهى الأمر بنبذ هذه الأفكار وتحويرها أحياناً. أما الأمر الذي يثير اشمئزاز الكثير هو إسراف الطب النفسي أحياناً وعلماء النفس في استعمال مصطلحات غامضة لا يفهمها سواهم وتخلو من البعد العلمي والفكري المقبول.
نجحت جهود الطب النفسي الجبارة في نقل العناية الصحية للمصابين بالأمراض العقلية الذهانية من مستشفيات الصحة العقلية إلى المجتمع قبل نصف قرن من الزمان، لكن علاقة الطب النفسي مع رجال السياسة علاقة متشنجة دوماً. وضعت الحكومة البريطانية في بداية الألفية الثانية هيكل العناية بمرضى الفصام ولم يكن هناك طبيب نفسي واحد على لجانها. أصدرت الحكومة قانون الصحة العقلية عام 2007 ولم تلقى تحفظات الكلية الملكية للأطباء النفسانيين أي اهتمام. الدولة تعني باحتواء المخاطر فقط وبتكاليف زهيدة، وهذه الحقيقة تتعارض أحياناً مع الممارسات الطبية.
بدأت بعض فروع الطب النفسي بالانتقال التدريجي نحو أقسام أخرى. الطب النفسي للأطفال بدأ ينتقل نحو خدمات طب الأسرة والنساء، والعاهات التعليمية نحو الخدمات الاجتماعية والطب الأسري. اختصاص الإدمان تحوم حوله الشكوك، ويفضل كثيرون وضعه تحت مظلة الطب الأسري في المجتمع، والطب النفسي لكبار السن Old Age Psychiatry سينتقل تدريجياً إلى الخدمات الطبية العامة للمسنين. الطب العصبي النفسي Neuropsychiatry بدأ يندمج بالطب العصبي هذه الأيام. يبقى الطب النفسي العام للبالغين في مكانه ولكن إصدار المجلد الخامس الأمريكي لا يساعد في المدى البعيد.
لا يشمل انتقاد المفكرين إلى التشخيصات الطبية النفسية الغريبة في محتواها وإطارها وعلاجها5، ولكن الشكوك بدأت تحوم حول الفصام والاكتئاب والاضطرابات التوحدية بسبب علوم الجينات. التطور العصبي واضطرابه ربما يفسر الكثير من اضطرابات الطب النفسي، وربما سيأتي اليوم التي سيضم بها الطب العصبي بعض التشخيصات الطبية النفسية ويترك ما تبقى من الاضطرابات الصغرى في ملعب الصحة النفسية الخالي من الأضواء الكاشفة لتنويره.
حان الوقت للطب النفسي العربي في التفكير بموقعه وربما بوضع تصنيف خاص للأمراض العقلية في العالم العربي.
المصادر:
1. Editorial. The Economist 18 may 2013.
2. Eysenck, Hans (1986). Decline and Fall of the Freudian Empire. Harmondsworth: Penguin Books. p. 212
3. Fairburn et. al, 1998. "The classification of recurrent overeating: the "binge eating disorder" proposal". International Journal of Eating Disorders 13: 155-159
4. Lahey, B., Loeber, R., Quay, H., Frick, P., & Grimm, J., (1992) Oppositional defiant and conduct disorders: Issues to be resolved for the DSM-IV. Journal of the American Academy of Child and Adolescent Psychiatry, 31, 539-546.
5. Valenstein, Elliot S. (1998). Blaming the brain: the truth about drugs and mental health. New York: Free Press
واقرأ أيضاً:
الطب النفسي عبر الثقافات/ التحميل المعرفي والعاطفي الزائد Cognitive & Emotional Overload/ نموذج متكامل للاستضعاف والاضطراب العقلي2