هو بيان بمعنى الكلمة, وإن شئت قلت هو البيان الأول للجيش في هذه الظروف التي تندفع فيها الأحداث في مصر نحو حرب أهلية. وقد ألقي البيان في ندوة تثقيفية نظمتها القوات المسلحة بمسرح الجلاء شرقي القاهرة. وأول ما يلفت النظر في هذا البيان الهام هو أن الفريق السيسي كان يتحدث بشكل محدد وبكلمات قاطعة ومؤكدة وحاسمة وحازمة وواضحة الدلالة وموجهة نحو أشخاص بعينهم وكيانات بعينها تظهر على شاشة وعيه فتجعل نبرات صوته تمتلئ بالألم النبيل والغضب المنضبط والقوة الهادئة الرزينة والتحذير المسئول والتنبيه القاطع الواضح، هؤلاء الأشخاص وتلك الكيانات يستشعر الفريق السيسي وهو يتحدث إليهم أنهم يسيئون إلى الشعب ويهددون أمنه وسلامته, وقد تركهم مجّهلين ولم يحددهم لتصل الرسالة إلى كل من ينطبق عليه هذا.
وكونه لم يحدد أشخاصا أو كيانات بعينها كان أمرا عبقريا إذ ترك الفرصة للجميع كي يدركوا مسئوليتهم دون إسقاط على فئة بعينها, ولهذا انقسم المحللون: هل هو يوجه بيانه للسلطة أم للمعارضة أم للاثنين معا؟، هل هذا انقلاب مخملي هادئ أو تهديد بانقلاب, أم أنه رسالة للذين يهددون الشرعية؟
وتجهيل المخاطب هنا أبعد البيان عن تهمة الاستقطاب, وهذا أمر مهم خاصة في تلك الظروف التي تورط فيها الساسة في الاستقطاب وفقدوا قدرتهم على الحيادية والتجرد الوطني، وحين كان يتطرق إلى الحديث عن الشعب كانت نبرات الصوت ترق وتشف وتمتلئ بوجدانات المحبة والحنان والرعاية "أنهي مروءة اللي نقدر نعيش بيها كضباط أو ضباط صف والشعب المصري، أهالينا، مروع وخايف، دااحنا نروح نموت احسن" ويلاحظ أنه لجأ إلى التعبير بالعامية المصرية البسيطة في العبارة الأخيرة لكي تحمل مشاعره التلقائية بصورتها الطبيعية التي يتحدث بها أولاد البلد المتصفين بالشهامة والجدعنة والمروءة والنجدة.
وحين يتحدث إلى من يعتبرهم مهددين لعلاقة الجيش بالشعب أو مسيئين للجيش ورموزه فإنه يستخدم نبرات تحذيرية ولغة توكيدية ويكرر العبارة مرتين بعد أن ينبه "أقول تاني", وقد حدث هذا مرتين في العبارتين التاليتين:
"ويخطئ من يعتقد أنه بأي حال من الأحوال يمكن الالتفاف أو الاختراق لهذه العلاقة في وجدان الجيش مع شعب مصر العظيم"... "ويخطئ من يعتقد أننا سنظل صامتين أمام أي إساءة قادمة للجيش ورموز الجيش، وأرجو أن يدرك الجميع مخاطر ذلك على الأمن القومي المصري". وهنا تستطيع تحديد المقصودين بهاتين العبارتين, أولئك الذين دأبوا في الفترة الأخيرة على تجريح الجيش وتوجيه العبارات المهينة لرموزه, وهؤلاء يعرفهم الشعب جيدا.
وتأتي الكلمة التي وقف على إثرها القادة في وقار واحترام نبيل ليحيوا قائدهم حين قال بهدوء وثقة ومحبة: "كل كلمة قلتها متجردة من أي شيء إلا من حب البلد، وحب كل الناس، مسلم ومسيحي، كل الناس". ويبدو أن هذه الكلمة "كل الناس" قد لمست جرحا مفتوحا هذه الأيام حيث ساد خطاب سياسي خاطئ وغير مسئول فرق أبناء الوطن إلى إسلاميين وغير إسلاميين, إلى مؤيدين محبوبين وإلى معارضين مكروهين ومنبوذين, خطاب سياسي سادت فيه النزعة الطائفية والنزعة الاستقطابية الصراعية بما بات يهدد باقتتال أبناء الوطن الواحد حيث غابت الحيادية والموضوعية والتوازن والاعتدال عن الخطاب السياسي وعن الرموز السلطوية السياسية مما ينذر بإشعال الحرائق في ربوع الوطن.
إن كلمة "كل الناس" التي نطقها الفريق السيسي بكل صدق وحب ومسئولية ورعاية تداوي هذا الجرح المفتوح الآن والذي تلوثه دعوات عنصرية وإرهابية وتصريحات بغيضة وتهديدات غير مسئولة ممن يتصدرون للخطاب السياسي الآن ويحركون دفته. إن هذه الكلمة "كل الناس" تبدو بلسما شافيا في هذا السياق الآن بعدما انقسم المجتمع وتشرذم وأصبح على حافة الهاوية بالدخول في صراع أيديولوجي أو ديني أو عنصري أو طائفي.
ولا يترك المنصة دون إعطاء مهلة وإنذار محددين: "يجب الوصول لصيغة تفاهم ومصالحة وطنية لحماية مصر, ولدينا أسبوعا يمكن إنجاز الكثير من خلاله". وهذه رسالة واضحة للجميع، سلطة ومعارضة، بأن الأمر لا يحتمل هزلهم, وأن أمن الوطن وسلامته فوق الجميع ولا يحتمل تلك المهاترات غير المسئولة. وهي رسالة سلطوية مسئولة ونبيلة توجه للعابثين بمصير الشعب المصري لحساب مكاسب شخصية أو حزبية أو فئوية. وهناك بعض أخبار تسربت بأن الفريق السيسي قد يدعو خلال أيام إلى حوار وطني بين القوى السياسية المتناحرة وذلك تأكيدا وتفعيلا لعبارته "إن الجيش لن يظل صامتا أمام انزلاق البلاد في صراع يصعب السيطرة عليه".
وهذا يذكرنا بدعوة الحوار التي كانت قد أطلقتها المؤسسة العسكرية في نوفمبر الماضي على خلفية تداعيات الإعلان الدستوري ولم ترحب بها الرئاسة في ذلك الوقت وأجهضتها. وهذه الدعوة للحوار تحت رعاية المؤسسة العسكرية تضمن جدية الحوار وتشجع الفرقاء على الانضمام إليه خاصة حين يضمن الجيش تنفيذ تعهداته, ولكن من الناحية الأخرى فإن هذا قد يزعج مؤسسة الرئاسة حيث تبدو في موقع أدنى أو أنها فقدت ثقة الأطراف الأخرى بينما حاز الجيش هذه الثقة وأنها فشلت فيما نجح فيه غيرها, وهذا يهز من ثقل وشرعية مؤسسة الرئاسة.
وعلى الرغم من كون هذا جارحا لكبرياء الحكم إلا أن الواقع المرير يستدعي ذلك, ويستدعي قوة معتدلة محايدة ووطنية تلم أشلاء الوطن, ويؤيد هذا ما ورد في استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة جيمس زغبي الأمريكية والذي أظهر أن 28% من المصريين يؤيدون الرئيس و35% من المصريين يؤيدون المعارضة بينما 94% يثقون بالجيش. إذن فيبدو أن الجيش هو القوة المؤهلة الآن لرأب الصدع ووقف الاحتراب الأهلي, وهذا لا يعني عودة الحكم العسكري ولكن يعني موقف إنقاذ طارئ لحين الخروج من الأزمة السياسية.
والبيان في مجمله يوحي بحالة من الاستقلالية عن مؤسسة الرئاسة وربما أيضا بحالة من الفوقية, فهو لم يكن يتحدث كمرؤوس لأحد, ولم يشر إلى توجيهات أو تكليفات من أحد بل كان هو –بشخصه وبمنصبه– الموجه والمحذر والمنبه والمؤكد والمطمئن والواثق من قدرته على تنفيذ ما يقوله دون الإشارة لسلطة أعلى يتحدث تحت مظلتها. ويتضح هذا أكثر في عبارته: "مسئولية تاريخية ووطنية وأخلاقية ملقاة على عاتقنا الآن، مسئولية أمام ربنا الآن هانحاسب عليها، لن نسمح بدخول مصر في نفق مظلم من الصراع أو الحرب الأهلية أو الفتنة الطائفية أو انهيار مؤسسات الدولة".
وهو يتحدث كقائد وزعيم ينطلق من إرادة الشعب ويعلن أنها هي التي تحكمه: "إرادة الشعب المصري وحده هي التي تحكمنا، ويخطئ من يعتقد أنه يمكن الوقوف أمام هذه الإرادة، ونحن مسئولين مسئولية كاملة عن حماية إرادة هذا الشعب العظيم". ويبدو أن هذا الأمر أزعج السلطة الحاكمة فرأينا فورا بيان عاجل يظهر على شاشات التليفزيون: الرئيس يوجه الفريق السيسي لحماية المنشآت الحيوية. وكأن هذا البيان يوصل رسالة للمشاهد والسامع بأن الرئيس ما زال هو الموجه والآمر, وأن الفريق السيسي ما زال يتلقى الأوامر من سلطة أعلى.
والفريق السيسي يمتلك كاريزما شخصية واضحة ومؤثرة وله حضور قيادي محترم ويتحدث كرجل دولة يعرف ما يقول ويزن كلماته بدقة شديدة ويبتعد عن الارتجال واللغو والثرثرة والاستمالات العاطفية والشعارات الجوفاء, ويميل إلى الموضوعية والإيجاز والوصول إلى هدفه من أقرب طريق ولا يعتمد أسلوب الخطابة الحماسية الفارغة التي سادت الخطاب السياسي في الفترة الأخيرة.
واقرأ أيضاً:
من يوقف هذا السلوك الانتحاري الإخواني ؟/ الهجوم على المقرات شرارة الحرب الأهلية/ الاغتيال المعنوي/ سيناريوهات 30 يونيو/ هل بقي صوت للعقل ؟