مقدمة
استكمالا لسلسلة تحليل المشهد المصري من جوانبه النفسية المختلفة، وقد سبق أن تحدثت عن الحيل الدفاعية التي يستخدمها الأطراف المختلفة في الجزء الأول من التحليل، وأحاول في هذه الأطروحة رؤية المشهد من خلال قراءة أفكار الموجودين على الساحة المصرية، فالتفكير هو عملية عقلية يستخدم فيها الإنسان مفردات مجردة تختصر الواقع المدرك في شكل لغة مكونة من كلمات ومفاهيم، يربط بينها منطق. والتفكير عملية ذهنية يتفاعل فيها الإدراك الحِسّي مع الخبرة والذكاء لتحقيق هدف، ويحصل بدوافع وفي غياب الموانع.
حيث يتكون الإدراك الحسي من الإحساس بالواقع والانتباه إليه؛ أما الخبرة فهي ما اكتسبه الإنسان من معلومات عن الواقع، ومعايشته له، وما اكتسبه من أدوات التفكير وأساليبه؛ وأما الذكاء فهو عبارة عن القدرات الذهنية الأساسية التي يتمتع بها الناس بدرجات متفاوتة. ويحتاج التفكير إلى دافع يدفعه، ولابد من إزالة العقبات التي تصده وتجنب الوقوع في أخطائه بنفسية مؤهلة ومهيأة للقيام به.
ونخلص من هذه المقدمة إلى أهمية الإدراك وهو طريقة استقبالنا للمعلومات، وأهمية الخبرة السابقة بهذه المدركات، وكذلك الأدوات والأساليب التي يستخدمها الشخص في تناوله لهذه المعلومات.
ونأتي للسؤال الأول في هذه الأطروحة وهو ما أشهر أنواع التفكير المستخدمة في المشهد المصري الحالي ؟
للتفكير أنواع متعدده منها البدائي Primitive (الحدسي Intuitive ) والعاطفي Emotional ، والواقعي Realistic (العلمي)، والابداعي Creative . ولسنا هنا بصدد الحديث عن سمات كل نوع بقدر تحديد النمط المستخدم في المشهد.
ولو نظرنا إلى المشهد من هذا الجانب لوجدنا توافر بعض العناصر منها:
1. التكرار وتعني تكرار نفس السلوك ونفس رد الفعل وسنجد هذا جليا في تعليق التيار الاسلامي على الفتاة التي سحلت في التحرير(ايه اللي وداها هناك، هي التي استفزت الجنود) تماثل تعليق التيار الليبرالي على مذبحة الحرس الجمهوري بالضبط.
2. التعميم Generalization والتحيّز Bias (الكل معي أو ضدي، والتحيز لنفس المنهج أو الدين بمنهج إذا كان قد قال هذا فقد صدق) وظهر هذا جليا في تبرير التيار الاسلامي لكل قرارات الرئيس واتهام كل من يخالفه بالجهل أو العمالة أو كره الإسلام، ويحدث الآن بنفس التفاصيل في تفسير التيار الليبرالي لرفض الإسلاميين للاتقلاب العسكري.
3. عدم التفكير في الجزئيات والتفكير في العموميات وظهر هذا في تفسير التيار الديني لكل المشكلات التي تمت في عصر د. مرسي بأن هناك فلولا يعوقون المسيرة دون محاولة البحث عن سبب آخر، وتفسير الليبرالين لعدم قبول الانقلاب لعدم وطنية متظاهري رابعة العدوية ولحسابات شخصية أو دولية ضد مصر.
4. التداعي الحر للخواطر، فلو رأينا أي برنامج حواري أو مداخلة تليفونية من مساند لأي من الفريقين لوجدنا كلاما أجوف ذاتيا دون أدلة أو ترابط، وهو ما يعكس غياب الرؤية العلمية تماما من المشهد حتى من المتخصصين.
5. السطحية الشديدة في عرض مواقف كل طرف دون التطرق إلى خطة أو دراسة متأنية أو حتى عرض تفسير علمي أو تجربة دولية سابقة وهو ما يظهر في إطلاق الشعارات الجوفاء من الطرفين كشعارات دينية أو حقوقية أو ديمقراطية سريعا ما يكتشف المتابع زيفها تماما بعد فترة فمثلا هناك رفض شديد لإعلان دستوري من د. مرسي وقبوله بلا تعليق من الرئيس المؤقت، الحديث عن دور الشباب في مرحلة البناء ومع ذلك لم يسند لهم دور في ولاية مرسي ولا في الولاية الجديدة.
6. التسرع في تفسير سلوك أو قرار معسكره المؤيد حتى لو حدث تراجع عن هذا القرار يتبنى المؤيدون تفسيرا آخر أسرع فعندما حصن د. مرسي مجلس الشعب ظهر مؤيده بتفسير أن هذا يؤكد أنه لا يريد أن يكون ديكتاتورا وعندما وافق على حل المجلس فهو يحترم القضاء الذي أساسا حصن قرارته منه، وهو ما حدث مع الليبرالين في أزمة إقالة النائب العام الذي كان مطلبهم الرئيسي وكان التفسير السريع أنه تغول على القضاء.
7. الاستيعاب الاختياري Selective Assimilation وهو أخطر هذه العناصر حيث يرى أو يسمع الشخص ما يتوافق فقط مع قناعاته الشخصية وهو ما ظهر جليا في تقدير كل طرف لأعداد الطرف الآخر وقوته في الشارع، رؤية فيديوهات المذبحة الأخيرة.
ومما سبق نجد أن نمط التفكير البدائي (غير المنطقي) والتفكير العاطفي الذي يتحرك وفق المشاعر الذاتية هما النمطين السائدين في الشارع المصري السياسي.
ويأتي السؤال الثاني ما الذي أدي بالفريقين إلى استخدام هذين النمطين من التفكير؟
رصد د. إدوارد دي بونو في كتابه "تعليم التفكير"، تسعة أخطاء غالباً ما ندمن الوقوع بأحدها أو أكثر، وسواء أخطأنا بوعي أو بغير وعي، فإنه نادراً ما يستطيع أحدنا التراجع أو الاعتراف بأنه كان مخطئاً:
(1) التحيز والنظرة الجزئية: وهو خطأ في الفهم وقصور في الإدراك. وفي هذه الحالة ينظر من يفكر إلى جزء من الموقف فحسب، ويقيم حجته على أساس ذلك، ويشيد حجة متسقة منطقياً يعتمد عليها في إقناع الآخرين، ويصعب -إن لم يكن يستحيل- غالباً اكتشاف الخطأ ما لم يكن هناك إلمام بجميع جوانب الموضوع من المستمع وهو ما يظهر في تركيز التيار الديني على بعض كلمات أو مواقف قادة الليبرالين مثل قبلة البرادعي، أرائه العقائدية، جريمة سلمى صباحي، وتركيز الليبراليين وخاصة باسم يوسف على بعض أقوال مشايخ التيار غير العقلانية مثل تقديم النبي عليه السلام لمرسي كإمام، نزول جبريل في رابعة وغيرها من الأدلة التي يستخدمها كل طرف للتأثير في أنصاره وتعميق الكره للطرف الآخر.
(2) السلم الزمني: حيث يركز المرء على شريحة زمنية ضيقة، غالباً ما تكون قريبة.. ويبدو هذا الخطأ واضحاً حين نحاول توقع نتائج الأحداث، فكثيراً ما تتغير نتائج الحدث الواحد بعد مرور فترة من الزمن، فما يبدو إيجابياً ومرضياً في نتائجه القريبة قد لا يكون كذلك على المدى البعيد، والعكس صحيح وقد أشرنا إلى بعض الأمثلة لهذا عند الحديث عن التسرع في الاستنتاج.
(3) التمركز حول الذات Egocentrism : وهو أن تتركز المساحة الجزئية للإدراك على الذات، ولا يقصد هنا عناية المرء بمصالحه، بل في عجزه عن رؤية بقية الموقف. وإذا كان بوسع المرء أن يرى الموقف بطريقة أشمل ثم يعود للتمركز حول ذاته فإنه في هذه الحالة سيكون صائباً في تفكيره غير أنه أنانياً في أخلاقه. وهذا يظهر جليا في الأزمة الأخيرة حيث رفض الدكتور مرسي التنازل للمعارضة حين طلبت منه اقاله النائب العام الجديد وإقالة الحكومة ودون إعطاء أهمية لحركة تمرد، وأيضا حين قرر الفريق السيسي إقالة الرئيس دون إعطاء أهمية لأنصاره المرابطين في رابعة فوصل الأمر إلى ما نحن فيه الآن.
(4) العجرفة والغرور: ويكمن في الرضا عن التفسير المبدئي دون البحث عن أية تفسيرات أخرى، قد تتجاوز التفسير الأول وربما تفضله. فالدكتور مرسي أصر في خطابية الأخريين على أنه صاحب اليد العليا في البلد فهو القائد الأعلى للجيش والشرطة، وهو ما وقع فيه السيسي ومن تبعه بعد الانقلاب حيث يصرون أنه لا تراجع أو تعديل.
(5) الحكم الأولي: وينتج حين يستخدم التفكير لا للوصول إلى الحكم وإنما لمناصرة حكم تم إصداره سلفاً، على أساس من التحيز أو العاطفة أو الاعتقاد أو التكتل الاجتماعي. وتوجيه العقل نحو خلق حجج متسقة منطقياً لدعم هذا الحكم. فالليبراليون حكمهم الأولي على التيار الديني تقريبا يماثل حكم الإسلاميين عليهم وليس لدى أي طرف أن يحاول تغيير أو تعديل وجهة نظره التي تبناها منذ البداية
(6) الحكم المناوئ: وهو التأكيد على صدق الحجة بإبراز خطأ منطقي في الحجة المعارضة، لنصل إلى القول: أنت على خطأ ومن ثم فإني على صواب. فلو تذكرنا كل الحوارات المتلفزة بين الأطراف المختلفة، لوجدنا أن كل منهم ينبري لإبراز أخطاء الآخرين معتبراً أن ذلك كافياً لتأكيد صحة موقفه، على الرغم من احتمال أن يكون الجميع على خطأ، أو الجميع على صواب ولكن من وجهات نظر مختلفة، وهو مسلكٌ يصب في إطار الكِبر والغرور.
(7) تضمين الذات: إن الحاجة إلى أن تكون على صواب طوال الوقت، هي الهدف الأكثر قوة في تحديد اتجاه التفكير، فصعوبة الاعتراف بأن تفكير الشخص خطأ حتى بينه وبين نفسه -على الرغم من كثرة ترديدنا للحكمة القائلة بأن الاعتراف بالحق فضيلة- كما يجد الصعوبة نفسها في الاعتراف بأن تفكير غيره على صواب.. فالتفكير يستخدم لدعم الأنا لا لاستكشاف آفاق الموضوع. ولذلك يغلب على التفكير الافتقار التام للموضوعية، برغم أن بناء الأفكار قد يكون منطقياً ومتسلسلاً لدى المفكرين الماهرين إلا أن الإدراك منحاز بشكلٍ كبير. ولذلك تنتهي كل مناقشاتنا إما بالخناق أو التطاول أو إصرار كل طرف على ما يراه وكأنه كان يتحدث ويسمع نفسه فقط ، ولا نحتاج أمثلة لذلك فيكفي أن تفتح التلفاز الآن لترى بنفسك.
(8) خطأ المقدار (الخطأ الكمي): وهو واحد من الأخطاء الرئيسية في الإدراك، فالنجاح في التجارب الشخصية أو النجاح الإداري المحدود لا يمكن قياسه على النجاح في ادارة مجتمع أو دولة، والنجاح الجزئي ليس معيارا للنجاح الكامل. وبالتالي فلا يمكن للمرء الكشف عن الخطأ إلا إذا توفر لديه مجال واسع للإدراك يتيح له الحكم على الحجة المطروحة. وظهر هذا في تقييم التيار الديني لنجاح د مرسي بقدرته على إنهاء أزمة الخبز والبوتجاز، وقدر المعارضون أنه فاشل لأنه لم يحقق ما وعد به في المائة يوم الأولى.
(9) التطرف: إن عادة التطرف تنتج إلى حد ما من اعتيادنا التعامل مع مفاهيم وتعريفات مطلقة، فما أن يدخل شيء ما في إطار التعريف حتى يجري التعامل معه بطريقة مماثلة لكل ما هو في ذلك الإطار. وهذا لا يحتاج لأمثلة فاتهام الآخر بالكفر والشذوذ سمة واضحة في أحاديث التيار الديني، ويتهمهم الليبراليون بأنهم كالقطيع أو التخلف أو غيرها من مصطلحات متطرفة من الجانبين.
ويضيف العالم النفسي الشهير آرون بيك أيضا عددا آخر من معوقات التفكير السليم مثل
1. التفكير المستقطب (أبيض أو أسود) Polarized Thinking أي المتمركز عند أحد طرفين متناقضين، "إذا لم أقم بعمل كل شيء بجدارة فهذا يعني أني فاشل تماما" ، فالأحداث إما أن تكون صحيحة 100% أو خاطئة 100% فكل الأطراف ترفض النجاح الجزئي أو الحصول على مكاسب جزئية مما أوصل المشهد السياسي إلى الجمود ثم خسارة كل الأطراف
2. التهويل Maximization والتصغير Minimization (التحجيم) : بمعنى تهويل أو تكبير تأثير السلوك السلبي للآخر وتصغير أو التقليل من تأثير سلوكه الإيجابي وظهر هذا واضحا جدا في برنامج باسم يوسف وأحمد آدم وهاني رمزي وخالد عبد الله وغيرها من البرامج الحوارية، تهوين كل طرف من أعداد الطرف الآخر الموجوده بالشارع وتهويله لعدد مناصريه في الأزمة الأخيرة.
3. قراءة الأفكار Thought Reading : حيث يعتقد الفرد أنه قادر على معرفة ما يفكر فيه شخص آخر، أو ما الذي سيفعله في المستقبل القريب دون تواصل لفظي مباشر بين الطرفين. وعادة ما يكون لدى الأشخاص غير المتوافقين توقع سلبي لتصرفات الآخرين، وقراءة الأفكار تتضمن المخاطرة باستنتاجات خاطئة لا تعتمد على المعلومات المتاحة فقط. وقد ظهر هذا واضحا في خطابات الدكتور مرسي وجبهة الانقاذ عند حديث كل منهما عن الآخر.
ويأتي السؤال الأخير وما الحل الآن؟
يجب على العقلاء الآن التعامل مع التفكير اللامنطقي الخاطئ والتشويهات المعرفية، والتعامل مع المشكلات المختلفة والسعي إلى تخفيضها، معتمدين على عدة أسس أومبادئ وهي: المشاركة الفعالة وعدم إقصاء طرف من الأطراف مهما كانت معتقداته، وتوطيد المصداقية من كل الأطراف، وتقليل أو اختزال المشكلة Reduction أي تقسيمها إلى وحدات يسهل تناولها، واستخدام فنيات عديدة: مثل المناقشة، والمراقبة الذاتية، وتقييم الواقع موضوعياً، وإعادة التقييم المعرفي، وفرض عدد من البدائل بعد مناقشة الأسباب التي أدت إلى الأزمات السابقة والأزمة الحالية، واتخاذ اتجاه مكسب مكسب لكل الأطراف.
واقرأ أيضًا: