الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية سيرة لا تنتهي، وأخبارها تتواصل منذ عام 1967. (إسرائيل) تُصادر الأراضي وتبني المستوطنات، والعرب يجرون خلفها ببيانات الشجب والاستنكار، والقيادات الفلسطينية لا تنفك تُدين وتجري على الساحة الدولية حاملة الشكاوى والتذمر. ومن يسمع من العرب أخبار نشاطات الاستيطان الصهيوني ومواقف العرب منها يظن أن بدن (إسرائيل) يرتجف، وأنها باتت محاصرة، ولا مجال أمامها إلا الاستجابة. مضت السـنوات الطوال والاسـتيطان بقي على أشـده، كما أن الاسـتنكار بقي السـلاح الإعلامي العربي والفلسـطيني الفاشـل!!!
إسرائيل تستوطن منذ عام 1967
ناهيك عن حركة الاستيطان التي بدأها اليهود في فلسطين عام 1878، وما تمخض عنها من قيام دولة (إسرائيل)، فقد بدأت (إسرائيل) الاستيطان في الضفة الغربية مباشرة بعد حرب عام 1967، وركّزت نشـاطاتها الاسـتيطانيـة في مواقع حسـاسـة من الناحيتين الدينيـة والجغرافيـة؛ فبدأت بالقدس والخليل على اعتبار أنهما مدينتان مقدسـتان بالنسـبـة لليهود، وبمناطق الأغوار والجولان لأنها محاذية للأردن وسوريا، ومنطقة اللطرون كموقع استراتيجي من الناحية العسكرية، ومنطقتي قلقيلية وعصيون. ومع نهاية سبعينات وبداية ثمانينات القرن الماضي، ركّزت جهودها على قمم الجبال الممتدة من جنين شمالاً حتى جنوب الخليل جنوباً وذلك للسيطرة على ما يُسمى بظهر الضفة الغربية.
صادرت (إسرائيل) مساحات واسعة من الأراضي، وزرعت الضفة الغربية بالمستوطنات، وقطّعتها بطرق إلتفافية خاصة بالمستوطنين، وأقامت مجتمعين مختلفين في الضفة: أحدهما يهودي يتميز بالتنظيم الدقيق وببنية تحتية خدماتية واجتماعية واقتصادية متطورة، ويرتبط ببعضه من زاوية المواصلات والاتصالات وشبكات المياه والكهرباء بصورة محكمة، ويرتبط (بإسرائيل) بشبكة طرق ومواصلات تُشعر المستوطن أنه ليس منفصلاً عن (إسرائيل)، أما المجتمع الثاني فبقي تحت وطأة التهميش من مختلف النواحي، وتم تقطيع أوصاله لكي يفقد سلاسة التواصل الجغرافي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي. وتم التضييق عليـه من مختلف الجوانب لكي يشـعر الفلسـطيني أنـه غريب في وطنـه، وأن الحياة كئيبـة إلى درجـة تدفعـه إلى الإنزواء أو الرحيل!!
الاتفاقيات والاستيطان
شـكل الاسـتيطان أكبر خطر على وجود الشـعب الفلسـطيني في الضفـة الغربيـة، وعلى كل الأفكار والمقترحات التي من شـأنها تسـويـة الصراع العربي الصهيوني. ولهذا عمل كل المعنيين بالبحث عن حل للقضيـة الفلسـطينيـة على معالجـة الاسـتيطان على اعتبار أن غياب هذه المعالجـة يعني إنهيار أي مشـروع للتسـويـة.
ولهذا حرص الرئيس المصري أنور السادات في إتفاقية (كامب ديفيد) على إدراج مسألة المستوطنات ضمن الإتفاقية الخاصة بالشأن الفلسطيني، ووافقت (إسرائيل) على تجميد الاستيطان أثناء مفاوضات إقامة حكم ذاتي فلسطيني. أما (مناحيم بيغن)، رئيس وزراء (إسرائيل) الأسبق، فعرض تجميد الاستيطان في مبادرته التي قدمها في نهاية السبعينات من أجل الوصول إلى حل سلمي مع الفلسطينيين. ووافق (أرييل شارون)، الذي كان وزيراً للحرب في بداية الثمانينات، على تجميد الاستيطان كجزءٍ من إيجاد حل عبر روابط القرى -روابط أنشأتها (إسرائيل)- يُقيم حكماً ذاتياً للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
تجاوزت منظمة التحرير الفلسطينية مسألة الاستيطان في إتفاق (أوسلو) وما تبعه من إتفاقيات، ولم تُصر على وقف أو تجميد أو إزالة الاستيطان قبل التوقيع، واكتفت بتأجيل موضوع الاستيطان إلى مفاوضات الوضع النهائي.
الكذب على شعب فلسطين
لم يتوقف الاسـتيطان الصهيوني في الضفـة الغربيـة، وازداد كثافـة في بناء الوحدات السـكانيـة وفي عدد السـكان بعد توقيع إتفاقية (أوسـلو)، ومعـه ارتفعت حدة بيانات الشـجب والاسـتنكار لممارسـات (إسـرائيل). اعتاد الفلسـطيني على سـماع العبارات المجترة ضد الاسـتيطان، وعلى رؤيـة المزيد من المسـتوطنات والنشـاطات الاسـتيطانيـة، فأيهما يُصدق: ما يسـمع أم ما يرى..!!؟؟ وهنا أُشير إلى مواقف الأطراف التالية:
1- الولايات المتحدة التي تقول على مدى عشـرات السـنين إن الاسـتيطان يُشـكل عقبـة في طريق السـلام، لكنها لا تتخذ أي إجراء لإزالـة هذه العقبـة؛ يأتي المبعوثون الأمريكيون إلى المنطقة العربية ويذهبون، ويستمرون في ترداد ذات العبارات الممجوجة المكررة والتي لا تستطيع إيقاف بناء منزل واحد على أرض مسروقة من فلسطيني. أمريكا تكذب، ويبدو أن مستمعيها العرب يرغبون في إيهام أنفسهم بأنها جادة في البحث عن سبيل لوقف الاستيطان، ويستمرون في استعطاف أمريكا علَّ وعسى أن تُنقذهم أمام أنفسهم.
تتحدث أمريكا "ضد الاستيطان" وتستمر في تقديم كل أنواع الدعم (لإسرائيل)؛ من الدعم الدبلوماسي في المحافل الدولية إلى تقديم الطائرات الحربية المتطورة مثل طائرة F35. وفي الوقت نفسه، تعمل أمريكا جنباً إلى جنب مع (إسرائيل) والسلطة الفلسطينية على تجريد الفلسطينيين من كل أسباب القوة، وتدفع باتجاه اتخاذ إجراءات قاسية بحق الفلسطينيين الذين يمكن أو يُقاوموا المستوطنين.
ولا تتوقف أمريكا عن التأكيد على إلتزامها بأمن (إسرائيل)، واستعدادها للوقوف بوجه كل من يُعرض هذا الأمن للخطر..!! فما هي العقبة التي يُشكلها الاستيطان بالنسبة لأمريكا!؟ واضح أن أمريكا تكذب، وهي تقوم بنشـاطات إسـتهلاك الوقت لتمكين (إسـرائيل) بالمزيد من أراضي الضفـة الغربيـة، وهذا وضوح لا يمكن أن يخفى على أحد، لكنه من الممكن لأحد أن يوهم نفسه أن أمريكا تقوم بجهود ديبلوماسية قد تُثمر.
2- الدول العربيـة ليسـت جادة أيضاً في الضغط على (إسـرائيل) لوقف الاسـتيطان لأنها تكتفي بالبيانات دون أخذ الإجراءات؛ فمن الدول العربية من يُقيم علاقات دبلوماسية مع (إسرائيل)، ومنها من يُطّبع العلاقات على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والماسونية والاجتماعية، إنما دون إعلام أو ضجيج. أما من لا يُقيمون علاقات فيكتفون بأضعف الإيمان. بإمكان الدول العربية أن تُحيي برنامج مقاطعة (إسرائيل)، والشركات التي تتعامل معها في مختلف المجالات، وبإمكانها قطع العلاقات الدبلوماسية، ووقف التطبيع بصورة تامة، وبإمكانها أيضا تقديم الدعم المالي والعسكري لقوى المقاومة في المنطقة. لكننا لا نرى شيئاً من هذا، ونرى إسرائيليين، قادة ومستثمرين، يزورون بعض البلدان العربية بكل راحة واطمئنان، وأقرب مثل علينا هو زيارة رئيس دولة (إسرائيل) (شمعون بيريس) للأردن مؤخراً. والبلدان العربية ما زالت تتمسك بالمبادرة العربية البيروتية على الرغم من أن (إسرائيل) ترفض حتى مناقشتها..!!
3- الفلسطينيون الرسميون والمستثمرون. إذا قام فلسطيني بقذف حجر على مستوطن فإن السلطة الفلسطينية وجيش الاحتلال سيقومان بملاحقته، وإذا قام مستوطن بالاعتداء على فلسطينيين فإن أحداً لن يُلاحقه!! الفلسطيني يخشى الآن السير في الطرقات الرئيسية بين المدن الفلسطينية أو الطرق الإلتفافية خوفاً من المستوطنين، أما المستوطن فيتمشى هادئاً مطمئناً في هذه الأماكن. كانت الصورة معكوسة أمام النضال الوطني الفلسطيني، فأتت السلطة الفلسطينية لتجعل من الفلسطيني مهزلة أمام عدوه!!
الإتفاقيات الفلسـطينيـة مع (إسـرائيل) تحمي المسـتوطنين ولا تنص بتاتاً على وقف الاسـتيطان أو تجميده، وهي تُعرض أمن الفلسـطينيين للخطر وتحوّلهم إلى مجرد كائنات مسـتهلكـة!! لقد قايضت القيادة الفلسطينية الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني بلقمة الخبز، وليس أدل على ذلك مما قاله رئيس السلطة الفلسطينية بأن "الخبز أولى من الديمقراطية". وما كان يعنيه أن حصول الشعب الفلسطينية على لقمة الخبز أفضل من الإصرار على حريته.
تستنكر السلطة الفلسطينية والفصائل الفلسطينية الاستيطان باستمرار، وهذا ما يُطمئن (إسرائيل) إلى أن الاستيطان لا يواجه تحدياً أو عقبات. وهنا آتي على ذكر مسـتوطنـة (ألفي منشـيـه) بالقرب من قلقيليـة التي اسـتطاع فلسـطيني واحد أن يُجبر سـكانها على إخلائها بسـبب قيامه بأعمال تُنغص على المسـتوطنين حياتهم!! لقد قاومهم بالحجارة والمسامير على الشوارع التي من شأنها تنفيس إطارات السيارات، وغير ذلك. مثل هذا الفلسطيني ملاحق فلسطينياً الآن.
هناك فلسطينيون يستثمرون الآن في المستوطنات، وآخرون يُطبعون العلاقات مع المستثمرين المستوطنين.
زيارة ( جون كيري)
انشغل المستوى الرسمي الفلسطيني ووسائل الإعلام العربية والفلسطينية بزيارة (جون كيري) الأخيرة على اعتبار أن (كيري) "رجل عاقل وجاد" وسيعمل على إقناع (إسرائيل)! طبعاً (كيري) رجل عاقل ويعي تماماً أن الاستيطان الإسرائيلي لا يؤدي إلى اتخاذ إجراءت عربية وفلسطينية ضد (إسرائيل)، فلماذا يكون ملكياً أكثر من الملك، ويقوم بالضغط على (إسرائيل)!!؟؟ هل من الممكن أن يوظف (كيري) نفسـه لصالح عجزة غير قادرين على حسـاب (إسـرائيل) التي تواصل الليل بالنهار من أجل البناء واكتسـاب القوة!؟ و(كيري) يُدرك أن الزيارات المتبادلة بين الأمريكيين والعرب ليست إلا مجرد "لهاية" أو رضاعة تُبقي زعماء عرب أحياء أمام شعوبهم.
تدمير عملية السلام
يستمر قادة فلسطينيون وحُكام عرب بالقول إن الاستيطان الإسرائيلي يُدمر عملية السلام. هذا قول يخلو من الصدق تماماً لأن الاستيطان مستمر وجهود العرب من أجل عقد صلح مع (إسرائيل) مستمرة. لم يؤثر الاستيطان إطلاقاً على وضع (إسرائيل)، ولم يؤدِ إلى أي توتر مع دول عربية أو مع الفلسطينيين، ولم يؤرق أمن (إسرائيل)! (إسـرائيل) تعي أن العرب يسـعون إلى الاسـتسـلام ببعض ماء الوجـه، لكنها تعي أيضاً أنهم قدموا التنازلات عبر الزمن دون الحصول على شـيء، وهم سـيسـتمرون على ذات النهج، هذا إلا إذا تغيّرت الأحوال في البلدان العربيـة.
المقاومة الشعبية
ربما يقول قائل إن الفلسطينيين يتبنون الآن المقاومة الشعبية لمواجهة (إسرائيل)، والدليل على ذلك مظاهرات أيام الجمعة بالقرب من الجدار. بارك الله بالمتظاهرين وهم يقومون بجهد يستحق الثناء، لكن الأطراف الرسمية تستعمل هذا الوضع لتقول إنها تُقاوم. المقاومة الشعبية تتطلب أكثر من مظاهرة يوم الجمعة، وتمتد لتشمل مقاطعة (إسرائيل) ووقف التنسيق الأمني وتشكيل لجان شعبية ورفض حمل الهوية الإسرائيلية المغلفة بعنوان فلسطيني، إلخ. تتطلب المقاومة الشعبية جهوداً كبيرة وتضحيات كثيرة، ولا تتوقف عند نواحي إعلامية فقط.
وقف المفاوضات
أعلنت السلطة الفلسطينية منذ سنوات أنها لن تعود إلى طاولة المفاوضات إلا مع وقف الاستيطان. الاستيطان يستمر، والمفاوضات لم تتوقف تماماً، وتحصل لقاءات بين الحين والآخر بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني. لكن المهم هنا هو أن (إسرائيل) قد استنفذت الهدف من المفاوضات عام 1996 عندما تحوّل الفلسطينيون إلى وكلاء أمنيين وإداريين (لإسرائيل)، ولم يعد لها مصلحة بمواصلة المفاوضات إلا إضاعة الوقت. المهم بالنسبة (لإسرائيل) الآن هو التنسيق الأمني، أي استمرار الفلسطينيين بتقديم خدمات أمنية (لإسرائيل) ويُحافظون على الهدوء في الضفة الغربية، وإذا كانت السـلطـة الفلسـطينيـة تريد الضغط على (إسـرائيل) فالمفتاح هو إلغاء التنسـيق الأمني وليـس "التوقف" عن مفاوضات لم تتوقف!!
واقرأ أيضاً:
الانقلاب الثقافي الفلسطيني/ انتصارات إسرائيل قد ولّت/ عكا ووحدة الشعب الفلسطيني/ لا سيادة لمصر/ الماسونية تغزو فلسطين/ الحذاء العظيم/ إلى القيادة السورية سوريا أمام مهمة تاريخية/ بطيخ جنين والخيانة الوطنية/ الرد ولو بصاروخ