يمر العالم العربي بأزمات إنسانية واقتصادية وسياسية منذ أكثر من عامين تجاوزت مأساة الصراع العربي الإسرائيلي على مدى أكثر من نصف قرن من الزمان. يتميز الصراع العربي العربي اليوم بأنه أكثر دموية من أي صراع إقليمي ودولي يُستباح فيه قتل الأبرياء وتصوير الضحايا وانتهاك الحرمات. كل هذا حدث مع تطلع الشعوب العربية إلى الدخول لما يسميه الغرب العالم الحر وهذا بالفعل ما صرح به أكثر من زعيم غربي هاتفاً مرحباً إلى العالم الحر1. ولكن هل هناك حقاً عالم حر؟
تفاعلت عوامل عدة في ولادة ما يسمى بالربيع العربي. دخلت هذه الكلمة قواميس الصحافة في مختلف اللغات وشاع استعمالها بين الناس لأكثر من عام على أقل تقدير، ولكنها اليوم أصبحت كلمة قليلة الاستعمال لمحتواها السلبي والدموي. يتساءل الكثير في الصحافة وجميع وسائل الإعلام عن أسباب هذا الدمار الذي حل بالعالم العربي في محاولة دخوله إلى العالم الحر؟
لعبت الظروف الاقتصادية القاهرة الدور القيادي في قيام الربيع العربي بالرغم من الإطار والهتاف الرومانسي الذي لا يزال العديد من الكتاب العرب والقنوات العربية يلجئون إليه بين الحين والآخر2. لكن هذا الصراع العربي _ العربي تحول الآن من صراع بين طغاة وشعوب مستضعفة إلى صراع ديني طائفي بحت. هناك مقولة لرئيس وزراء عراقي في العهد الملكي الأستاذ الراحل توفيق السويدي أشار فيها إلى وجود حزبين عراقيين فقط وهما الحزب السني والحزب الشيعي3.
رغم أن هذه المقولة واضحة للغاية في العراق هذه الأيام ولكن يبدو بأن مقولة السويدي رحمه الله امتدت إلى العالم العربي. الحرب الأهلية السورية الآن هي حرب بين الشيعة والسنة لا غير والإعلام العربي يؤيد هذا الفريق أو ذاك اعتماداً على هويته. تم جر حزب الله، الفريق المضاد الوحيد لإسرائيل في المنطقة، إلى حلبة الصراع السورية والغرب يسهل وصول جميع الإسلاميين من جنسيات أوربية، وما يسمى بالقاعدة وفروعها أصبحت تتقن فن التصوير إضافة إلى سفك الدماء.
الحروب والجهاد والقتل تحتاج إلى سلاح وتمويل مادي. لا يقتل البشر غيره من البشر إلا بثمن ولا يقدم على ارتكاب الجريمة إلا بعد تقاضيه أجره كاملاً. أما الكلام عن الجهاد في سبيل الله ومواعيد في السماء فهو مجرد كلمات لا صلة لها بواقع الحياة وللاستهلاك المحلي فقط. الدمار الذي حل بالعراق والآن في سوريا يحتاج إلى تمويل هائل والجهات الممولة لا تهدر بمصادرها المادية من أجل الدين كما يتصور السذج من الناس. بعبارة أخرى من يستثمر في الحرب الآن في سوريا والعراق يتوقع أن يسترجع ما استثمره بأرباح اقتصادية. هذه المعادلة الاقتصادية لعبت دورها في جميع حروب البشرية منذ عشرات الآلاف من السنين وحتى يومنا هذا.
لا يزال العراق فاشلاً في دفع عجلة النمو الاقتصادي في بلد لا وجود فيها لبنية تحتية إدارية وأمنية واقتصادية، رغم جلوسه على احتياطي نفطي هائل. توقع الكثير قبل عشرة سنوات بأن العراق سيكون منافساً اقتصاديا في منطقة الشرق الأوسط بسبب العامل الجغرافي والسكاني رغم جميع التوقعات العلمية بجفاف مياه الرافدين في منتصف القرن الحالي.
الذي حدث بأن مصادره المائية والنفطية والبشرية أصبحت معتلة ولا أمل بشفائه قريباً وربما سيحتاج إلى عملية جراحية تضمن بتر أراضيه إلى ثلاثة أجزاء. لا أحد يعرف من سيقوم بإجراء هذه العملية الجراحية وإن كانت العوامل الاقتصادية الإقليمية والدولية ترجح التدخل الجراحي. لابد من تقييم المخاطر في العملية الجراحية، والذي يقرر هذه التقييم هو السوق الحر الإقليمي والعالمي ولا دخل للعالم الحر الدولي أو الإقليمي (الذي لا وجود له أصلاً) في اتخاذ القرار.
قد يكون الوضع في سوريا مختلفاً لو تنحى طبيب العيون الجالس على مقعد الرئاسة في دمشق قبل عامين، وسارت الأحداث في سوريا كما هو الحال في مصر وانتهت الفوضى بانقلاب عسكري. لكن سوريا غير مصر والأقليات العرقية والدينية متعددة وتشكل نسبة لا يستهان بها. تلاحظ الإعلام الغربي اليميني في غاية الانحياز تجاه المعارضة السورية عكس إعلام الوسط واليسار4. لا يزال الاستثمار المادي في أعمال القتل من الطرفين مستمراً، وتم عرض 15 بليون دولار على روسيا لوقف مساندة الحكومة السورية5.
انتهت الصفقة السعودية الروسية بالسماح للجنة تحقيقية من الأمم المتحدة بالدخول إلى دمشق وما هي إلا أيام وإذا بالسلاح الكيمائي يستعمل في منطقة تبعد 15 دقيقة من مقر البعثة. استجاب كاميرون وأوباما لنداء الإنسانية وعدم الاكتراث بما يسمى بالشرعية الدولية للتحضير لهجوم "محدود" على سوريا. وضع البعض علامات استفهام حول من ولماذا يستعمل النظام السوري مثل هذا السلاح الآن.
جاء الجواب من إعلام روبرت مردوخ بأن هذا الفعل كان بسبب تهور ماهر الأسد لمقتل أحد رجال حماية العائلة6. قصة أشبه بقصص المسلسلات التلفزيونية. إن أي هجوم عسكري غربي ستكون تكاليفه بمئات الملايين من الدولارات ولابد من جهة تضمن هذا التمويل، ولا بد من أرباح للطرف المستثمر والطرف المنفذ. أما ضحايا مثل هذا التدخل فنصيبهم في الآخرة فقد أثبت التاريخ بأن ضحايا الحروب فائضين عن الحاجة في الحياة الدنيا. أما العملية الجراحية التي تنتظر سوريا فلا تختلف كثيراً عن العراق.
يعلق المحرر الصحفي لصحيفة الإنديبندنت البريطانية بأن قرب تدخل الغرب في الحرب السورية يشهد أول تحالف بين أمريكا والقاعدة. هل يتم ذلك لأن القاعدة أصبحت جزءاً لا يتجزأ من العالم الحر؟. لا شك بأن الجواب على هذا السؤال هو النفي لأن القاعدة ومن يمولها لا يؤمن بحرية البشر والمستضعفين منه في الحياة الدنيا ولكنه يضمنها لهم في الآخرة. لكن هناك حقيقة لا تقبل النقاش بأن القاعدة وغريها من عصابات المافيا الإسلامية جزء لا يتجزأ من السوق الحر. قد يتغير محتوى عصابات السوق عبر مرور الأيام ولكن الإطار هو نفس الإطار.
تذكر دوماً بأن سعر برميل النفط لم يتغير والاستثمارات الأجنبية والعربية في العالم أكثر نشاطاً هذه الأيام.
قد يظن البعض أن هناك عالما حرا ولكن اليقين هو وجود سوق حر، بإجماع الآراء.
المصادر:
1- استعمل هذا المصطلح أوباما وكاميرون ووزير الخارجية البريطاني أكثر من مرة: Welcome to the Free World.
2- تم التطرق إلى النظريات في تفسير الربيع العربي في مقالة نظريات في الربيع العربي ومقولة ابن خلدون في موقع معارج والأخبار ومجانين وعدة مواقع أخرى في عام 2011 و 2013.
3- هذه المقولة للأستاذ الراحل توفيق السويدي كثيرة التداول في المصادر الأجنبية منذ عشرات السنين. رغم أنها مقولة سياسية ولكنها لا تخلو أيضاً من بعض الظرافة في الطرح للمرحوم المتميز بسلاسة الكتابة والطرح.
4- تلاحظ الإعلام الغربي اليميني في التايمس والتلغراف في غاية الانحياز للمعارضة السورية منادياً بتدخل عسكري منذ عدة شهور.
5- نشرت التايمس والصنداي التايمس هذ الخبر في الأسبوع الأول من شهر آب 2013.
6- مقالة في التايمس اللندنية يوم 28 أب 2013.
7- مقالة لروبرت فسك في الإنديبندنت يوم 27 آب 2013.
واقرأ أيضاً:
نظريات الثورات العربية ومقولة ابن خلدون 2012 / سوريا وربيع العرب تحت المجهر / البحث عن قائد للشعب