لم يعد هناك قبول لرأي معتدل أو شخص معتدل، كل طرف من أطراف الصراع يريدك أن تتحدث باسمه ولصالحه فقط، فإذا تحدثت بغير ذلك فأنت خائن أو عميل أو خلية نائمة أو طابور خامس أو مخنث سياسيا أو ممن يمسكون العصا من المنتصف أو من أصحاب المواقف الرخوة أو ممن يريدون إرضاء جميع الأطراف، أو على الأقل لا تفهم ما يدور. ومن هنا أصبح دعاة السلم المجتمعي والتوافق الوطني وحل الصراعات بالطرق السياسية والتفاوض وقبول الآخر والحفاظ على تعددية المجتمع ومدنية الدولة وسلمية التظاهرات، أصبح هؤلاء في مرمى نيران المتطرفين والذين يشكلون الصوت الأعلى والأغلب في هذه الأيام على شاشات الفضائيات وعلى مواقع التواصل الاجتماعي.
جرب عزيزي القارئ أن تصرح بموقف عاقل أو معتدل أو متوازن أو منطقي أو مستقل أو محايد أو توافقي أو تصالحي (أو أي مفردة من هذه المفردات الإنسانية السلمية)، وسترى وتسمع وتقرأ ما لا يرضيك، سيتهمك كل طرف بأنك تعمل لحساب الطرف الآخر، أو أنك لا تقف مع الحق (حقه هوكما يراه)، أو أنك تفرط في حقوق الضحايا والشهداء، أو أنك تساوي بين الجاني والضحية. إن موجة التطرف والصراع والعداوة والاستعداء والإجهاز والاستئصال والإبادة هي الموجة السائدة الآن.
بل إن ثمة موجة جديدة الآن وهي الإرهاب بالفحش حيث تم الدفع في الأيام الأخيرة بأشخاص عرفوا بطول اللسان وفحش القول وبذاءة الحديث والسمات السيكوباتية ليظهروا على الشاشات ويعملوا كمواسير مجاري انفجرت في وجه المشاهدين والمستمعين ويهددون ويتوعدون كل من يخالفهم أو يخالف من دفعوهم (أو دفعوا لهم) في الرأي، ويمارسون نوعا من الابتزاز بمستندات مزعومة أو مدعومة بجهات ما تساندهم، وبأسرار في تاريخ الضحاياا وعائلاتهم أو بتهديدات انتقامية وبلاغات كيدية، كل هذا وسط سباب بالأب والأم واستخدام لألفاظ نابية وسوقية وتلميحات جنسية يحاسب عليها القانون (حين يعمل) كسب وقذف وتهديد وابتزاز.
تأمل اتصالات المشاهدين على القنوات الفضائية المختلفة وتأمل التعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي ستجدها في مجملها مشحونة بالغل والحقد والغضب والكراهية والتطرف والعنصرية البغيضة، بما يجعل صوت العقل والحكمة والاعتدال نشازا في وسط هذا الصخب المحموم المجنون.
وأكثر ما يدعو للقلق هو أن خطاب الكراهية والعنف والعنصرية لا يبدو عفويا فرديا بل يبدو وكأنه منظما مدفوعا (أو مدفوعا له)، ويحمل بصمة بعض الأجهزة السرية التي كانت تعمل في عهد مبارك، ويبدو أنها استعادت عافيتها وعادت لأساليبها القديمة. ويخطئ من يعتقد أن من يفعل ذلك يخدم السلطة القائمة في مواجهة معارضيها وفي تثبيت أركانها، بل هو في الحقيقة يكسر ظهرها ويشوه وجهها ويشكك في مصداقيتها ويسحب عنها مع الوقت مشروعيتها.
والشعب المصري بطبيعته سريع الفهم حاضر البديهة، قد يتم تغيير وعيه لفترة من الزمن في ظروف ضاغطة أو مهددة، ولكن سرعان ما يسترد وعيه ويدرك خطأ وخطر ما يحدث فينقلب ضد من خطط ومن شوه ومن غرر ومن غيب ومن عاب ومن تطرف ومن تغول ومن توحش ومن تجاوز، وعند هذه النقطة لا يستطيع أحد الاعتذار أو التحول أو التراجع لأن الشعب وقتها لا يستطيع أن يسمع أو يقبل أو يسامح. وهذا ما حدث في العامين السابقين مع نظامين سابقين، ونتمنى أن يعي الجميع الدرس ولا يقعوا في الخطأ مرة ثالثة، هذا الشعب لم يعد قابلا للخداع ولا للسرقة ولا للتغرير أو الاستلاب، وأسلم طريقة لحكمه هي الاستقامة والشفافية والوضوح والعدل والحزم والنزاهة والاعتدال.
إن تهديد ووصم وإرهاب أصحاب الأصوات المعتدلة والآراء الحكيمة في أي مجتمع يجعل الأجواء خالية ومفتوحة لكل نداءات الثأر والدم والانتقام والتصفية، ويسمم الأجواء ويملأها بالدخان والغبار والنار فلا يرى أحد الحقيقة، وهنا تظهر خفافيش الظلام ويتكاثر تجار الدم. وإذا خنقت أصوات الاعتدال في المجتمع ضاعت فرصة الرجوع للعقل وضاع طريق العودة للسلام الاجتماعي وأغلقت مسارات التفاوض والمصالحة واختفت الحدود بين المحاسبة العاقلة المنضبطة والانتقام الثأري المنفلت.
واقرأ أيضاً:
التعليق: قديمة!!!
نسخة مكررة عما يجري في سورية!!!
أملنا فيكم كبير أن تبتكروا مواقف مصرية جديدة ومبدعة...
وشر البلية ما يضحك...