أصيب العالم بصدمة شديدة لتطور الأوضاع بمصر، فلم يتصور أحد أن تصل الشرطة والجيش المصريين إلى هذا المدى من التردي، وإن كانت سوابق الشرطة المصرية قد تؤهلها للبلطجة والقتل، إلا أن الجريمة البشعة التي شهدناها جميعا والمذابح التي شهدتها شوارع مصر طوال الشهر الماضي على أيدي الشرطة والجيش قد تعدت كل جرائم الشرطة المتمثلة في بلطجة عصر مبارك، وانضم لها الجيش المصري لأول مرة في تاريخه، إن هذه الجريمة البشعة فاقت ما عرفه التاريخ المصري وأدخلت القتل الجماعي المتعمد لأول مرة في المعادلة الأمنية. متعمدة تحويل الشعب المصري من شعب مسالم لشعب الكثير منه لا يأبه بالقتل ولا يأنف رائحة الدم.
إلا أن الفاجعة كانت كبيرة لحد لا يحتمل ونحن نراها قد تردت لمستوى جعلت كيلي سام مراسل "شبكة سكاي نيوز" البريطانية واصفا اقتحام رابعة الذي مر عليه شهر بالتمام، يقول "لقد قمت بتغطية العديد من الحروب وما حدث يُماثل في قسوته ما شاهدته في ميادين المعارك، فيما عدا مشاهد روندا" وأضاف قائلا "تحت إطلاق نار كثيف، حدث اعتداء ضخم على مدنين غير مسلحين بأعداد كبيرة جدا" مشيرا إلى أن القوات استخدمت أسلحة رشاشة وقناصين وبنادق طراز "أيه-كي-47" و "أم 16". وأضاف قائلا "لقد كان هناك قناصة فوق الأسطح، رأيت عشرات الأشخاص أصيبوا بطلقات نارية في الرأس والرقبة والجزء العلوي".
ورغم تلك المأساة التي بدأت بسيطرة الجيش على الحكم في مصر عقب الانقلاب فلم ولن يستقر الحال لمن قام به أو لمن مهد له ولا من استخدم لتصويره كثورة. إننا لو راجعنا أحداث العام الماضي، للاحظنا لأي مدى عمد الليبراليون إلى إفشال التجربة، مصرين على عدم إعطائها أي فرصة للإنجاح، واليوم يطالبون المصريين بإعطاء فرصة لإنجاح خارطة طريق الانقلاب بعد أن يصفي سياسيا وجسديا الاتجاه الوحيد القادر تنظيميا على التصدي لفساد نظام مبارك العائد بأقذر ما فيه. لقد أقدم الليبراليون المصريون على أكبر حماقه في التاريخ!
وفي ذلك يقول جيمس تروب الكاتب بـ "فورن بوليسي" في مقاله "الجانب المظلم لليبراليين":
"...... لقد كان مرسي رئيس سيئا، وتناقصت شعبيته. ولكن وطن بلا خبرة وتاريخ في الديمقراطية من الطبيعي ألا يجد الحاكم المتفتح من الجولة الأولى. والانتخابات تعطي المواطنين الفرصة لمحاوله أخرى. ومع قليل من الصبر، كان من الممكن أن تنتصر على مرسي سلميا. بدلا من أن يتواطئوا لاستبعاد الإخوان المسلمين من الحياة السياسية، وهم بذلك يستبدلون استبداد الأغلبية بآخر. ولأن كثيرا من الإسلاميين يغلب عليهم الشعور بالمرارة، فلن يقبلوا النظام الجديد، وسوف يكون استبداد الأغلبية الجديدة أكثر وحشيه من سابقه....."
ويضيف تروب "...... الليبراليون المصريون تتملكهم كراهيتهم للإخوان المسلمين أكثر من كراهية الإخوان المسلمين لهم..."
ويكفينا أن نتابع تطور الانقلاب والأحداث لندرك أن نتاج هذا الانقلاب هو عوده نظام مبارك بدونه هو شخصيا، وهو ما سعت له عصابة مبارك التي تمنت أن تتخلص منه لأنه أصبح عبئا ثقيل عليهم.
لقد بدأت متابعتي لمرسي بجولة الإعادة لانتخابات الرئاسة في يونيو 2012، ومثل الكثيرين أعطيته صوتي حتى لا يعود نظام مبارك متمثلا في شفيق. إلا أنني وغير البعض اعتبرت أن استراتيجية المرحلة تستدعي الوقوف بجانب مرسي ومن ورائه الإخوان المسلمون حتى يتم مدة رئاسته الأولى ليقيني أن المعركة مع الدولة العميقة هي من أشد المعارك وتمثل الأولوية الأولى وليعطي مرسي والإخوان الفرصة كاملة، لم يكن يعنيني نجاح الإخوان من عدمه، بل كان شاغلي الأول نجاح التجربة الوليدة والقضاء على دولة مبارك الفاسدة.
إلا أن من يسمون أنفسهم بالليبراليين طالبوا الرئيس مرسي بالثورية، وعندما حاول تطبيقها بالإعلان الدستوري وعزل النائب العام وقفوا ضده، ورفض الليبراليون منح مرسي أي فرصة، وعملوا منذ اليوم الأول على إفشاله. حيث واجه الدولة العميقة منفردا، بل عضدها الليبراليون والمنتفعون، وتناسوا عن عمد أن طوال العام عمل مرسي من خلال:
- إعلام نمى وترعرع وفسد وأفسد في عصر مبارك واستمر في القيام بدوره المفرق والمحبط حتى اليوم
- نظام قضائي مفسد رعى الفساد وأحله، بما في ذلك المحكمة الدستورية العليا والنائب العام
- شرطه هي عدو للإصلاح ومرتع للتعسف والفساد، ورفضت أن تصلح وأن تعود للعمل لخدمة الشعب، واليوم هي تتعمد تدمير البلاد.
- نظام تعليم بني على تدمير العقول وتخريبها
- نظام اقتصادي منهار ويعيش على انهياره وانقاضه الطفيليين
ورغم كل ذلك فقد عمل الرئيس مرسي في عدة محاور زادت من حقد وكراهية أعداء الثورة في الداخل والخارج وأهمهما:
- أعادة فتح محاور مصر الخارجية، إيران، سوريا، الصين، أفريقيا...
- إقرار دستور وإرساخ منظومة الديمقراطية
- عدم المساس بأي من الإعلام الذي كله عداء له، حتى أنه عرف أن مرسي هو أكثر رئيس في العالم هوجم من الإعلام.
وكان من الطبيعي أن يتحالف بقايا نظام مبارك للدفاع عن مصالحهم وبقائهم، متحدين في ذلك مع الليبراليين في كراهيتهم للإخوان بل وللإسلاميين، بل منهم من يكره الإسلام ذاته. وفي محاولة مني تفهم كيف لليبراليين أن يتفاخروا بدفاعهم عن الحريات والحقوق، ثم يقفون وراء انقلاب يحلونه ويحرمون به الحريات لمن يعارضه ويعارضهم. فذهبت لأستمع لتفسيرهم، وكان وقع ما سمعته هو بمثابة انقلاب حقيقي للقيم وانحصار للمبادئ التي طالما تشدقوا بها، إنهم:
- استغلوا المعاناة الاقتصادية لاتهام الإخوان بالتقصير وعدم المبالاة بالمواطن العادي، ومكنوا من هم على يقين بأنه السبب وراء تلك المعاناة.
- استغلوا أزمه الطاقة التي صنعها وخطط لاستثمارها ونفذها نظام مبارك وبقاياه من الدولة العميقة.
- رددوا مقولات مضللة عن عمد مثل أخونة الدولة، متناسيين إنها إن صحت فهي أمر طبيعي لتمكين النظام من الحكم، إلا أنها ثبت كذب ذلك الادعاء وأصبح من الواضح أنه لم يكن للإخوان سيطرة على أي من أجهزة الدولة.
- ألصقوا كذبا تهمة الإرهاب بالإخوان، معتمدين في ذلك على أقوال مرسلة من إعلام مبارك وصور مركبة ومزاعم معدومة المصداقية، بل أحيانا بربط الإرهاب بمقاومة الإخوان، كباقي الصعب المصري، للاحتلال الإنجليزي
- ألصقوا تهمة الكراهية والتعصب بالإخوان، بناء على أقوال بعض الموتورين وساعدوا على تضخيم تلك الأقوال وعدم الاعتراف بوجود مقابل لها من الآخرين.
- ادعوا أن الإخوان يعادون الأقليات في مصر، وهم على علم أن من مارس الاضطهاد ضدهم هو من مارس الاضطهاد ضد الأغلبية المسلمة، نظام مبارك وهو من رتب ونفذ الهجمات ضدهم، التي قادها بالأمس ويقودها اليوم أمن دوله مبارك العائد بكل طاقته.
- رددوا السخافات مثل: تخابر مرسي مع حماس وهم يعلمون يقينا أن ذلك الاتهام غير منطقي وأن من يعبث بسيناء هم أعداء حماس وفلسطين.
- ورددوا سخافات مكملة مثل: ان المخابرات المصرية لديها تسجيلات تخابر تدين مرسي من قبل 25 يناير 2011، والغريب أنهم سمحوا له بالترشح ورئاسة مصر لمدة عام!
- عملوا بكل جهد على الإيقاع بين المصريين والعرب، السوريين والفلسطينيين، ألا يذكركم ذلك بنظام مبارك وإعلامه وموقفهم من الجزائر وغيرها
- ادعوا أن 30 مليون مصري خرجوا يوم 30 يونيو 2013 للمطالبة برحيل مرسي، أرقام لا ترقى للوهم المقبول ورفض تلك الأرقام من ادعوا أنه حصرها، "جوجل" والـ "بي بي سي". وإن صح ذلك فهم يمثلون ثلث كل سكان مصر، وأكثر من نصف غير الأطفال.
- ادعوا أن هناك 22 مليون مصري وقعوا استمارات تمرد، ولا مانع من ترديد الرقم وهو مشكوك في صحته عمليا ومنطقيا
- رفضوا الاستطلاعات الموثقة التي تثبت رفض الغالبية لعزل مرسي، ومحاوله معارضتها بأقوال مرسله للإعلام والشرطة.
- لم يجدوا غضاضة في أن يخرج بقايا الحزب الوطني لمشاركتهم في تظاهرات 30 يونيو، فقد أصبحوا وطنيين.
- لم يرفضوا عودة نظام مبارك متمثلا في أمن الدولة، والنائب العام، ووزراء.
- الكثير منهم وصل إلى حد اعتبار 30 يونيو هي الثورة، وإنكار 25 يناير، وهذا ما يسعى له نظام مبارك.
- قبلوا ظهور صور قائد الانقلاب وأغاني تمجده بل اليوم حملة لترشحه للرئاسة.
- داوموا على ترديد ما قاله نظام مبارك عن الثورة، واصفين أماكن الاعتصام لرفض الانقلاب بأنها أوكار للمخدرات والجنس وحمل السلاح.
- لم تطرف لهم عين والمئات من العزل يتساقطون برصاص الانقلاب
- ولم يخجلوا من تأييد الانقلاب، والتبرير له
- حتى أن الكثير منهم ظل يدعو ويغرد لفض اعتصام رافضي الانقلاب بالقوة، متحججين أن ذلك الاعتصام يعطل الحياة ويؤثر سلبيا على الاقتصاد ومرحلة البناء، بينما لم يستجيبوا هم لتلك الدعوات لمقاومتهم للبناء طوال عاما كاملا.
وفي محاولتهم لتسكين ضمائرهم، بافتراض أنها ما زالت تنبض، يدعون أن لا فارق بين ما قام به الجيش في 11 فبراير 2011 وما قام به في 3 يوليو 2013، متجاهلين أنه في 2011 كان هناك نظام مستبد دمر البلاد وعشش لقرابة أربعين عاما، 1975-2011، ولم يكن هناك آلية للتغيير السلمي الديمقراطي، وفي 2013 كان هناك نظام منتخب ديمقراطيا ارتكب العديد من الأخطاء ولم يحكم سوى عام واحد، وعندما انقلبوا عليه كانت هناك آلية للتغير السلمي الديمقراطي.
ولكن لماذا كان الانقلاب ضرورة وفي هذا التوقيت:
- خطة توفير الخبز والقمح بدأت تؤتي ثمارها
- بدء الخطوات العملية لتنفيذ مشروع تطوير ضفة قناة السويس
- رغم الحملة الشعواء، أكدت الاستطلاعات أن 65% من المصريين يرفضون عزل مرسي
- رغم الحملة الشعواء، أكدت الاستطلاعات أن مرسي تمتع بنسبة قبول عالية، 52% في 28 يونيو 2013، وهي عالية جدا لأي رئيس بعد عام في الحكم وخاصة في تلك الظروف.
- رغم الحملة الشعواء، أكدت الاستطلاعات أنه لو تمت انتخابات البرلمان في 15 يونيو 2013 سيحصل الإسلاميين على 68% من المقاعد
- في هذا التوقيت كان الرئيس مرسي قد أعد قانون تطهير الشرطة الذي كان بموجبه سيحال للتقاعد حوالي خمسة آلاف ضابط من القيادات المعروف بتضارب مصالحها الخاصة مع نجاح الثورة
- في هذا التوقيت كان الرئيس مرسي قد أعد قانون تطوير القضاء الذي بموجبه سيحال للتقاعد كل الطاقم المسيطر والممكن من نظام مبارك
- لو تمت الانتخابات البرلمانية سيكون إتمامها هو إعمال للدستور الذي وإن تحفظ البعض على بنود منه، فقد سيكون قد ثبت عزل بقايا نظام مبارك وحجم دور القوات المسلحة في السياسة.
ومن المؤسف أن ذلك يحدث بحشد من بعض ممن كانوا يوما ما محسوبين على ثورة 25 يناير واليوم يسقطونها وينكرونها، ومن كانوا يوما ما محسوبين على ثورة 23 يوليو واليوم يستغلونها ويسيئون لها ويشبهون الخائن قائد الانقلاب بالزعيم الوطني عبد الناصر.
وحقا ماذا حقق الانقلاب بعد مضي أكثر من شهرين على تمكنه من الحكم:
- معارضو مرسي الوطنيون منهم من طالبه بالاستقالة، اليوم يقفون في خندق واحد مع الإخوان ويقتربون كل يوم، ليس دفاعا عن الإخوان ولكن دفاعا عن الثورة والديمقراطية، التي تضرب ليل نهار.
- إدانة دوليه للانقلاب، الاتحاد الأفريقي يعلق عضويه مصر المؤسس! منظمة العفو الدولية تدين أساليب حكومة الانقلاب وتندد بأكاذيبها.
- ثلاثة دول فقط تعترف بالانقلاب: الإمارات والسعودية وإسرائيل بالإضافة للنظام السوري، وللأسف لحقت بهم مؤخرا الجزائر.
- تعميق الانقسام بين المصريين والتغني به.
- تطهير أخطاء مرسي، فهو ملاك بجوار شياطين الانقلاب
- إظهار الوجه الحقيقي لمن يدعي الثورية، ثم يؤيد الانقلاب، ومن وقف مع الثورة حتى الآن.
هذا تحذير من مستقبل مظلم صنعه الانقلاب ومؤيدوه، وللأسف العاقبة ستصيب المنطقة بالكامل وليس انقلابيو مصر فقط، فإن لم تفيقوا لحقيقة ما حدث، فإن الصدمة ستكون مروعة أكبر من صدمة عدم تحقيق أي تقدم في مصر على أيدي الإخوان ونتائجها ستكون مدمرة.
لقد أثبت الانقلاب ذلك أنه عكسا لما ادعى المضللون، فالإخوان هم من آمنوا بالديمقراطية ويدافعون عنها، بينما الليبراليون هم من انقلبوا عليها، ووأدوها في مهدها.
لقد أقدم الليبراليون على مقامرة غير محسوبة بدحر أخطاء مرسي بخطيئة الانقلاب المتلون بنكهة الإرادة الشعبية، وسيشهد التاريخ أنه في 30 يونيو2013 مارس قطاع من الشعب المصري، ولأول مرة في تاريخ الشعوب والإنسانية، الانتحار الجماعي!
وأخيرا فإن أخطاء مرسي لا تساوي خطيئة الانقلاب والمؤامرة الدنيئة على الثورة. ولنعاود قراءة التاريخ حتى نتجنب أخطاء شيلي ورومانيا وإسبانيا وغيرهم، ولنضع نصب أعيننا تجريه فنزويلا ونسقط الانقلاب.
وما زال الوقت متاحا ليعود الشق الوطني من الليبراليين لصوابهم ويصححوا موقفهم وينضموا لصفوف المقاومة السلمية ويشاركوا في إسقاط الانقلاب، فالقوي الواثق من نفسه هو من يعترف بالخطأ الآن وقبل أن يفوت الأوان.
وعفواً مصر،... فهذه هي الثورة المضادة
واقرأ أيضاً:
نداء أخير إلى كل شرفاء مصر / مبروك لمصر، ولكن المعركة طويلة / مغالطات وأكاذيب تشاع عن الدستورر / مرسي والمعارضة
التعليق: مقالة رائعة .... تلخص الوضع بدقة .... جزاكم الله خيرا