يُعيد مشهد القطع الحربية البحرية التي تتدافع على البحر المتوسط إنعاش ذاكرة الحرب الباردة بين الكتلتيّن الشرقية والغربية في هذا العالم. البرودة العامة لتلك الحرب أتت بعد سخونة لاسعة في مفاصل زمنية عدة كان أبرزها أزمة الصواريخ في كوبا (عام1962) والتي كادت أن تُفجّر حرباً نووية بين الجباريّن. الأمر انتهى حينها بتسوية وتراجعات جديرة بنهايات الأفلام الهوليوودية.
تولّت واشنطن وموسكو السوفياتية خوض الحروب بينهما بالوكالة هنا وهناك. الولايات المتحدة تُدافع عن الحرية ضد "الإلحاد والشيوعية"، والاتحاد السوفياتي يُدافع عن"البروليتاريا والشعوب المُستَعْبَدة ضد الإمبريالية". في الجولات والصولات، تمكن الأمريكيون في الميدان الأفغاني من إنهاك السوفيات وهزمهم، فيما تولت "بيريسترويكا" (غورباتشيف) الإجهاض على النظام المتعب في موسكو وامتداداته في أوروبا الشرقية. ثملت واشنطن من كأس الانتصار وأعلنت بتثاؤب عن "نهاية التاريخ" -حسب فرانسيس فوكوياما-.
لم ينتهِ هذا التاريخ. أعاد (صاموئيل هانتنغتون) الكلام عن "صراع الحضارات" مستشرفاً الصدام مع الشقّ الإسلامي من هذا العالم. لكن هل كان ذلك إسـتشـرافاً أم قراراً باختراع عدو جديد تُدار الصراعات حولـه لعقود..!!؟؟
صحت روسيا من كبّوتها وعادت «ببوتينية» طموحة تُقارع العالم تحرياً لأمجاد في السياسة والاقتصاد والقوة العسكرية. على أن تلك المقارعة تبدو سلوكاً بلطجياً، على ما شهدناه في جورجيا (عام 2008)، أكثر منه استراتيجية ذات مصداقية بإمكانها أن تُعيد روسيا إلى عهود غابرة.
يتقدم المشـهد السـوري مناسـبـة لموسـم المبارزة بين روسـيا والولايات المتحدة. في تلك المبارزة تبدو الصين عنصراً متضامناً مع الروس أكثر منـه عنصراً غيوراً على سـلامـة النظام في سـوريا.على ذلك، لا يتأسس الموقف الروسي على تحالف ايديولوجي (شيوعي سابقاً رغم التناقض بين الماوية واللينينية)، ولا على تحالف عسكري (يُعيد أمجاد حلف وارسو) ولا على تحالف سياسي (حيث روسيا جزء من مجموعة الثماني الشبه أطلسية). وعلى ذلك يتقدم الموقف الروسي صلباً متيناً في الشكل، مخصباً بكثير من اللبس والخواء في المضمون..!!
يخوضُ (بوتين) وإدارته الصراع حول سوريا على نحو يوميّ تُقرره أسعار الصباح كما في «حسبة» الخضار الفجرية. في كل لحظة، ووفق تقلّبات السوق، يصبّ (بوتين) بضاعة روسية في الإناء السوري نافخاً بتصريحات مدافعة عن نظام دمشق، دافعاً بالعتاد العسكري، ومرسلاً سفنه إلى شواطئ قاعدته في طرطوس. لكن رجل روسيا القوي، يسحبُ في لحظات أخرى بضاعةً روسية من الإناء السوري مسرِّباً تصريحات تُعبِّر عن ضيق من الأسد ونظامه، معلناً عن عدم نية بلاده الحرب من أجل دمشق وشخوصها، فيما تنهمك سفنه في إخلاء رعايا روس من البلاد. وما بين سلوكيّن متناقضيّن (وفي السياسة قد يجوز أن يتكاملا) تدورُ لعبةُ أممٍ ندر مثيلها في تاريخ المناورات السياسية - العسكرية في العقود الأخيرة.
ورغم حالة التراجع التي دشّن بها الرئيس الأمريكي (باراك أوباما) عهده في أفغانستان والعراق، ورغم الأزمة الاقتصادية التي تأثّر بها كثيراً الاقتصاد الأمريكي، وتأثر بها قليلاً الاقتصاد الروسي، فإن الولايات المتحدة ما زالت تتربع على عرش العالم في السياسة والمال والاقتصاد والقوة العسكرية، فيما لا يبدو أن تقدما مُهدّدا لتلك الزعامة تسعى إليه جدياً دول أخرى.
في هذا الصدد، لا تخسـر روسـيا شـيئاً في مناورتها التصعيديـة المتحديـة للغرب في المسـألـة السـوريـة. تروم موسـكو تثبيت نفوذ لا تملكـه في المنطقـة، وتسـعى لإحداث شـغب في الملعب الأمريكي التقليدي؛ فإذا ما ربحت رهاناتها، فذلك مكسـبٌ خارج الحسـاب، وإذا ما خسـرتها، فهي لن تخسـر ما لا تملكـه..!!
الكلام الروسي عن نفوذ ومصالح لروسيا في سوريا كلام مستجد ربما فاجأ السوريين والروس أنفسهم قبل أن يُفاجئ الغرب. لا يذكر المراقب أي دور لروسيا في خيارات دمشق السياسية سواء في شأن التسوية مع (إسرائيل)، أو في إدارة الصراع مع العراق بعد الاحتلال الأميركي، أو في تطوير التحالف مع طهران وما يواكبه من إنهيار جدلي للعلاقات مع الرياض والقاهرة، أو في التعاطي مع الشأن اللبناني منذ اغتيال رفيق الحريري والانسحاب العسكري السوري من هذا البلد. بدت روسيا بالنسبة لدمشق، كما لأهل المنطقة، ذكرى من تاريخ سوفياتي غابر!
من تلك الحقيقة يبدو الدور الروسي مرتجلاً، ناجحاً، رغم ذلك، في ضخّ جرعات عالية من التعقيد على حالة هي أصلاً معقّدة في سوريا، ما أغرى الكثير على اعتبار أن ذلك الدور الروسي بات مطلوباً من الغرب كعنصر من عناصر إدارته للصراع في المنطقة عامة وحول الشأنين السوري الإيراني خاصة (دور موسكو في حرمان دمشق من سلاحها الكيماوي قبل أيام دليل آخر على ذلك).
بالمقابل تبدو الولايات المتحدة تُدير دفة الفعل تاركة لروسيا التمتع بردّ الفعل (آخر الأمثلة توجيه كيري إنذاراً لدمشق بتسليم المخزون الكيماوي تولى لافروف تلقفه وترتيب الاستجابة للرغبة الأمريكية).
في عوامل الفعل أن تنكفئ الولايات المتحدة عن الميدان السوري المباشر في العامين الأخيرين، لكنها تُحسن ضبط إنفعالات حُلفائها الداعمين للمعارضة السورية وفق الإيقاع الأمريكي وحده، وتنضبط تركيا كما دول الخليج تحت السقف المرفوع أمريكيا. وتعمل الإدارة الأمريكية مع روسيا -وهنا يُصبح الدور الروسي ضرورياً- لاستشراف تسوية في جنيف لا تقتل الناطور ولا تُفني الغنم. وهي تسوية لا تُرضي النظام ولا تُرضي المعارضة. ووفق الأجندة الأمريكية تندفع مشاريع «التأديب العسكري المحدود والمتناسب» والتي لا تُسقط نظاماً ولا تنصر معارضة ولا تُعادي منافساً في موسكو.
تملك روسـيا لغـة تعطيل، لكنها لا تملك مفاتيح الحلّ. وواضح من دروس سـابقـة أن الأصوات العاليـة تخفت أمام جلبـة الكبار. عندها تُقرّ موسكو أنها لن تُحارب من أجل سوريا، وتذهب درءً لغضب واشنطن إلى إجبار دمشق على «تسليم» مخزونه الكيماوي (على الرغم من إصرار بوتين المتكرر أن من استخدم ذلك السلاح هو المعارضة!)، كما يُعلن "حزب الله" أن لا نية لديه لمهاجمة أهداف غربية، فيما تعترف طهران بالـ (هولوكوست) وتُعلن أن لغة "نجاد" ولّت مع "نجاد".
في اجتماع الثمانية الكبار في (سان بطرسبرغ)، يُخبرنا (بوتين) أن نظيره الأمريكي «لم يُنتخب لإرضاء روسيا». ويكشف لنا (أوباما) أن المحادثات مع الرئيس الروسي حول الشأن السوري كانت «مفيدة وأن كل طرف بقي على موقفه». أهمل الزعيمان حينها إخبارنا أنهما ناقشـا «المبادرة» الكيماويـة؛ بكلمة أخرى، مطلوب من الزعيمين أن يُحافظا على خلافهما، فذلك ضرورة لمنح أي تسـويـة محتملـة مصداقيـة المتخاصمين.
كلمة السرّ الكبرى في الصراع بين موسكو وواشنطن هي تسوية جنيف العتيدة. الأخضر الإبراهيمي ينعى أي تسوية سياسية في حال تنفيذ الضربة العسكرية ضد سوريا. موسكو أيضاً حذَّرت من الأمر، قبل أن يُخفف (لافروف) من هذا الاحتمال ويُحذّر من تضاؤلٍ فقط لفرص نجاح جنيف في حال نُفذت تلك الضربة، ذلك أنه ماذا يبقى لروسيا (التي قالت أنها لن تُحارب) إذا ما أعدمت الحرب فرص التسوية في جنيف؟
ربما هكذا يجب أن نفهم التحوّل السوري الذي أفصحت عنه تنازلات وليد المعلم في حضن العاصمة الروسيّة. بين ليلة وضحاها، لا بل بين ساعة أمريكية وأخرى روسية، تُعلن دمشق عن استعدادها لتسليم ما تملكه من أسلحة دمار شامل، واستعدادها لحضور مؤتمر جنيف دون شروط مسبقة، وللتنازلات بقية..!!
نُشر في 13/09/2013، العدد: 9319، ص(9)، مجلة العرب -لبنان
واقرأ أيضاً:
هل الثورات العربية خطة أمريكية؟ / هل يخطط الأمريكيون لمملكة عربية متحدة ووطن بديل ؟ / سيناريو سوري قاتم بتوقيع روسي أمريكي