وسط حياة روتينية رتيبة ظهر عالم الـ "إنترنت" كفكرة غامضة جاذبة، وفي أجواء الكبت وانعدام الحرية بات يُمثل فضاءات القدرة على التعبير عن الرأي بجرأة غير مسبوقة. الطريق الطويلة التي بدأت برسائل البريد الإكتروني، وتلتها المنتديات والمدونات، انتهت اليوم بما نُسميها وسائل "التواصل الاجتماعية".
تميَّز عصر المدونات والمنتديات بالأسماء المستعارة والحوار حول "مواضيع" أو "قضايا"، ولذلك أُطلق على كل منها مصطلح "العالم الافتراضي"، بينما تطور الأمر في وسائل "التواصل المجتمعي" إلى أسماء وأشخاص حقيقيين و"تعبير" عن الرأي، أحياناً بشكل مبالغ فيه. وكلما زادت جرعة الجرأة والحرية في الطرح، تقلصت مساحات الخصوصية والسرية إلى أبعد الحدود.
فهل ما زالت هذه المساحات والوسائط "عوالم افتراضية"، أم أنها هي الأخرى تطورت إلى شيء آخر؟ وهل يتطلب ذلك منا تعاملاً مختلفاً الآن عما كنا عليه إزاءها قبل سنين؟ دعونا، في السطور القادمة، نأخذ الـ "فيسبوك"، أحد أكثر هذه الوسائل شعبية، مثالاً.
ـــــ على الـ "فيسبوك"، نُسجل معلوماتنا الشخصية، وننشر صورنا العائلية، نكتب عن ماضينا، نُسطر حاضرنا، ونُسجل أحلامنا عن المستقبل!
ـــــ على الـ "فيسبوك"، نضع كلاماً، وصوراً، وفيديوهات، وروابط، وتحليلات!
ـــــ في الـ "فيسبوك"، لدينا قوائم أصدقاء، ودعوات لمناسبات، وصفحات لقضايا!
ـــــ على الـ "فيسبوك"، نستطيع كتابة ما نريد، والتعبير عن مشاعرنا وأفكارنا، والدخول في حوارات، والتعليق والتعقيب على كل ما نريد، والسكوت عمن وعما نريد!
ـــــ على الـ "فيسبوك"، نُتابع من نريد، ونحظر من نشاء، ونُحدد من نريد أن يقرأ ما نكتب ومن لا نرغب له بذلك!
ـــــ في الـ "فيسبوك"، نُتابع الأخبار، ونقرأ المقالات، ونستمع للتحليلات. نُتابع الجاد والهازل، المضحك والمبكي، الصحيح والمكذوب!
ـــــ على الـ "فيسبوك"، نُعجب بما نريد، ونُعلق على ما نرغب، ونُشارك ما نشاء، بل "يقتبس" بعضنا و"يسرق" بعضنا الآخر من كتابات الآخرين!!
ـــــ في الـ "فيسبوك"، فضفضات، وقضايا، ومشاريع، وكلام، وأحلام، وأوهام!
ـــــ على الـ "فيسبوك"، بات صعباً الحديث عن موقف معين لأن من عايشته معه صديقك على الصفحة وسيقرأ ما تكتب. قلـَّتْ مساحات التعريض والإيماء، وزادت نطاقات الحذر والانتباه!
ـــــ على الـ "فيسبوك"، ومع الوقت، تخلينا عن الحذر الذي بدأنا به، وألقينا كل ما في جُعبتنا من كلام وأسرار وأصبح "أصدقاء" الـ "فيسبوك"مثل أبناء العائلة الواحدة، لا متوار عنهم ولا غريب بينهم!
ـــــ في الـ "فيسبوك"، دخلنا مدججين بألف قناع وقناع، ثم ألقيناها واحداً تلو الآخر، حتى أصبحنا بلا قناع ولا مكياج ولا تزيين!!
ـــــ على الـ "فيسبوك"، أفراد، وشركات، وأحزاب، وأفكار، ودعايات، وكُتــّاب، ومحللون، ومفكرون، وأجهزة مخابرات..!!
ـــــ على الـ "فيسبوك"، دخلنا يمتلكنا الفضول، وأصبحنا غير قادرين على الوصول، ولا راغبين في العدول. بدأنا بثوانٍ، أمضينا الدقائق، وبتنا غير قادرين على القيام قبل ساعات!
فهل بعد كل هذا، ومع كل هذه التشبهات والتشابكات مع الواقع، يصح أن نُبقي على تسمية "العالم الافتراضي" على مختـَرَع (مارك زوكلينبرغ)..!!؟؟
صدق من قال: الـ "فيسبوك" كالسيجارة، أوله "دلع"، وآخره "ولع".
مقال للحوار والنقاش
واقرأ أيضاً:
مظلمتي عند الفيس بوك / الفيس بوك ينتزع قلبي
التعليق: إذا حضرتك تتذكر حجم الدعاية الاعلانية التي عملت أول ما ظهر الفيسبوك والأقاويل أنه المخابرات بكل جنسياتها تقف وراء انتشاره فهو أفضل مصدر لجمع المعلومات, وانحسار الخصوصية شيئا فشيئا, وإلقاء ما في جعبتنا على صفحاته وانكشاف أفكارنا وأهوائنا وكل ما لدينا على صفحات الفيسبوك, فحتما ستعرف كما نحن أصبحنا متيقنين أنه لم يوجد ليكون عالما افتراضيا بل تم جرنا إليه شراكة بكل ذكاء وفطنة