حاسة "العد" هي حاسة بشرية جديدة إلتصقت بالشعب الفلسطيني دون غيره من المخلوقات، فقد عاهد هذا الشعب تراب أرضه قبل أن يُعاهد نفسه على الثبات، والإستمرار والرباط على الأرض مهما واجه من ويلات. حفظ هذا الشعب العهد، وصبر وصابر، وصمد وقاوم، منذ نهاية عهد العثمانيين، ثم البريطانيين والسماح بقدوم اليهود المهاجرين، وما تخلل هذا من مذابحٍ ومآسٍ تندي الجبين، مروراً بالنكبة ثم النكسة، وإنطلاق الثورة وبزوغ فجر المقاومة، فالإغتيالات والإجتياحات والإعتقالات، ثم المفاوضات، وبضع إتفاقات، وبعدها المزيد من المفاوضات، ولن ننسى ذكر بلاء الإقتتال، حين إستخدم سلاحاً فرّق بعد أن أعزّ الرجال، فأضحى الإنقسام نبعاً جديداً لسُمٍ يتجرعه أهل البلاد. قليل هي هذه الكلمات، ولكنها تُشخص حالة شعب لطالما تحمل الأزمات، شعب صابر راسخ في أرضه، وأمله في الحرية والعودة ـــــ أبداً ما مات!
وبالحديث عن "حاسة العد"، فبعد مرور بضعة أشهر على سلسلة المفاوضات الجديدة (والمفترضة أن يكون سقفها الزمني تسعة أشهر فقط)، والتي عبَّر الكثير من المسؤولين الفلسطينيين عن علمهم المسبق بأنها لن تؤتي شيئاً، لأن الإسرائليين متعنتين في مواقفهم، بدى وكأن جميع التصريحات المتشـائمـة تصدر فقط عن المسـؤولين الفلسـطينيين، الذي بدى وكأنهم يُعدون الشـارع الفلسـطيني لخبر الفشـل الجديد، أمّا المسـؤولين الإسـرائيليين، فلم يظهر منهم ما يُشـير إلى تشـاؤم أو عدم رضا، وأبرز تلك التصريحات جاءت على لسان (تسيفي ليفني)، التي رأت أن المفاوضات قد تستمر لأكثر من تسعة أشهر. صحيح أن تصريحها لم يكن متشائماً، ولكنه يحمل في مضمونه الكثير من واقع حال هذه المفاوضات.
وفي تحليل سـريع لأسـباب هذا التمايز بين موقف المفاوض الفلسـطيني والإسـرائيلي، نجد أن الأخير في موضع قوة؛ فهو الذي يتحكم بكافة تفاصيل الحياة، أكانت في قطاع غزة المحاصر المحتل، أو في الضفـة الغربيـة المحتلـة. يُفاوض الجانب الإسرائيلي في وضعية مريحة، بعد أن إستقر له الحال الأمني، مما تبعه من إستقرار إقتصادي أدى لزيادة الإستثمارات وإرتفاع أرقام السيّاح الأجانب، ولم تتوقف مصانعهم عن إنتاج البضائع من مأكولات ومشروبات وغيرها من سلع إستهلاكية، فالسوق الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية كفيل بأن يُبقي حياة هذه المصانع لعشرات من السنين قادمة!! المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية لم تعد تعدو أكثر من تهديد في مقطع على (الإنترنت) أو منشور يوزع على بعض الوكالات الإخبارية، وفي أروع الأحوال مسيرة لبضع فتية يحملون عدة بنادق آلية.
أما في غزة، وبعد كل ضربة مؤلمة وجهها المحتل الإسرائيلي للقطاع وفصائل المقاومة هناك، لم يتبقَ من المقاومة إلا تهديداً هنا أو وعيداً هناك، مع الاحتفاظ طبعاً بحق الرد ـــــ في الوقت والمكان المناسب. الحكومة المقالة ملتزمة تماماً بإتفاق وقف إطلاق النار، ولا يجرأ أي مقاوم على الاقتراب من السياج الفاصل، وإلا فسيتم إلقاء القبض عليه. أما عن الإستعداد وإعداد العدة، فبدت وكأنها ذهب أدراج الرياح مع إغلاق الأنفاق، فلم يعد هناك أية إمكانية لنقل سلاح أو عتاد، إستعداد لمعركة قادمة.
وبعيداً عن المقاومـة ـــــ أو ما تبقى منها ـــــ فالأمور على الأرض تسـري وفقاً لرؤيـة ومصلحة الجانب الإسـرائيلي؛ فتغيير الحقائق على الأرض ـــــ خاصـة في مدينة القدس ـــــ تسـري على قدم وسـاق، والبناء الإسـتيطاني والتوسـع يسـريان بلا توقف، فلا يكاد يمر يوماً إلاً وتقضم المزيد من البقعـة المتبقيـة من أراضي الضفـة الغربيـة، والهجرة اليهوديـة من كافـة بقاع الأرض مسـتمرة بلا توقف، والموارد الطبيعيـة من مياه جوفيـة وخيرات تُسـتغل بأكبر قدر ممكن، أما الغاز الطبيعي قُبالـة السـواحل الفلسـطينيـة فأصبحت مزاداً تسـعى السـلطات الإسـرائيليـة لإسـتغلالها وبأسـرع وقت ممكن.
إذاً، ولم العجلـة!؟ فتسـعـة أشـهر قد تكون غير كافيـة، وخاصـة أن كل يوم يسـتمر فيه الفريقين الفلسـطيني والإسـرائيلي في الجلوس سـوياً على طاولة المفاوضات، يُقلل حجم الضغط الدولي ـــــ إن تبقى أيـة قيمـة لـه ـــــ، ويرفع أي عتب عن الجانب الإسـرائيلي!!! حقيقة أنه وخلال فترة توقف المفاوضات لم تكن الأوضاع الدبلوماسية الإسرائيلية بأفضل أحوالها، وصحيح أن العلاقات الرسمية بين (إسرائيل) والكثير من دول العالم أصابها الفتور خلال الفترة الماضية، إلا أن هذا لم يضر (إسرائيل) كثيراً، وخاصة أنها تلقى دوماً، وتحت أية ظروف، دعم أمريكي غير محدود.
ولكن هناك حقيقـة يجب عدم إغفالها وهي: أن نجاح (إسـرائيل) خلال تاريخها القصير نبع بالدرجـة الأولى من نجاحها في الدبلوماسـيـة العامـة والقدرة الفذة ـــــ لأسـباب كثيرة ـــــ في إخضاع وسـائل الإعلام الغربية لتبني روايتها ورؤيتها!! من هذا المنطلق يبدو جلياً الأسباب التي تجعل (إسرائيل) متمسكة بالمفاوضات، أو أحاديث المفاوضات، أملاً في إحداث توازن ومن ثم التفوق بعد أن حقق الجانب الفلسطيني أفضلية نوعية خلال العامين الماضيين، والذي إنعكس إيجاباً في تصويت الأمم المتحدة على قبول فلسطين دولة غير عضو.
إذاً، تسـعى (إسـرائيل) إلى المزيد من الأحاديث، ولا شـيء إلا الحديث، مع إسـتمرار العمل على الأرض وتغيير ما تبقى من واقع فلسـطيني، ومراهنـة في الوقت ذاته على إسـتمرار الإنقسـام الفلسـطيني، مع يقين بمحدوديـة قدرة الجانب الفلسـطيني على اتخاذ قرار الفعل وليـس رد الفعل، علماً بقلـة خياراتـه، خاصـة في ظل التناحر المقيت في المحيط العربي.
ذات يوم قال لي أحد أعضاء "الحرس القديم" في الثورة الفلسطينية أن نجاح (إسرائيل) واستمرارها يعتمد على عاملين: الأول هو المحافظـة على تماسـك جبهتها الداخليـة ـــــ المفككـة بطبيعتها ـــــ من خلال وضع مواطنيها دوماً في موضع الخوف والتهديد؛ فتبقى الصفوف موحدة لمواجهـة خطر عدم البقاء.
أمّا العامل الثاني فهو الإبقاء على حالـة اللاسـلم واللاحرب في هذه المنطقـة، لعلم صانع القرار الإسـرائيلي أنـه وإن قامت حرب طاحنـة حقيقيـة، فسـتصبح (إسـرائيل) أثراً بعد عيْن، أما وإن تحقق سـلام حقيقي، فسـيكون إشـارة البدء لتآكل وإنتهاء كيان شـاذ لن يقوى على أن يُحافظ على أفضيلتـه وسـط بحر من العرب. ولهذا السـبب، فكلما اقتربت أي مفاوضات من تحقيق إتفاق سـلام حقيقي، تختلق (إسـرائيل) الشـروط "التعجيزيـة" الجديدة، وبدعم من ماكنـة الإعلام الأمريكي، وهو الأمر الذي يؤدي لتأجيل أو فشـل "جولـة جديدة" من المفاوضات.
وكذلك، فتتجنب (إسـرائيل) أيـة مواجهـة أو حرب مباشـرة مع أي دولـة كانت، وتقوم بالتحريض، وبمسـاندة اللوبي الصهيوني النافذ في الولايات المتحدة الأمريكيـة، لتقوم الأخيرة بحروب بالوكالـة عن (إسـرائيل). وأقرب مثال يحضر في هذا المقال هو أنـه عندما قصف صدام حسـين (إسـرائيل) 1991، لم تقم (إسـرائيل) بالرد ولو بصاروخ واحد تجنباً لحرب حقيقيـة أرادها صدام حسـين، إلاّ أنها أوكلت المهمـة للولايات المتحدة الأمريكيـة لتُنجزها وبالنيابـة عنها، للقضاء على جيـش، إعتُبر في ذلك الوقت أقوى جيـش عربي.
ويبقى التساؤل هنا، أما جاء الوقت لنُعد العدة ونُفكر ونُخطط لما هو أبعد من التسعة أشهر تلك!؟ ألم يحن الزمان لأن نأخذ المبادرة ونحن بمتسعٍ من الوقت لنُخطط ونرسم لما هو قادم!؟ ألم تأتِ الفرصة الآن لجميع من اعترض على المفاوضات بأن يبدأ بتقديم بدائل عملية بعد أن أُعطيت المفاوضات فرصةً جديدة!؟ أعتقد جازماً أن أول هذه الخطوات يجب أن تكون بإنهاء انقسـامٍ ظلم شـعباً وقهر قضيـة...
واقرأ أيضاً:
ثورات العرب الجديدة: نظرية مؤامرة أم إرادة أمة/ الهجوم على سورية سقوط الأقنعة!