رغم قوة أجهزتها الاستخباراتية الرهيبة، إلا أن الدول الغربية وأذنابها من طواغيت المنطقة فشلوا فشلاً ذريعاً في استشراف الثورات، أو حتى التنبؤ بها، بدليل أن الاستخبارات الأمريكية اعترفت بأنها "فوجئت" بالثورات العربية وسرعة اندلاعها! وبدورها لم تستطع الاستخبارات العربية في بلدان الربيع العربي استشعار الحراك المتصاعد الذي أدى أخيراً إلى زلزلة الأرض تحت أقدام الديكتاتوريات. وقد أنَّب أحد الزعماء العرب أجهزتـه الأمنيـة الرهيبـة على فشـلها في رصد الغليان الشـعبي على مدى سِـنين، لا بل راح يسـتعيض عن الأجهزة بالجيـش لضبط الأمور وتسـييرها، بعدما خذلتـه الأجهزة!!
لكن يجب الاعتراف أيضاً أن القوى المتحكمة بالمنطقة وعلى رأسها أمريكا وحُلفاؤها من الطواغيت الساقطين والمتساقطين لم يألوا جهداً في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بعد فشلهم في الحيلولة دون اندلاع الثورات. وقد أظهرت الشهور القليلة الماضية كيف استطاعت أمريكا وفلول الأنظمة القديمة في عكس حركة الـ (دومينو)، لا بل تحويل الثورات إلى وبال على شعوب البلدان التي قامت فيها.
لقد ثارت الشـعوب بالأصل من أجل التغيير والإصلاح، لكن أعداءها في الداخل والخارج عرفوا كيف يضعون العصي في عجلاتها، وحتى فرملتها، وجعلها تحن إلى أيام الطغيان الخوالي، مع الاعتراف طبعاً بأن هناك شـريحـة شـعبيـة كبيرة ليسـت نادمـة على الثورات مهما كانت التضحيات. لقد نجح الخارج والداخل المتحالف معـه حتى الآن في حرف الثورات عن مسـارها وتحويل كل واحدة منها باتجاه معين.
في مصر مثلاً عاد النظام السابق منتقماً إلى السلطة بقوة أكبر بكثير. وقد ساعده في ذلك الغضب الشعبي على القيادة الجديدة التي فشلت في تحسين أوضاع الشعب المصري، أو بالأحرى التي تم إفشالها من قِبل الدولة العميقة المنتمية للنظام السابق بالتعاون مع قوى عربية وإقليمية ودولية وعلى رأسها أمريكا. بعبارة أخرى، يمكن القول إن الثورة المصرية الأولى التي اندلعت في 25 يناير تبخرت، وحلّت محلها ثورة مضادة.
ليس هناك أدنى شك أن الثورة المضادة اندلعت بتأييد شعبي كبير، لكن العبرة دائماً بالنتائج، فهل تحسنت الأوضاع بعد إسقاط محمد مرسي، أم أن مصر مُقبلة على مستقبل مظلم نتيجة الصراع السياسي والتدهور الاقتصادي؟ لكن هذا الوضع لن يضير المنقلبين على الثورة في الداخل والخارج طالما أنهم أحبطوا الثورة، وجعلوا الشعب يحن إلى أيام الطغيان الخوالي!
والسؤال الآن، هل سيقبل الشعب الخدعة التي تعرض لها، ليس دفاعاً عن محمد مرسي، بل لأنه وجد نفسه من جديد في مواجهة النظام القديم؟ لن تنتهِ الأمور هنا، فالوضع يبقى سيالاً في كل الاتجاهات على تعاسته. لكن هذا لا ينفي أن الأمور تعقدت لصالح أعداء الثورة وضد مصالح الثوار.
وحدث ولا حرج عن الوضع في سوريا؛ فنجاح أعداء الثورة في مصر صبَّ في صالح النظام في سوريا رغم أن النظام السوري من المفترض أنه على عداء مع نظام مبارك في مصر. لكن مع ذلك، نرى الآن أن هناك ما يُشبه التحالف غير المعلن بين الإنقلابيين في مصر والنظام في سوريا على اعتبار أن الطرفين يواجهان الإسلاميين. أضف إلى ذلك أن إدخال السـلاح الكيماوي على خط الثورة السـوريـة نجح في اختزال الثورة السـوريـة في المسـألـة الكيماويـة والجماعات المتطرفـة وسـط فرحـة كبيرة من قِبل النظام ومؤيديـه.
والأمر الأخطر أن حجم الدمار الذي تسبب به النظام في البلاد جعل الشعب والثوار يتجرعون كماً هائلاً من المرارة، لا بل جعل البعض يلعن الساعة التي طالب فيها بالإصلاح والتغيير. ليس هناك أدنى شك أن الثورة السورية تعرضت لضربات مؤلمة جداً من أعدائها في الداخل والخارج على حد سواء لإجهاضها وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. لكن من المستحيل أن يعود الوضع إلى ما كان عليه قبل الثورة؛ فالتحول قد حدث، ولا يمكن لأحد أن يحكم الشعب السوري بالطريقة القديمة كائناً من كان، مع الاعتراف أن الثمن الذي دفعه السوريون باهظ جداً عقاباً لهم على ثورتهم.
وفي ليبيا، صحيح أن الخارج ساعد الليبيين في القضاء على نظام القذافي، لكن هذا لا يعني أنه سيُساعدهم في بناء بديل أفضل. على العكـس من ذلك، فالإنتقام من الثورة الليبيـة يحدث بطرق مختلفـة، وعلى رأسـها شـرذمـة البلاد قبائلياً ومناطقياً وتقطيع أوصالها، بحيث لا تصل الثورة إلى أهدافها.
والسؤال: هل يستطيع الشعب الليبي أن يُحبط مخططات تحويل الثورة إلى وبال على الليبيين؟ الأمر ليس صعباً.
وفي تونس حاول أعداء الثورة في الداخل والخارج أن يلعبوا اللعبة المصرية بإثارة صراع مرير بين الإسلاميين والعلمانيين وذلك من خلال إغتيال بعض الشخصيات العلمانية، لعل ذلك يُشعل فتيل حرب أهلية تجعل الشعب التونسي يكفر بالثورة. لكن أعداء الثورة لم ينجحوا حتى الآن، مع الاعتراف أن الوضع في تونس يبقى سيالاً.
وفي اليمن يختلف الوضع، لكن أهداف إجهاض الثورة وإحباطها كانت موجودة في الطريقة التي تم فيها نقل السلطة من علي عبد الله صالح إلى الرئيس الجديد. لا عجب أن بعض الثوار ردد قائلاً: "وكأنك يا بو زيد ما غزيت"، وذلك تدليلاً على أن التغيير المنشـود لم يحصل كما هو مطلوب، وأن ما حصل هو مجرد جائزة ترضيـة للثوار..!! لكن أيضاً في اليمن، اللعبة لم تنتهِ. والأيام قد تكون حُبلى بالمفاجآت.
ليـس غريباً أبداً أن يتكالب القاصي والداني على الثورات العربيـة؛ فمنطقتنا مبتليـة بثنائي لا يمكن أن يقبلا بأن تُمسـك الشـعوب بزمام أمورها؛ (فإسـرائيل) تُفضل وجود ديكتاتوريات عربيـة تحميها من غضب الشـعوب. وأمريكا تجد أن النفط أغلى بكثير من أن يُترك لشـعوب المنطقـة كي تتصرف به كما تشـاء بعيداً عن الأيادي الأمريكيـة..!! لهذا فالمطلوب من الشـعوب الآن: إما أن تقبل بالموجود، أو أن القوى الكبرى وأذيالها وعملاءها في الداخل مسـتعدون أن يُحولوا حياة البلدان التي ثارت على الطغيان إلى جحيم! طبعاً يجب ألا نسـتهين أبداً بحجم المؤامرات على الربيع العربي من أعدائـه في الداخل والخارج. لكن من المسـتحيل أن تعود المنطقـة إلى ما كانت عليه قبل الثورات بعد أن كسـرت جدران الخوف وعرفت أعداءها الحقيقيين داخلياً وخارجياً..!!
واقرأ أيضاً:
إنهاك سوريا ثم إنهاؤها!