كانت أمواج البحر تهدر على الشاطئ في عنف وتضرب الرمال والصخور بشدة، وكأن هناك عداوة بينهم، وكانت الرياح تدوي بصوتها المخيف فتجفل ألسنة اللهب الصغيرة الموقدة في الكوخ الصغير وتهتز، فهناك عدة ثقوب بالكوخ البالي، بينما رجل عجوز ضعيف البنيان يجلس إلى جوارها مادا يديه إليها لكي يدفئ نفسه وبينما هو ينظر إلى النار خيل إليه أنه يسمع صوت غناء بدا ضعيفا ثم بدأ يكبر، ورجعت ذاكرته إلى الوراء بسرعة، تذكر عمله عندما كان شابا قويا، وكيف كان في جو أقسى من هذا وكيف كان يقهر الموج ويقود الرياح، كيف كان يتغلب على البحر؛
وكان يغني دائما بصوت رخيم، ويعود محملا بالرزق الذي وهبه الله إياه كان الكوخ وقت ذلك قويا صلبا وكأنه قلعة صغيرة على شاطئ البحر وكان الرجل وقت ذلك لا يقهره مرض أو كلل ومرت السنون وبدأ جسمه يدب فيه الهزال وكذا الكوخ كلاهما أصبحا عجوزين لا يقدران على النهوض، تذكر كل هذا وتمتم، كل شيء له نهاية، لقد كان يحلم أن يركب قاربه ويلف به العالم، وقفزت تلك الفكرة إلى رأسه، لماذا لا يعيد أمجاد زمانه؟ فنهض متثاقلا وأخذ يتساند على جدران الكوخ المتهالك ولبس العمامة البيضاء وجاهد ليخرج من الكوخ ونظر إلى قاربه العجوز كأنه يسأله هل تقدر يا صاحبي؟
وأخذ يحاول سحب القارب إلى الماء، وما أن وصل إلى الماء حتى صعد إليه وأخذ يجدف بما تبقى له من قوة ودفع الموج القارب وحاول العجوز أن يوجه القارب كما كان يفعل في الماضي فلم يستطع كيف لم يستطع؟ أن يفعل وفي محاولة بائسة حاول دفع القارب تجاه الشاطئ لكن يبدو أن البحر أبى أن يتركه يفعل ذلك وكأنما حاتت الفرصة ليقهر ذلك الملاح الذي طالما قهره من قبل وفي لحظة دفعته أمواج البحر فانقلب القارب ووقع الملاح في البحر وفي محاولة يائسة للتعلق بالحياة أخذ يحاول السباحة لكن البحر جذبه إلى قاعه وأبى أن يخرجه؛
وهطلت الأمطار غزيرة بللت الكوخ وأطفأت النار التي كانت مشتعلة ومن ينظر إلى الكوخ من الداخل يجد قطرات المياه تبلل سطوحه وكأنها دموع الصديق على صديق عمره الذي قهره البحر وبعد أن هدأ البحر لم يبق من الكوخ غير أخشاب متناثرة ولم يبق من الملاح إلا تلك العمامة البيضاء كانت طافية على سطح الماء وكأنها شارة إستسلام وكأن البحر كان هائجا يريد الانتقام من الملاح الذي طالما قهره وهدأ بعد أن ناله وعندما تسبح القوارب عند خروج الصيادين في الصباح الباكر يسمع غناء رخيما يبدأ عندما تبدأ الرياح في الهبوب وكأنها تذكرهم بالملاح ويخبو عندما تهدأ الرياح لتظل ذكرى الملاح في عقول الصيادين ومحفورة على الصخور.
تمت بحمد الله**
** كتبت هذه القصة سنة 1983 وفازت بالمركز الأول في المسابقة الأدبية لاتحاد طلاب كلية الزراعة جامعة الزقازيق سنة 1984.
واقرأ أيضاً:
كنت هناك / النفس...والطب!! / لُعْـبَةُ الزَّوجينِ ! / عسى..يا عَسى! / تعالي..تعالي! / تقوى ! / كوفاد / من قصيدة لبغداد