كثير من المحللين يصفون سلوك الإخوان (وخاصة القيادات) في الشهور الأخيرة بأنه يحمل الكثير من الإنكار لجوانب المشهد وموازين القوى على الأرض, وأنهم لا يستطيعون مواكبة الأحداث بقرارات وخطوات سياسية موضوعية في التوقيت المناسب, ويتمسكون بمواقف ومبادئ مطلقة يتشبثون بها ويتثبتون عندها رغم تغير الأحداث وتقلب الأحوال, وأنهم يحاولون استدعاء المحنة والمظلومية للتغطية على ما وقعوا فيه من أخطاء وليحافظوا على تماسك التنظيم أمام هجمة سلطوية وشعبية غير مسبوقة, وهذا صحيح إلى حد كبير وقد أدى إلى خسائر متتالية على المستوى السياسي والإنساني للإخوان, وأدى ويؤدي إلى ضياع الكثير من الفرص لوقف نزيف الخسائر للإخوان وللوطن.
ولكن الحقيقة أن الإنكار لم يصب الإخوان وحدهم بل أصاب مناوئيهم ورافضيهم وكارهيهم من التيارات الليبرالية والعلمانية واليسارية بنفس القدر وربما أكثر, حيث اعتقد هؤلاء وروجوا لفكرة أن الإخوان عددهم قليل لا يتجاوز 500-750 ألف أي على أقصى تقدير ثلاثة أرباع مليون شخص, وأنهم مجموعة من الخارجين على القانون وخارجين على الصف الوطني وفاقدين للانتماء, وأنهم جميعا إرهابيين ولا يصلح معهم حوار أو وفاق, وأن مكانهم جميعا السجن, وأنهم مجموعة من مثيري الشغب وجالبي النكد للمصريين لا يصلح معهم إلا العصا الأمنية أو القمع العسكري, وأنهم قد انتهوا إلى غير رجعة بعد عزل رئيسهم وحل جمعيتهم وتجريم جماعتهم وتجميد حزبهم. ولسان حال هؤلاء تجاه الإخوان هو أنهم كانوا أشبع بال "عو" و"أبو رجل مسلوخة" الذي يخيفون به الأطفال, وأن عمو "فلان" ضرب ال"عو .. أبو رجل مسلوخة" وبقى "بح .. خلاص".
للأسف الشديد هذه الرؤية الطفولية الساذجة المختزلة يعتقد فيها ويروج لها ويتنادى بها عدد كبير من النخبة الثقافية والإعلامية ويلحون عليها ليل نهار حتى صدقوها وجعلوا الناس يصدقونها, ثم تأتي الصدمة على أرض الواقع حين يفاجأ الجميع بوجود مسيرات إخوانية وفعاليات إخوانية ومواجهات إخوانية وصمود إخواني رغم القبض على القيادات والكوادر ورغم إلغاء ترخيص الجمعية ورغم تجميد الحزب.
وهنا يظهر المفكرون والكتاب المعادون للإخوان ليؤكدوا أنها "حلاوة الروح", وأن القدرة على الحشد لدى الإخوان تضعف كثيرا مع الوقت, وأن ما يحدث هو محاولة لإثبات الوجود, أو محاولة من الإخوان لإيجاد ظروف تفاوضية أفضل أو الضغط على أعصاب النظام واستغلال نقاط ضعفه وإحراجه أمام العالم الخارجي للحصول على مكاسب سياسية أو حماية التنظيم من الإجهاز عليه, وقد يكون الكثير من ذلك صحيحا؛
ولكن تبقى حقيقة هامة وهي تورط الكثيرين من النخبة في حالة إنكار شديدة تجاه حقيقة تنظيم الإخوان, وهذا الإنكار قد يريحهم ويريح قارئهم وأنصارهم لبعض الوقت, فالإنكار وسيلة دفاعية غير واعية نلجأ لها بلا وعي لكي نرى العالم ونرى الأحداث كما نريد أن نراه أو نراها, ولكي نريح أنفسنا من حقيقة ربما لا نحتملها فنحذف من المشهد ما يؤرق وعينا ونعتبره غير موجود, ولكن تبقى الحقائق على الأرض كما هي تتطلب شجاعة الموضوعية والواقعية لرؤيتها والتعامل معها.
الحقيقة الأولى تختص بحجمهم, فقد تختلف مع الإخوان ما شئت, وقد تخلع عليهم من الأوصاف ما تريد, ولكن يبقى من الضروري معرفة طبيعة تكوينهم وحجمهم ومدى تأثيرهم بلا تهوين أو تهويل, فقد وقع الكثيرون في خطأ التقدير العددي فصدقوا أنهم نصف إلى ثلاثة أرباع المليون, وهذه نسبة عددية بسيطة إذا قيست بتعداد المصريين الذي يقترب من التسعين مليون.
وقد روج بعض قادة الإخوان لهذا الرقم العددي في بعض اللقاءات التليفزيونية, ولا ندري ماذا كان هدفهم من ذلك في هذا التوقيت, ولكن المعلومات الأقرب للواقع هي وجود ما يقرب من 4 مليون أسرة إخوانية والأسرة تتكون من 3- 4 أشخاص, وهذا يعني أننا أمام 12 – 16 مليون شخص بعضهم يقيم في مصر وبعضهم خارج مصر, وبالتأكيد تملك الأجهزة الأمنية معلومات أكثر دقة حول التقدير العددي للإخوان.
ومن المعروف أن هناك درجات في عضوية الإخوان منها المتعاطف والمحب والمنتسب والعامل والكادر والقيادة, وهذه الدرجات هي التي تثير بلبلة في العدد, وتجعل كل رقم يقال وكأنه صحيح لأنه سوف يمثل درجة من درجات العضوية, ولكن في النهاية نلاحظ أنه لا تكاد تخلو عائلة من فرد أو أكثر من الإخوان.
والمسألة ليست عددا فقط ولكن تنظيم وتماسك والتفاف حول قيادة ومعتقد (بصرف النظر عن صحته أو خطئه), وربما هذا ما جعل شخصا مثل عمر سليمان (مدير المخابرات في عهد مبارك) يجلس مع الإخوان إبان أحداث ثورة 25 يناير ويتفاوض معهم حول ترتيب الأوضاع بصفتهم القوة المنظمة المتماسكة والمؤثرة رغم كراهيته لهم ورفضه لوجودهم سنوات طويلة, فقد كان يتعامل بناءا على معلومات وليس بناءا على انطباعات أو مشاعر, وهو لم يجد فيي ذلك الوقت قوى مدنية متماسكة أو مؤثرة يرتكن إليها, بل وجد الثوار الذين بهروا العالم بتحريك وإشعال الثورة غير متفقين على قيادة أو رؤية للمستقبل (وهذا الحال مازال مستمرا حتى الآن), وهذا أيضا ما جعل المجلس العسكري يواصل التعامل معهم ويسلمهم السلطة بعد الانتخابات (أيا كان الاعتراض عليها).
الحقيقة الثانية التي يجري إنكارها هي أن تنظيم الإخوان به كل الطبقات من الناس من أدناها إلى أعلاها, فمنهم العامل والفلاح والصانع والطبيب والمحامي والمهندس ومنهم أساتذة جامعات وكتاب ومفكرون, وهذا يتناقض مع ما يروج له بعض النخبة وهو أن الإخوان كلهم إرهابيون وقتلة وقطاع طرق, بينما الحقيقة الموضوعية تقول بأنهم ليسوا شياطين وليسوا ملائكة بل فيهم ما في باقي المصريين من مزايا وعيوب قد يزيد عليها أفكار ومعتقدات والتزامات التنظيم الحركي وما فرضه من عزلة فكرية وشعورية ومن استعلاء ونرجسية, وما ترتب عليه من سلوكيات استدعاء للمحنة والاضطهاد وأحيانا الرفض والتوجس.
الحقيقة الثالثة التي تتعرض للإنكار هي أن التنظيمات الفكرية والعقائدية خاصة الدينية منها لا تنتهي بقرار حل الجمعية ولا تنتهي بالتجريم القانوني أو المطاردات والملاحقات الأمنية مهما كانت ضراوتها, والتاريخ خير شاهد على ذلك, فقد استمرت جماعة الإخوان لمدة 85 عاما رغم حظرها وتجريمها وملاحقة قياداتها وأعضائها, إذن فالقرارات الإدارية والحلول الأمنية لا يمكن أن تنهي تنظيما عقائديا دينيا استقر في وجدان ملايين من أعضائه.
الحقيقة الرابعة هي أن الوجود السياسي للإخوان قد انتهى إلى غير رجعة, وأنه لا مستقبل لهم على الساحة السياسية إلا بعد عشرات السنين نظرا لما صدر منهم من أخطاء إبان فترة حكمهم التي لم تزد عن عام واحد رفضهم المجتمع بعدها وخرجت الملايين في 30 يونيو لتسقطهم وتسقط فكرة السلطة الدينية وفكرة استغلال الدين في السياسة, وهذا فيه شيء من الصحة ولكنه لا يعني غياب الإخوان عن الساحة السياسية, فالحقيقة الموضوعية تقول بأنهم ما زالوا – رغم كل الأخطاء والخسائر والضربات ورغم فشلهم في الاحتفاظ بالسلطة وإدارة البلاد ورغم فقدانهم لقدر هائل من الظهير الشعبي – هم القوة السياسية المنظمة والمتماسكة, ولم تظهر في الشهور الماضية قوة سياسية مدنية حزبية أو غير حزبية تملأ الفراغ السياسي الذي حدث بعد إبعاد الإخوان عن صدارة المشهد.
هذه الحقائق قد تكون صادمة أو مؤلمة للبعض خاصة الرافضين والكارهين للإخوان, ولكنها تحتاج لشجاعة الموضوعية والواقعية للتعامل معها حتى لا يقع الطرف المناوئ للإخوان في نفس أخطائهم وبالتالي نرى صراعا مستمرا بين أشباح لا ترى بعضها البعض أو لا تريد أن ترى.
واقرأ أيضاً:
التعليق: مازال الدكتور المهدي يحاول استغلال وضعه الأكاديمي لإضفاء صفة " العلمية" على تحيزاته السياسية الواضحة، والتعبير عن آرائه الشخصية (أو الآراء التي تملى عليه من سادته الانقلابيين) باعتبارها "حقائق" و"مسلمات"، ويرسل رسائله الضمنية باستخدام متعمد ولنقل خبيث لمصطلحات علمية لمحاولة إيهام القارئ غير المتخصص أنه "علم"،
بينما نسي الدكتور أو تناسى متعمداً كل أساسيات المنهج العلمي في البحث والاستنتاج والوصول إلى النتائج التي حتى عند الوصول إليها لا ترقى لدرجة "الحقائق" إلا بشروط واضحة، أما العبث بمصطلحات مثل النرجسية، ومشاعر الاضطهاد، والرفض والتوجس، وغيرها من مصطلحات يستخدمها الدكتور للإيحاء بأنه يتناول الأمر بشكل علمي، ويدس السم في العسل مثل ما يوحي بأنه مسلمات غير قابلة للنقاش مثل اعتبار 30/يونيو ثورة شعبية، وما أسماه بالحقائق عن الإخوان التي يوحي الكاتب أنه يناقش إنكار الطرف الآخر لها، وتعبيرات مثل " استغلال الدين في السياسة" وهو ما يفضح محاولاته اللاأخلاقية لإضفاء صفة الحقائق العلمية على تحيزاته السياسية مستغلاً الفوضى الثقافية التي لا تفرق بين ما هو علمي وماهو "سبوبة" ،