الحياة عربة!!
هكذا يحدث نفسه كل صباح، وهو يدفع عربته المحملة بالخضار، ليقف مزهوا بها في شوارع المدينة، فيبيع ما يستطيعه من حمولتها ويعود إلى بيته الحزين، وفي جيبه بعض النقود التي يمكنه أن يسد بها رمق عائلة تعتمد عليه وعلى رب العباد، في مسيرته المثقلة بالهموم والأزمات.
- يا ولدي، أن الدراسة والثقافة نهايتها عربة على قارعة طريق الويلات؟
- يا أمي إن الحياة عربة لابد لنا أن ندفعها، ونحدد مسارها، ونمنحها قوتنا وما فينا من الطاقات
- يا ولدي إلى متى ستبقى تدفع العربة؟
- يا أمي، في كل يوم أقطع شوطا في دروب البقاء، وستتراكم الأشواط ذات يوم، وستؤدي إلى فسحة عيش زاهية بالأحلام.
- يا ولدي، أعانك الرب الكريم على جهادك المرير!
واستدارت والدته نحو المطبخ تبحث عن طعام، ولما لم تجد شيئا، ذهبت إلى العربة، وأحضرت منها ما اختارته من بضاعة كاسدة، وأخذت تعد طبقا تحلم أن يكون شهيا.
وفي ذات الوقت كان الولد، في إطراقٍ وإسهام، وتمعن في مفردات الأيام، وآليات التواصل والانطلاق إلى مدينة الأمل.
قال لنفسه: أربعة سنوات من الدراسة الجامعية، والكفاح، وها أنا عاطل، أعمل كبائع متجول، منحسر بزاوية شارع، أو متجمدٍ على رصيف يحتشد بالناس، ولا أحد منهم يرنو إلى عربتي، أو يتقدم نحوي، ليساعدني، ويأسو بعض ألمي.
ما قيمة أن أدرس وأن أتعلم؟
الوطن وطني، والألم ألمي!
ما هو المستقبل؟
ومضى في رحلة الغوص الذاتي والتصور الموضوعي، لكنه لم يجد أمامه إلا خيار العربة، نعم العربة، التي أصبحت جزءً مهما من هويته وذاته وشخصيته، وسلوكه.
فما عاد يعرف معنى الصباح بدون عربة، ومن غير تواجده وسط الزحام.
وذات صباح مشرق، مكتظ بالناس، تمكن أن يبيع، ويبيع، وفي ذروة كسبه، تحاوطته الشرطة، وألقت بعربته وما فيها على الأرض، وطاردته كأنه المجرم المذنب المدان!
ولا يعرف كيف تخلى عن عربته، وكيف تحمل منظر إسقاطها وتبعثر ما فيها على الرصيف، وكيف راحت أقدام المارة تدوس بضاعته وتركلها.
لا يمكنه أن يتصور ذلك المنظر الأليم، فكأنهم قد خلعوا فؤاده، ودحرجوا ذاته، واعتقلوا مصيره في سيارة الشرطة التي تطارد الباعة المتجولين.
إنهار الولد وتمزق كيانه، وجرجر خطواته الثقيلة وعاد إلى أمه، التي ذرفت دموع الفقدان على عربة المعيشة والأمل بالبقاء.
وأمضى وقته مذهولا متجمدا لا يعرف شرابا أو طعاما، ولا تدري أمه ما تفعل، سوى البكاء.
واعتصره الليل بسهاده الأليم.
وما أن جاء الصباح حتى ذهب إلى بلدية المدينة يطالب بعودة روحه، واسترجاع عربته، لكنهم أهانوه وأذلوه، وأفقدوه الرجاء بعودة الروح وديمومة الحياة.
فكانت لحظة ثورة ذاتية، وانفجار بركان وجود مطلق، تدفقت منه ألسنة لهب الاحتجاج والثورة على الظلم والامتهان.
فكان جسده الشعلة الأزلية التي أذكت النيران في العقول والنفوس!
فتحول إلى تمثال في الميدان، وعربته تحفة إنسانية في متاحف الأبد والسرمد المتوهج بأفكار الإمعان!
واقرأ أيضاً:
الديمقراطية في العمل!! / العروبة الموجوعة بنا يا عرب!! / السراب الديمقراطي!!