ما زالت أحداث الربيع العربي تشق صحيفة الزمان، بتبعات وآثار لم تؤخذ يوماً في الخاطر أو في الحُسبان؛ فبعد أن تسللت الثورات من رحم البطش والقهر والأحزان، دكت حصوناً، وزلزلت قصوراً، لأباطرة طالما انتهكوا كرامة الإنسان. وإن توقفت عجلة الأحداث عند هذه النهايات، لكان هذا الربيع قد نسج أجمل ثوب في تاريخ البلاد، ولكان قد عزف أعذب سيمفونية إرادة لأمة استفاقت بعد سنين من الوهن والسُبات. غير أن هذا الربيع أثبت أنه ما زال يحمل في جُعبته الكثير من الخبايا والأسرار، وألغاز عجزت سواعد من أشعلوا نار الثورات عن فك رموز منطقة نأت بنفسها عن أي سبيل من سُبُل الاستقرار.
خط ربيع ثورات العرب فصلاً جديداً من فصول كتاب تاريخ هذه الأمة، قد تصح تسميته باسم "أحوال العرب بين مضاجع الديمقراطية واستقرار الديكتاتورية". لقد اسـتطاعت الثورات أن تُطيح بعدد من الأباطرة والديكتاتوريات، التي مكثت لعقود في قصورها، بعيدة عن أوجاع من كانوا في الشـوارع والأزقـة والحارات، إلا أن هذه الثورات أفرزت نوعاً جديداً من الديكتاتوريات هي، ديكتاتوريات الشـوارع والحارات! هم أولئك الثوار، الذين رأوا أن الشـارع قد غيرّ ما بدا سـابقاً أنـه ضرب من ضروب المسـتحيل؛ فاقتلاع رئيـس مكث في قصره المنيف، وبحمايـة مرتزقتـه، وبدعم الغرب المسـتفيد من وجود أمثالهم في سُـدة الحكم، كان أمراً أشـبـه بالخيال.
نجحت الثورات، وبعد أن مكث أباطرة القصور في حصونهم لسنوات، بدا وكأن الثوار يستبدلون الأدوار، فتحصن ديكتاتوريو الشوارع في أزقتهم، بعد أن خال لهم أن القوة التي أخرجها الشارع لا تُضاهيها قوة، وكأنها السبيل الأمثل لتحقيق الغايات. فعجت شوارع ليبيا بالميليشات المسلحة، ولم يُفارق الكثير من الشباب الثائر أماكنهم في مصر واليمن، وفي تونس أصبحت التظاهرات أمراً مألوفاً، أما في سوريا، فما زال الجرح الغائر ينزف، بلا مؤشر عن موعدٍ لقرب اندماله.
وما كانت هذه الممارسـات إلا للجهل بالمعنى الحقيقي لممارسـة الديمقراطيـة، ولحريـة الرأي، وللشـراكـة وقبول الطرف الآخر، وهي نتيجـة حتميـة من الجثوم لعقود طويلـة تحت براثن نُظم ديكتاتوريـة، خلفت تشـوهات حقيقيـة في هذه المفاهيم، خاصـة في فهم المعنى الحقيقي لسـيادة القانون، وانعكسـت بشـكل واضح في ممارسـة الفرقاء السـياسـيين في مختلف هذه البلاد بعد الثورات، فاسـتبدلت ثقافـة الاسـتقرار والتسـامح والشـراكـة بالفوضى والتعصب والإقصاء.
أثّرت هذه التطورات، خاصة ما يحدث في سوريا، في فكر المواطن العربي، فانتقل مستوى التفكير لمنحى آخر، يختلف جذرياً عما بدا عليه مع بداية الثورات العربية. وتجسدت هذه النقلة في تشكك الكثير بدوافع الثورات وأسبابها، ومدى جدواها، وبدأت تظهر تساؤلات عما إذا كانت الديمقراطية سبيلاً فاعلاً، وطريقاً لجلب الاستقرار والحكم الصالح، خاصة إذا ما تمت مقارنتها بأوضاع البلاد إبان حكم الديكتاتوريات، التي وفرت شكلاً من أشكال الأمن والأمان، ونوعاً من أنواع الهدوء والاستقرار.
فنبض الشارع بحديث يُغاير ما في مكنون النفوس، وبدأ الفؤاد يتحدث بأقوال تُخالف ما في خلجات القلوب، تتمنى عودة من خلعهم الناس لبطشهم وقهرهم وممارساتهم واستغلالهم لمقدرات الأمة، سأماً من أحوال الضياع والفوضى الجديدة، وتذرعا بأوضاع تُبعد عنهم حالة الكرب المريرة!
إلا أن هذه القراءة لمجريات الأمور يُجانبها الصواب، خاصة أن ما وفرته تلك النُظم السابقة ما هو إلا استقرار وأمن سطحي، يحفظ حكمهم ويُبقيهم في سُدة الحكم لأطول أمد ممكن. فالقبول مجدداً بنُظم على شـاكلـة التي بادت، أمر لا يسـتوعبـه عقل، فمن ذا الذي يقبل بدولـة بوليسـيـة، تسـمح بكل شـيء إلا كرامـة الإنسـان، تزرع الجهل، تسـتغل الثروات، وتغرس ثقافـة مشـوهـة عمادها المحسـوبيـة والوسـاطـة والفسـاد، تُمارس سـياسـتها وتحظر على الآخر أي ممارسـة، تقول ما تريد وتمنع الآخر أن يقول!؟
إذاً، فالمقاربة بين مخاض الديمقـــــراطية مع استقرار الديكتاتورية هو أمر مغلوط، لا يفيد إلا في زيادة حالة التخبط، ووأدِ أي إرادة حقيقية لبناء لبنات الأمة من جديد، كرَّسته ممارسات ديكتاتوريات الشوارع، التي جاءت بدورها نتيجة منطقية لما خلفته النُظم الزائلة من أوضاع الجهل والكبت والإحباط وإقصاء الطرف الآخر.
صحيح أن حالة الفوضى والتخبط هي أعراض طبيعية في رحلة الانتقال من حقبة لأخرى، ومعالم متوقعة على درب بناء التجربة الديمقراطية الخاصة بأي شعب، وهي أحداث شهدتها أعظم النُظم الديمقراطية في العالم، إلا أن إطالة عمر هذه المرحلة الإنتقالية لا يُساهم سوى في تعميق حالة الاستقطاب والتجذر والفتور حيال أي تقدم نحو بناء المجتمعات الجديدة.
إن ما تقوم به ديكتاتوريات الشوارع من أطالة عمر الفوضى والاضطرابات لا يصــــب إلاّ فــــي مصلحة النُظم الزائلة؛ فمع كل ضحية تسقط، ترتفع أسهم النظـــــم الزائــــلة، فتُظـــهر ‘بقايا تلك النُظم’ أن البديل عن حكمهم هو الخراب والدمار والقتل والتشرد. وأشارت بالفعل بعض الدلائل إلى أن بعض النُظم القمعية القائمة في المنطقة تقوم بتغذية مثل هذا الحراك، كي تُظهر لمواطنيها أن البديل عن حكمهم ‘إن فكروا يوماً أن يثوروا’ هو الفوضى والفلتان.
في الختام، يمكن القول أن عقوداً من الأحكام الديكتاتوريـة تركت المجتمعات العربيـة بعيدة عن النشـأة والثقافـة والتعليم السـليم، فحمل جيل "الربيع العربي" ثقافـة جديدة هي ثقافـة التظاهر واللجوء للشـارع عوضاً عن صندوق الاقتراع، وممارسـات مغلوطـة تُرسـخ مفهـــــوم الإقصاء وعدم قبول الطرف الآخر. وعليـه، فإن أرادت النُخب العربيـة الــجــديدة الارتقاء بهذه الأمـة، وانتشـالها من أوضاع مرشـحـة بقوة لأن تزداد سـوءاً، وجب أن يكون تحسـين ظروف التعليم والتربيـة وتطوير الأوضاع الاجتماعيـة أولى أولياتهم، بعد أن يضعوا حب الوطن والانتماء اليـه نُصب أعينهم وقبل أي انتماء...
واقرأ أيضاً:
فلسطين بين عبرات شعب وعثرات قضية! / إسرائيل ما بين حديث السلام الوهمي وخطر الوجود الافتراضي