خطئ من يظن أن الفيلم الوثائقي "من تنغير إلى القدس" يُمثل رأي المغاربة، أو أنه يُعبر عنهم، ويعكس وجهة نظرهم، ويتحدث بلسان حال أهل المغرب جميعاً، فمن تسرب إليه هذا الشك فهو ظالمٌ للمغاربةِ، جاهلٌ بهم، وغير عارفٍ بحقيقتهم، وهو جاحدٌ بفضلهم، ومنكرٌ لتضحياتهم، أعمى لا يرى وقفاتهم، ولا يُدرك عمق تظاهراتهم، ولا ديمومة دعمهم، وصدق إسنادهم.
إذ أن العكس هو الصحيح، ونقيض ما يتعمد الإعلام ترويجه هو الحق، فالشعب المغربي يُنكر هذا الفيلم الذي تسلل إلى ثقافته، وأُدخل عنوةً إلى عقول شبابه، وذاكرة شيوخه، وذكريات نسائه، وهو يراه مزوراً للحقائق، ومُدعياً على التاريخ، ومعتدياً على الوقائع ومجريات الأحداث، وهو فيلمٌ يحاول إثبات النفي، وإبطال الحق، وإحقاق الباطل، في محاولةٍ دراماتيكيةٍ مكشوفة، كاذبةٍ ومضللة، تسعى لياً للحقائق، وحرفاً للثوابت، على إثارة العواطف، وتحريك المشاعر في غير محلها، ومع غير أهلها.
فقد لبيتُ دعوة بعض الأخوة المغاربة لمشاهدة عرض الفيلم في إحدى المؤسسات التعليمية بالرباط، وشاركتُ إلى جانب مخرج الفيلم في النقاش الذي تلا العرض، وأسهمتُ بكلمةٍ فلسطينيةٍ، تعرف اليهود وتعيش معهم، وتعرف واقع اليهود المغاربة وحقيقة أوضاعهم في فلسطين المحتلة، ولها القدرة على كشف الزيف وبيان المزور، وفضح المستور وكشف المخفي المجهول، وقد أصغى الحضور للكلمة لأنها فلسطينية، ومن فلسطين، وبلسان أهلها، وهم لفلسطين وأهلها محبون، ولشعبها عاشقون، ولقدسها يتطلعون، ولمقاومتها يدعمون ويُساندون.
لقي هذا الفيلم رواجاً كبيراً، وحظي باهتمامٍ لافتٍ، وعُرض في أكثر من دارٍ للسينما، في دول أوروبا والمغرب والكيان الصهيوني، وبثته محطاتُ تلفزةٍ عالمية كثيرة، وقد بدا حجم الاهتمام الدولي به كبيراً، إذ وفرت لمخرجه الفرصة للسفر إلى فلسطين، والتنقل بين مدنها، ولقاء اليهود المغاربة من المهاجرين وأجيالهم، وقد وضعت بتصرفه ميزانية كبيرة، أتاحت له الفرصة لأن يقوم بإخراج الفيلم بدقائقه التي تتجاوز المائة دقيقة في نسخته الأصلية، ثم قامت بعرضه في محطاتها العالمية الأكثر انتشاراً وذيوعاً، والأكثر مشاهدةً ومتابعة.
ما كان لهذا الفيلم أن يحظى بهذا الدعم والإسناد، لولا أنه يخدم الحركة الصهيونية، ويتوافق مع دعواها بالمظلومية، و"حقها في العودة"؛ حيث يؤكد المخرج في أكثر من لقطة حوارٍ منافية للعقل، على "حق اليهود في العودة إلى وطنهم الأم"، معتبراً أن فلسطين هي "وطنهم"، وهي أرض ممالكهم القديمة، وملتقى أجيالهم المتلاحقة، دون أن يأتي على ذكر أصحاب الحق، المطرودين من الأرض، والمحرومين من الوطن، وهم سكانها الفلسطينيون الأصليون، بل غمط حقهم، وغفل عن وطنهم، وتجاوزه إلى "حقٍ" ادعاه للمهاجرين في أرضٍ كانت يوماً مملكةً لهم، وكأنهم لم يطردوا شعباً، ولم يحتلوا أرضاً، ولم يهدموا مسكناً..!!
فهل كان من الممكن أن يلقَ الفيلم هذا الحجم من الاهتمام والتقدير، لو أنـه تحدث عن الحق الفلسـطيني، وعن المظلوميـة العربيـة، وأتى على الاعتداءات الإسـرائيليـة المتلاحقـة على الفلسـطينيين؛ إنسـاناً وحجراً وأرضاً ومقدسـاتٍ وتاريخاً وحضارةً خاصـةً وأن المظالم لا تتجزأ، والحق لا يتعدد، والظلم لا يُصنف، والضمير الإنسـاني واحدٌ لا يتبدل ولا يتلون!؟ ولا نعتقد أن هناك في العصر الحديث معاناةً تفوق ما يلقاه الفلسـطينيون، فمن اسـتنطقـه الظلم الذي يراه قد وقع على يهود المغرب، فإن من الأولى بـه أن يسـتنطقـه ويسـتنهضـه ظلم الإسـرائيليين جميعاً، شـرقيين وغربيين، للفلسـطينيين واعتداءاتهم المتكررة عليهم..!!
يؤكد الفيلم، مخرجه ورُعاته والمشرفون عليه، على "حق اليهود المغاربة في أرضهم وممتلكاتهم في المغرب"، وكذا في البلاد العربية كلها، و"حقهم" في الاستمتاع بذكرياتهم، وبقايا أيامهم، وأفراحهم المنثورة، وأحزانهم المدفونة في المغرب أرضاً وتاريخاً، وقد تركوا خلفهم أموالاً وممتلكاتٍ، وبيوتاً وعقاراتٍ، وكأن منفذ الفيلم يعتقد أن أحداً لن يُنصفهم في بلادهم، ولن يعدل بينهم وهم معنا، وأن العرب سيأكلون حقهم، وسيُصادرون ممتلكاتهم، وسيأخذون منهم أرضهم، وسيستولون على مدخراتهم ومصوغاتهم وأموالهم، ونسـي في الوقت نفسـه حق ملايين الفلسـطينيين في العودة إلى ديارهم، واسـتعادة أرضهم، وتطهير مقدسـاتهم، والعيـش بحريـةٍ وكرامـةٍ في وطنهم، وهم أولى بهذا الحق، وأوثق عُرىً بـه، وأصدق اتصالاً وامتلاكاً لـه.
لم تنطلِ هذه الخدعة على الشعب المغربي، ولم يُصدق ما روّجه الفيلم، ولا ما أراده بعد ذلك المخرج خلال نقاشه لما قدم وأخرج، فالمغاربة الذين فتحوا بلادهم لمواطنيهم اليهود بالعودة إلى وطنهم، والذين لا يُنكرون سني التعايش الطويل بينهم وبين اليهود، والتي امتدت لأكثر من ألفي عام، فإنهم لا يقبلون أن يسكتوا على ظلم اليهود لأشقائهم الفلسطينيين، ولا يرضون أن يُسلطَ الضوء على معاناة اليهود، وهم الغاصبين المحتلين، وأن يظهر ودهم وحنينهم وشوقهم إلى الأرض التي عاشوا فيها، والديار التي كانت لهم فيها ذكريات وحكايات، بينما يُحرم الفلسطيني من حقه في أن يحلم بالعودة إلى أرضه وأرض أجداده، حيث ذكرياته وماضيه، وتاريخه وأصوله.
الأصالة المغربية لا تطمسها مساعي مأفونة، ولا أفلام خبيثة، ولا مشاعر وعواطف مسمومة، ولا تُخفي حقيقتها جهودٌ منسقة، ومحاولاتٌ منظمة، لطمس الحقائق، وإبداء نقائضها، ولا يُعبر عن المغاربة سوى أهلهم، المحبين لوطنهم، المخلصين لأمتهم، والمؤمنين بحقهم الثابت والخالد في القدس التي لهم فيها بابٌ وحارة، ومسجدٌ قد باركه الله في كتابه وما حوله.
واقرأ أيضاً:
أنفاق غزة وخندق رسول الله/ خنساء فلسطين في رحاب الله/ فلسطين بين بلفور وأوباما/ الحياد الفلسطيني والقرار المستقل/ إيلات تتخوف وتل أبيب تتوجع/ الربيع الإسرائيلي والخريف العربي/ الأزمات العربية والوساطات الغربية