"تعلم الشك في المشكوك فيه تعلماً، فلو لم يكن ذلك إلا تعٌرف التوقف ثم التثبت، لقد كان ذلك مما يحتاج إليه. والعوام أقل شكوكاً من الخواص، لأنهم لا يتوقفون في التصديق، ولا يرتابون بأنفسهم، فليس عندهم إلا الإقدام على التصديق المجرد، أو على التكذيب المجرد، وألغوا الحال الثالثة من حال الشك". الجاحظ
النزاعات الوجودية لها موقعها في الصحة النفسية وربما لها موقعها في جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. هناك مدرسة نفسية خاصة بالصراعات أو النزاعات الوجودية في الصحة النفسية ظهرت في أواخر السبعينيات من القرن الماضي حالها حال العديد من المدراس العلاجية النفسية التي صاحبتها في نفس الحقبة الزمنية.
كان ظهور هذه المدارس رد فعل لأفول نجم المدرسة النفسية التحليلية التي طغت على علم النفس والطب النفسي لما يقارب ثمانية عقود من الزمن. لم تخضع المدرسة النفسية التحليلية لقواعد البحث العلمي الدقيق وبدأت الشكوك حول مصداقية النظريات التي استحدثها فرويد وتلاميذه. النظريات النفسية التحليلية اعتمدت على دراسة مكثفة لبعض الأفراد تحت العلاج النفسي ولا سبيل إلى إثبات قصصهم من خلال زيارات للمحلل النفسي بعضها استغرقت سنين عدة. رغم ذلك لا تزال الدفاعات النفسية الشعورية المشتقة من هذه المدرسة شائعة الاستعمال ليس في الطب النفسي وحسب وإنما على مستوى الجمهور عموماً وفي كافة مجالات الحياة.
لا تختلف المدرسة الوجودية1 عن التحليلية من ناحية عدم خضوعها لدراسات دقيقة لإثبات فعالية العلاج الوجودي Existential Therapy ، ولكنها أيضاً طرحت أو بالأحرى تمت صياغة مفاهيم شائعة بصورة علمية ثقافية وشاع استعمالها أيضاً على مستوى الجمهور في كل مكان.
تغير العالم بعد الحرب العالمية الثانية ومنذ نهاية القرن الماضي تعددت وسائل الاتصال بين الأفراد من مختلف الحضارات والأديان والثقافات. أغلق العالم العربي أبوابه في وجه العديد من الأفكار والمفاهيم لفترة طويلة بل وحتى أغلق أبوابه في وجه أفراده يمنعهم من التنقل والاتصال بالحضارات الأخرى. لم تستمر عملية الإغلاق بعد الانفجار التكنولوجي في وسائل الاتصال الإلكترونية وظهر الفيس بوك والتويتر والاتصال الهاتفي المجاني عبر الإنترنت. من جراء ذلك يفسر العديد من المحللين السياسيين وغيرهم بأن الربيع العربي كان ثورة فيس بوك دون الانتباه للظروف الاقتصادية والتمييز الاجتماعي للشعوب العربية التي تأثرت أكثر من غيرها من شعوب العالم بالانفجار السكاني.
لا تنحصر أهمية النزاعات الوجودية على الشباب العربي في العالم العربي وإنما يشمل الأقلية العربية التي رحلت واستوطنت العالم الغربي. يعاني الشاب العربي من الجيل الأول والثاني من صراعات وجودية تتأزم من خلال عملية البحث عن جذوره العرقية والدينية محاولاً حسم الاضطراب الفكري والعقائدي الذي يلاحقه لفترة طويلة.
معنى الوجود
يواجه الإنسان هذا النزاع منذ أن يبدأ بالتعرض إلى مختلف أنواع العلوم والثقافات في البيت والمدرسة والمجتمع. يحاول الإنسان ويفلح أحيانا في وضع هذا النزاع جانباً في مسيرة حياته واضعاً نصب عينيه مواجهة تحديات أخرى متعددة.
لا تزال العقيدة الدينية تحتل مركز الصدارة في حسم هذا الصراع في الشاب العربي المسلم والمسيحي على حد سواء. يمكن تلخيص الفلسفة الدينية بأن وجود الإنسان مرتبط بحكمة لا يستطيع استيعابها وفي حوزة خالق الكون جل جلاله فقط، وسلوكه في هذه الحياة يحدد مصيره في حياة ثانية بعد رحيله من الدنيا. هذه الفلسفة لا تحسم فقط النزاع الوجودي عن معنى الحياة فحسب وإنما تحسم النزاع الوجودي الثاني الذي يواجه الفرد حول نهاية الحياة.
تحرص العائلة على غرس العقيدة الدينية في الطفل منذ عمر مبكر وتراقب التزام الابن والابنة بالتقاليد المشتقة من العقيدة نفسها وممارسة الطقوس Rituals المتفق عليها ضمن المجموعة البشرية التي تنتمي إليها العائلة. ممارسة الطقوس، ومعظمها يومية في الدين الإسلامي، ربما تحتل مركز الصدارة في تعريف هوية الفرد اجتماعياً.
الكثير من الشباب يقبل هذا التفسير لحسم النزاع الوجودي حول معنى حياته في بداية الأمر ولكن الشاب العربي حاله حال أي شاب في العالم ينتمي إلى حضارة أخرى قد يتوجه صوب أحد هذه الطرق بعد فترة:
1- الالتزام والاكتفاء بهذا الحل للنزاع الوجودي. هذا الالتزام قد تكون درجته عالية عند البعض ويتجه نحو الأعلى مع تقدم العمر. قد يصف البعض هذا الالتزام بالتطرف أو الغلو عند وصوله إلى عتبة معينة وعندها يمكن تعليل هذا الاتجاه المتطرف بقلق الإنسان من التعرض إلى ضغوط فكرية وثقافية تهدد ما يمتلكه حاله حال من يمتلك التحف والأموال المكدسة في منزله ويضعها تحت رقابة أمنية صارمة.
قد يفسر رجل الدين هذا التطرف بالورع والتقوى وقد يفسره البعض بأنه علامة على هشاشة تمسك الفرد بالعقيدة الدينية. قد يصف رجل الدين من يطيل لحيته ويلبس لباساً أبيض ويمتنع عن مصافحة النساء بأنه مثال الورع والتقوى ولكن البعض الآخر يفسر ذلك بالرياء وضعف الإيمان ويشكك في مصداقية هذا السلوك الذي لا يرى أي معنى له. هذه الدرجة من الاستقطاب في طرح الآراء أصبحت شائعة ومشحونة بعبارة عدوانية لا فائدة منها.
كذلك الحال مع سلوك بعض النساء أحياناً. انتشر لبس الحجاب في العالم العربي الإسلامي منذ الثمانينيات وأصبح علامة تميز الأنثى المسلمة من غير المسلمة ولا يختلف كثيراً عن تقليد لبس المرأة أيام الدولة العثمانية لتمييز المسلمة عن غير المسلمة. تتجاوز بعض النساء لبس الحجاب إلى النقاب ولا تكشف إلا عن عينيها وتتخذ القرار بذلك في مرحلة من حياتها وتخضع لنفس التفسير أعلاه من خلال قطبين وهما الورع الديني وهشاشة الإيمان. ولكن الأكثرية من النساء المنقبات بل وحتى المحجبات فقط يخضعن لضغوط اجتماعية للالتزام بلبس معين.
2- رفض العقيدة الدينية منذ عمر مبكر والبحث عن عقيدة أخرى لحسم نزاع الوجود. هذا الطريق أكثر شيوعاً في الغرب بسبب طبيعة التعليم. يحرص التعليم الغربي على تهيئة الطفل منذ عمر مبكر على الاستفسار والبحث عن الحقيقة في جميع جوانب الحياة تماماً كما هو الحال مع البحث العلمي الذي يعتمد أساساً على رفض النظرية أولاً ثم إثباتها بصورة علمية وإخضاعها لعملية إحصائية دقيقة.
هذا الرفض للعقيدة الدينية5 لا يعني التخلي عن الطقوس الدينية على المستوى الاجتماعي والفردي والتي تلعب دورها في فعاليات المجموعة البشرية. الغالبية العظمى من السكان في شمال أوربا وجنوبها (ولكن عكس ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية) لا يعرفون أنفسهم دينياً ويرفضون ذلك رفضاً باتاً ولكنهم جميعاً يحتفلون بالأعياد الدينية بطريقتهم الخاصة6.
التعليم في العالم الشرقي لا يختلف في إطاره ومحتواه إلى درجة ما في مجال الاستفسار والتحري عن الحقيقة ولكنه يضع أسواراً حديدية حول العقيدة الدينية. لا يتوقف الأمر عند هذا المنعطف وإنما تحصل التجاوزات في تدخل العقيدة الدينية في تفسير الاكتشافات العلمية من فيزياء وكيمياء بل وحتى العثور على نظريات لعلم النفس في التراث الإسلامي. من هنا يحصل تناقض العقيدة الدينية الإسلامية أحياناً مع أصول البحث العلمي الذي يخضع لتجارب علمية تخضع نتائجها إلى معالجة إحصائية. العقيدة الدينية لا تستوعب هذا المنهج اليوم لا تقبل الخضوع إلى فحص إحصائي نتيجته في أغلب الأحيان لا تتعدى سوى وجود احتمال صحة ظاهرة معينة.
منهج الشك والتجربة ليس غريباً على الفكر الإسلامي الأصيل على عكس ما يتصور الكثير من المسلمين وإنما اختفى بعد سقوط الخلافة العباسية وولادة التطرف الديني. كان النٌظام (ابراهيم بن سيار بن هانئ النظام البصري) أبرز من عمل بمذهب الشك والتجربة2. يقول تلميذه الجاحظ في كتاب الحيوان "تعلم الشك في المشكوك فيه تعلماً، فلو لم يكن ذلك إلا تعٌرف التوقف ثم التثبت، لقد كان ذلك مما يحتاج إليه. والعوام أقل شكوكاً من الخواص، لأنهم لا يتوقفون في التصديق، ولا يرتابون بأنفسهم، فليس عندهم إلا الإقدام على التصديق المجرد، أو على التكذيب المجرد، وألغوا الحال الثالثة من حال الشك".
3- يستعيض البعض بعقائد متعددة ويجعلونها طريقاً للوصول إلى ما هو أسمى لتفسير معنى وجودهم. هناك من يقضي الكثير من الوقت للدفاع عن الأقليات والتطوع لخدمة المستضعفين في البلاد الفقيرة. على سبيل المثال تطوع الكثير من الأطباء للعمل في مراكز علاج الإيدز3 في إفريقيا مقابل أجور رمزية لا تتجاوز عشر راتبه في ظل ظروف بيئية قاسية وهناك من يقضي عطلة الصيف للخدمة في معاهد الأيتام في أوربا الشرقية4 .
البعض يجعل من عمله كمدرس أو طبيب أو عالم أو في أية وظيفة عقيدة يحرص عليها ويخلص فيها. هذا الإخلاص في العمل والاستقامة في تطبيقه طريق آخر للوصول إلى هدف أسمى في مد يد العون لبقية أفراد المجموعة التي ينتمي إليها والمجموعات البشرية الأخرى.
الآثار الجانبية لنزاع معنى الوجود
لا توجد الدراسات على الصعيد السريري والاجتماعي التي يمكن الرجوع إليها للإجابة على هذا السؤال بصورة قطعية. يمكن لأي عامل في قطاع الصحة النفسية الوصول إلى استنتاجات من خلال التجربة المهنية والحديث عن هذا الأمر ولكن هذا الحديث يصعب القبول به.
يتحدث البعض بأن الشاب العربي يسعى إلى إصدار هويته الشخصية وتطوير شخصيته وحسم صراع معنى الوجود. في الوقت الذي يتم فسح المجال للشاب الغربي للاختيار الفردي دون شروط يواجه الشاب العربي في الشرق والذي من أصل عربي إسلامي في الغرب مقاومة شديدة تمنعه من بناء شخصيته خارج الإطار أو الطريق الديني. هذه المقاومة أصبحت أكثر وضوحا وشراسة من جراء المواقع الإلكترونية والإعلام الديني الذي يشعر بالتهديد دوماً من اختيار الطريق الغير ديني.
صاحب ذلك تدخل العقيدة الدينية في كل جانب من جوانب الحياة والتعليم وأصبحت أشبه بجهاز مخابرات وأمن يراقب حديث الناس وملبسهم وزينتهم ولم يبقى إلا وضع آلات تصوير في بيوتهم. من جراء ذلك ترى شيوع الحديث عن مراقبة الملائكة والجن للناس في كل مكان وهذا الحديث تكثر ملاحظته عند الكثير ويكون أكثر وضوحاً في حالات الاضطراب العقلي من اكتئاب وفصام.
لا يمكن الوصول إلى استنتاجات وتوصيات مبنية على دراسة حالات فردية من خلال الممارسة المهنية، ولا يمكن كذلك الاكتفاء بطرح آراء فردية على المستوى الثقافي والعلمي يتم نشرها وتوزيعها عبر المواقع الإلكترونية بل هناك حاجة ماسة إلى عمل دراسات ميدانية مبنية على قواعد علمية سليمة في تأثير النزاعات الوجودية خاصة في مجال معنى الوجود على الصحة النفسية.
ولكن يبقى للشاب العربي المسلم الحق في تطوير نفسه ضمن أي إطار يراه مناسباً دينياً كان أو غير ذلك فهذا يدخل في مجال حقوق الإنسان.
لا يتعارض ذلك مع مبادئ الدين الإسلامي الحنيف الذي دفع الناس إلى العلم والمعرفة منذ البداية ومجلس علم خير من سبعين سنة عبادة. هذا ما وصى به المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
مصادر وملاحظات
1 ديفيد أرفن يالوم (مواليد 1931) هو أستاذ متقاعد في الطب النفسي في جامعة ستنافورد ولديه عدة مؤلفات طبية نفسية وغير طبية. من أصل روسي وهاجر مع والديه في الطفولة إلى أمريكا. نشر كتابه في العلاج الوجودي عام 1980. العلاج الوجودي يكاد يكون مرتبطاً بشخصه فقط.
2 يمكن للقارئ الاطلاع على مؤلفات أحمد أمين عن فجر الإسلام وظهر الإسلام وضحى الإسلام. هذا العمل الكلاسيكي ضرورة لكل من يقرأ العربية لكي يكتشف حال الجمود والشلل الفكري التي أصابت الأمة الإسلامية في عصرنا هذا.
3 هناك أكثر من حالة في الممارسة المهنية لطبيب يعاني من أعراض نفسية لم تصل إلى عتبة الاكتئاب السريري ويبحث دوماً عن معنى لوجوده وعمله. تطوع أحدهم للعمل في إحدى قرى جنوب إفريقيا لمدة عامين مباشرة بعد حصوله على أعلى شهادة طبية وفضل العمل الخيري على القبول بوظيفة استشاري. لم يعرف نفسه دينياً يوماً ما وعقيدته دوماً رعاية المستضعفين.
4 حالة سريرية لرجل ملتزم دينياً ويعرف نفسه كذلك. رعاية الأيتام دون مقابل أثناء العطلة الصيفية أصبحت عقيدته ودوماً يقول: "ذلك أفضل من جميع الطقوس التي مارستها ولا أزال أمارسها .. بدون هذا العمل لا معنى لوجودي".
5 في خطبة لكبير أساقفة يورك عام 1992 تحدث عن وجود بعض الشكوك حول انبعاث السيد المسيح (ع). لم تثر شكوكه غضب من استمع إليه ولا كبار قيادة الكنيسة في بريطانيا. لكن يمكن تصور ما كان سيحدث لو تفوه رجل دين إسلامي في خطبة الجمعة وتفاعل العامة والخاصة.
6 الإحصائيات الرسمية المتوفرة في بريطانيا حول تعريف الهوية الدينية لا تختلف كثيراً عن البلاد الأوربية الغربية والجنوبية. يمكن مراجعة هذه الإحصائيات المتوفرة على المواقع الإلكترونية الرسمية.
واقرأ أيضاً:
رسم المخ الكهربائي (Electroencephalography (EEG / التعلق Attachment / اضطراب الأسبرجر : أبعاد اجتماعية وصحية وحضارية / الاضطراب الوهامي من النرويج إلى القاهرة
التعليق: الحكمة من وجود الإنسان على الأرض معروفة في الإسلام، وواضحة وتستوعبها العقول... قال تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات:56] فالله خلق الخلق ليعبدوه ويعرفوه، وتتلذذ أنفسهم بمعرفته ومناجاته والالتزام بأوامره، لا لفائدته هو، فهو غني عنهم، ولكن ليسعدهم إن عبدوه...
إذن لا مشكلة في الأمر، والدين ليس مجرد إسكات للنفس لتحسم صراع الوجود لديها... المسلم كل شيء أمامه واضح...، أما الذي ليس له من الإسلام إلا أنه ولد في عائلة مسلمة، ولمَّا يعرف بعد لم هو موجود فهذا ليس حجة على الدين.