معالم الأخلاق والطب النفسي Parameters of Morality & Psychiatry
لقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (التين 4)
لابد أن يكون للبشر ملحمة ما تمثل امتداداً لتعليلهم الرفيع السامي حول كيف تم خلق العالم وكيف أصبحت الإنسانية جزءًا منه... الملاحم والمعتقدات الدينية ترضي حاجة بدائية في داخلنا وتؤكد لنا بأننا جزء من شيء أكبر من أنفسنا.... لكن الطريق لتحيق هدفنا في توحيد البشرية روحياً بدلاً من تقسيمها وتفسخها هو أن نسعى إلى كتابتها استناداً إلى أفضل معرفة تجريبية يزودها لنا العلم والتاريخ....
إدوارد اوسبورن ولسن 1999
الغاية من هذه السلسة من المقالات هو التطرق إلى معالم الأخلاق وتقييمها بصورة نقدية. معالم الأخلاق يبدأ رسمها وتحديدها من قبل الأم والأب منذ ولادة الطفل حتى رحيله من البيت العائلي. هذه العملية التربوية غايتها بناء ما يسميه علم النفس الأنا العليا أو Superego وهي لا تختلف تماماً عن ما نسميه الضمير باللغة المتداولة بين الناس. لكن مصطلح الأنا العليا المشتق من ثرثرة علم النفس Psychobabbles شائع الاستعمال ولا بأس في استعماله في هذا المقال.
بناء الأنا العليا غايته الأولى والاخيرة هو حماية الأنا Ego أو يمكن القول حماية الفرد نفسه من الغرائز التي تعمل بصورة مستمرة وكأنها أشبه بماكينة لا تتوقف عن العمل ولا بد من تهدئتها بين الحين والآخر.
لكن تهدئة الغرائز غير القضاء عليها. القضاء عليها يؤدي إلى حالة من اللامبالاة والاكتئاب والتي بدورها قد تقضي على الفرد عضوياً وفكريا. على ضوء ذلك ترى المجموعات البشرية تسعى إلى خلق حالة من التوازن بين الأنا العليا والغرائز.
علم النفس يحشر جميع الغرائز في بعدين لا أكثر وهما:
1 - الدوافع العدوانية.
2 - الدوافع الجنسية.
أما بقية الغرائز مثل الأكل والشرب وغير ذلك فهي تدخل في عداد الاحتياجات العضوية وتخضع إلى محطات سيطرة في الدماغ تم تحديد الواحدة بعد الأخرى بصورة دقيقة لا تقبل الجدال في يومنا هذا.
يغادر الطفل البيت ويبدأ تدخل المجموعات البشرية الأخرى بصورة مباشرة وغير مباشرة لتحديد معالم الأخلاق وبناء الأنا العليا. هذه المجموعات البشرية تشمل أفراد التعليم، رفاق الدراسة، رجال الدين، وغيرهم. تطورت طرق الاتصال بين الفرد والمجموعات بسرعة خلال القرن الماضي وأصبح مفعولها أكثر وضوحاً في تحديد معالم الأخلاق وبناء الأنا العليا فاليوم هناك الإعلام بجميع أنواعه والإنترنت وشركائه من فيس بوك وتويتر.
هذه هي القواعد العامة لمعالم الأخلاق ووظيفتها هي حماية الفرد وقد يقول البعض حماية الآخرين وبقية أفراد المجتمع منه كذلك، ولكن الحماية الأخيرة يمكن تفسيرها أيضاً بحماية الفرد بصورة غير مباشرة. الإنسان الذي يسرق ويعتدي على الآخرين بدوافع عدوانية أو جنسية سيتعرض لردود فعل عدوانية من بقية أفراد المجتمع. مع تقدم الحضارات البشرية تم حصر مهمة عقاب المعتدي ضمن إطار معين نسميه القانون والمؤسسات التنفيذية. هذه المعادلة مهمتها حماية الإنسان من رد فعل المعتدي أولاً واستمرار عملية بناء الأنا العليا في الإنسان.
القواعد العامة لمعالم الأخلاق وبناء الأنا العليا تم استحداثها منذ بداية الخليقة. عمل بها الإنسان منذ مئات الآلاف من السنين. يتصور البعض بأن الإنسان القديم كان أقل فعالية ونجاحاً في بناء الأنا العليا وتحديد معالم الأخلاق، وأنه مجرد كائن متوحش لا يختلف كثيراً عن الحيوان المفترس.
الاعتقاد الأخير اشتهر في الوسط العلمي والأدبي والسياسي بفضل مقولة مكتشف علم الاجتماع البيولوجي أو البيولوجيا الاجتماعية إدوارد ولسن الشهيرة: "الحرب مترسخة في أعماق طبيعتنا". هذه المقولة تكثر الإشارة إليها وخاصة بعد مرور مائة عام على بداية الحرب العالمية الأولى. كذلك يشير إليها البعض عند الحديث عن حملات الإرهاب الإسلامية وتلهف ما يُعرفون بالجهاديين في قتل الأبرياء وإعلانهم الحرب ضد الحضارات الأخرى.
لكن الإنسان لا يتوقف عند هذا المنعطف ويقبل بنظريات تم إعلانها بدون بحوث علمية دقيقة. أثبتت البحوث العلمية الأخيرة1 في دراسة جماجم الإنسان القديم والمعروف بالصياد عدم صحة الفرضية الأخيرة. تم دراسة 21 مجموعة أو قبيلة معروفة تاريخياً بولعها بالحرب والقتال. كان الاستنتاج بأن القتل بالعنف لم يتجاوز نسبة 15% من مجموع القتلى وليس هناك دليل بأن هؤلاء كانوا ضحايا حروب بل على العكس من ذلك كانوا ضحايا حوادث العنف ضمن أفراد القبيلة الواحدة وليس صراع بين القبائل أو صراع بين الحضارات كما هو الحال في يومنا هذا.
كانت النظرية الشائعة منذ أربعينيات القرن الماضي بأن التضحية والجهاد أو ما يعرف علمياً بالإيثار من خلال التضحية بالنفس ولد بعد تطور الإنسان الحديث Homo-Sapiens من جراء وحشية الصيادين والحروب بين القبائل. الحقيقة غير ذلك وهي أن الإنسان يميل إلى السلم وحرص منذ البداية على السيطرة على الدوافع العدوانية داخله. من هنا يأتي صدق الآية القرآنية الكريمة: "لقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ".
يمكن الاستنتاج عند هذه النقطة ما يلي:
1. عملية بناء الأنا العليا مستمرة وطويلة العهد ولم تخضع لعملية تطور منذ مئات الآلاف من السنين.
2. عملية السيطرة على الدوافع العدوانية قديمة العهد أيضاً ولم تخضع لعملية تطورية وهي متأصلة في أعماق البشرية.
3. عملية السيطرة على الدوافع الغريزية ربما كانت مسيرتها كمسيرة السيطرة على الدوافع العدوانية.
4. الدوافع الغريزية لها وظيفة بيولوجية تخضع لنظام العتبات Thresholds هناك عتبة معينة أن تجاوزتها أدت إلى تدمير الذات بصورة مباشرة أو غير مباشرة. في عين الوقت إن تم القضاء عليها أو السيطرة عليها بقوة فقد تؤدي إلى حالة من اللامبالاة والاكتئاب وتمنع الإنسان من التطور.
الطب النفسي
ليس هناك ما يثير الجدل بين الباحثين في مختلف العلوم الاجتماعية مثل دور الطب النفسي في معالم الأخلاق. كل ما أقحم الطب النفسي نفسه في تفسير ممارسات فردية أخلاقية وحشرها ضمن الاضطرابات العقلية يجد نفسه في تناقض وأزمة مع المجتمع الذي ينتمي إليه. يحاول الطب النفسي ويفشل في علاج السلوك البشري الغير ناتج من اضطراب عقلي ويجد المعالج النفسي نفسه في حالة إحباط لا يُحسد عليها. لا يقتصر هذا الفشل على المدرسة التحليلية وإنما يشمل المدرسة السلوكية والمعرفية.
يفضل المجتمع دوماً اللجوء الى ما يمكن تسميته بالنموذج الأخلاقي Moral Model في معالجة الانحراف الاجتماعي. يستند هذا النموذج على فرضية واحدة وهي أن الإنسان المنحرف يبحث عن المتعة من خلال سلوكه ولا يبالي بمشاعر الآخرين. يمكن تتبع هذا النموذج في سائر المعتقدات الدينية والأعراف الاجتماعية التي تستند على قاعدة الخطيئة والعقاب. يلجأ الفرد إلى الانحراف من جراء ضعف في قوة الإرادة وعلاج الفرد هو اعترافه أولاً بانحرافه وسعيه إلى رفع درجة قوة الإرادة بطريقة أو بأخرى. من هنا يمكن القول بأن الإنسان يتحمل مسؤولية ونتائج أعماله وصدق الله رب العالمين في قوله: "ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلٌام للعبيد"- الحج 10.
بعد أن أدرك الطب النفسي أن النماذج النفسية غير قادرة على تفسير الانحراف بدأ يتجه نحو استحداث نموذج طبي Disease Model لتفسير وعلاج المنحرف المُعرف اجتماعياً . يمكن تتبع جذور هذا النموذج في بداية الثمانينات في دراسة الإدمان على الكحول2 . فشلت الدراسات العلمية في إثبات اهمية البيئة الاجتماعية والتربية العائلية في التنبؤ بإصابة الفرد بالإدمان باستثناء سلوك واحد فقط وهو السلوك المضاد للمجتمع Antisocial أما الأعراض النفسية مثل القلق والاكتئاب والرهاب فما هي إلا مجرد مضاعفات للإدمان والسلوك فقط وليست سبباً في الاتجاه نحو الإدمان.
على ضوء ذلك لابد من التحري على اضطرابات عضوية تفسر الانحراف وعلاجه بالعقاقير. هذا ما يحدث دوماً في علاج الإدمان على الكحول وعلى مشتقات الأفيون حيث شاع استعمال النموذج المرضي وأثبتت الدراسات فاعليته. أما اضطراب عجز الانتباه وفرط الحركة فهو الآخر بدأ يحتل موقعه في تفسير السلوك الانحرافي ويكثر تشخيصه في السجناء، ولكن الدليل على العلاج في تغيير سلوك الفرد يصعب إثباته وربما نضوج الفرد عضوياً هو العامل الأول والأخير في تغيير مسيرة الفرد المصاب بهذا الاضطراب اجتماعياً. أما السلوك الإجرامي والجنسي فلا يزال يخضع للنموذج الأخلاقي.
رغم أن جميع الفروع الطبية تخضع للشفرة الأخلاقية Moral Code للمجموعة التي تمارس فيها، ولكن الطب النفسي يجد نفسه في أزمة مع المجتمع الذي قد يطلب منه ما يلي:
1- تشخيص اضطراب عقلي لتفسير السلوك المعادي للمجتمع وعلاجه.
2- تفسير السلوك علمياً في غياب اضطراب عقلي.
3- معالجة السلوك في غياب اضطراب عقلي.
الخطوة الأولى لابد منها وعلى الطبيب النفسي إبداء رأيه بأمانة. الثانية صعبة وتضعه في مواجهة مع الشفرة الأخلاقية للمجتمع. أما الخطوة الثالثة فهي مستحيلة وعليه أن يحرص أن لا يقحم نفسه فيها.
موقع مجانين:
في نهاية هذا المقال الأول لابد من إشارة إلى موقع مجانين. القارئ لمقالات واستشارات الموقع يدرك تعدد الآراء على أكثر المواقع العربية تحضراً فاتحاً أبوابه عن إيمان بحرية التعبير. هناك آراء دينية وعلمانية تتفاوت في درجتها والموقع يبدي رأيه في الشفرة الأخلاقية للمجتمع بأسلوب حضاري وعلاقتها بالصحة النفسية الاجتماعية ولكنه لا يبدي آراء سياسية أو لديه ميول لفئة دون الأخرى. يعود السبب في ذلك إلى علاقة الطب النفسي مع معالم الأخلاق من حيث المبدأ والممارسة العملية ليس في مصر والعالم والعربي ولكن في جميع أنحاء العالم وفي مختلف العصور.
تجاوز بعض الغلاة وتهجموا على الموقع وتم توجيه الاتهام بتحيزه السياسي وهذه المقولة ليست أكثر من دجل يعكس التخلف الثقافي والحضاري لمن يتعرضون للموقع وعدم قابليتهم على إدراك محتوى بعض المقالات. الشفرة الأخلاقية للمجتمع العربي غير مستقرة لعدة أسباب وتفاعل الموقع معها يعكس حرصه على أفراد المجموعة وليس الانحياز لهذه المجموعة أو تلك.
المصادر:
1- Fry D, Sorderberg P(2013). Lethal Aggression in Mobile Forager Bands and Implications for the Origins of War. Science 341, 270.
2- Vaillant G(1983). The natural history of alcoholism. Cambridge, MA, Harvard University Press.
٠ إدوارد أوسبورن ولسن Edward Osborne Wilson هو من أشهر علماء الأحياء. عانى من فقدان البصر في عينه اليسرى بعد حادثة وبعدها بأشهر تدهور النظر كذلك في عينه اليمنى. انفصل الأب عن الأم في تلك المرحلة ورغم ذلك استمر في سعيه إلى العلم والمعرفة وحصل على الدكتوراه من هارفارد، وتقاعد من الخدمة عام 1996. مقولته أعلاه تشير إلى أن البشر يبحثون دوماً عن بعد بطولي في حياتهم، والسؤال الذي يتم طرحه هل الكون الذي نعيش فيه مليء بقيم قدسية، أم أن برمجة البشر أنفسهم للقيم والأخلاق هو كل ما يهمنا. في نهاية الأمر لن يصل بنا الغباء لكي نستمر في تدمير أنفسنا وكل ما حولنا ( حديث لبراين سوم 1997). نشر كتابه في طبيعة البشر عام 1978 وحاز الكتاب على جائزة بوليتزر عام 1979.
ويتبع >>>>>: معالم الأخلاق في حب السلام والحسن عليه السلام
التعليق: شكراً د. دكتور سداد لكن هناك خطأ في آيتين وحضرتك لا ترضى أن يحصل هذا
*قوله تعالى في سورة التين: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) حذفت اللام في مكانين.
*قوله تعالى في سورة الحج: (ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد) كلمة (بظلام) كتبت (بظلم)
يمكن السبب أنها مكتوبة هكذا في الخط القرآني، ووضع بين اللام والميم ألف صغيرة. بس هي لا تظهر هنا.
شكراً