عمل الفحوص الشعاعية في الاضطرابات العقلية لا تخلو من الجدل من زاوية الممارسة السريرية في الطب النفسي وهناك أكثر من سيناريو يمكن التفكير به.
1. السيناريو الأول هو طلب المريض عمل فحص شعاعي للتأكد من سلامة الدماغ. لا يتفق الطبيب النفسي مع المريض ولكنه أحياناً يوافق عليه لكي يضمن تعاون المريض ودخول الطمأنينة في قلبه.
2. السيناريو الثاني هو حماس الطبيب النفسي في العثور على تفسير عضوي لأعراض الاضطراب العقلي رغم عدم وجود أدلة كافية لعمل مثل هذا الفحص.
3. السيناريو الثالث هو قلق الطبيب النفسي من الفشل في عدم العثور على مرض عضوي في المخ رغم اقتناعه بعدم ضرورة هذا الفحص.
4. السناريو الرابع هو ضرورة عمل مثل هذا الفحص لرسم صورة كاملة لأعراض الاضطراب العقلي.
5. أما السيناريو الخامس وهو الكارثي فهو عمل الفحص لمجرد عمله.
الغاية من هذا المقال هو مراجعة أهمية3 مثل هذه الفحوصات الباهظة الثمن نسبياً في الاضطرابات العقلية ضمن الممارسة المهنية اليومية.
أنواع الفحوصات:
عندما نتحدث هذه الأيام عن الفحوصات الشعاعية للدماغ فذلك لا يعني عمل أشعة سينية للجمجمة Skull X Ray فهي بصراحة لا فائدة منها في الممارسة الطبية السريرية إلا في ما ندر من الحالات. الفحوصات التصويرية الشعاعية يمكن تقسيمها إلى ما يلي:
٠ تصوير هيكلي لمناطق الدماغ Structural Brain Imaging .
٠ تصوير وظيفي لمناطق الدماغ Functional Brain Imaging .
التصوير الهيكلي ينتج صور توضح تكامل بنية الدماغ وبعدها يمكن استنتاج وجود أو عدم وجود آفة دماغية.
أما التصوير الوظيفي فهو يتنج صورا توضح فعالية الدماغ بعد حقن واحدة من مواد يطلق عليها النظائر Isotopes في معظم الحالات. يستقبل الدماغ هذه النظائر ويتصرف بها بطريقة قد تكشف وجود عطل معين في إحدى مناطقه ويتم الاستنتاج بعدها بوجود أو عدم وجود آفة دماغية.
الفحوصات المتوفرة في الممارسة السريرية في جميع أنحاء العالم يمكن حصرها كما يلي:
التصوير الهيكلي:
٠ فحص أو تصوير بالأشعة المقطعية والمعروف عالمياً بالـ CT Scan.
٠ فحص أو تصوير بالرنين المغناطيسي والمعروف عالمياً بالـ MRI Scan.
التصوير الوظيفي:
٠ فحص أو تصوير طبقي بقذف البوزيترون والمعروف عالمياً بالـ PET Scan.
٠ فحص أو تصوير طبقي بالكمبيوتر البعاث والمعروف عالمياً بالـ SPECT Scan .
هذه الفحوصات متوفرة في جميع المستشفيات التعليمية ومعظم المستشفيات العامة الكبرى في المدن والمحافظات. الـ CT Scan يكاد يكون متوفراً في العيادة الخارجية والطوارئ لفحص الرأس عند الحاجة بدلاً من استعمال الأشعة السينية إلا في حالة احتمال وجود كسر في عظام الجمجمة.
يتعرض المريض للإشعاع في جميع الفحوص أعلاه باستثناء الـ MRI Scan ، تكاليف هذه الفحوصات تتراوح بين مركز وآخر ولكن يمكن القول بأن سعر الـ MRI Scan يعادل خمسة إلى عشرة أضعاف الـ CT Scan وكذلك الحال مع الـ PET Scan مقارنة بالـ SPECT Scan.
هذه الفحوصات في غاية الأهمية في مختلف الفروع الطبية ولكن استعمالها في الاضطرابات العقلية يثير الكثير من النقاش وطالما يتعرض الأخصائي في الطب النفسي للانتقاد في إسرافه في طلب مثل هذه الفحوصات.
الانتقاد الأشد من الأخير هو طلب الطبيب النفسي لعمل هذه الفحوصات بدون عمل فحص طبي جسدي للجهاز العصبي. هذا الانتقاد لا يخلو من الصواب وطالما ترى الطبيب النفسي لا يراجع الأعراض التي قد توحي بوجود آفة في الجهاز العصبي وعمله للفحص الطبي العصبي يكاد يكون غير معروف، ودون المستوى الحرفي المطلوب. على ضوء ذلك يمكن القول بأن على كل طبيب نفسي الشروع بالاستفسار عن أعراض الاضطرابات العصبية وعمل فحص طبي قبل طلبه للحصول على تصوير هيكلي أو وظيفي وإن كان يفتقد الكفاءة لعملها فعليه الاستعانة بأخصائي في الأمراض العصبية. كذلك ترى الطبيب النفسي لا يوضح في طلبه ما هي الآفة التي يبحث عنها مما يثير الإشكال لمن سيقوم بعمل التصوير ودراسته.
هناك قاعدة طبية لا يلتزم بها الطبيب النفسي وهي أن هدف الفحوصات الإشعاعية تثبيت تشخيص تم الوصول إليه سريرياً وليس الحصول على مفاجأة يتم الحصول عليها ويضيفها إلى إنجازاته في اكتشاف آفة في الجهاز العصبي في حالة اضطراب عقلي. بعده تراه يعطي المبرر بعد الآخر لضرورة الفحص التصويري ويعيد كتابة تاريخ الحالة لكي يتوازى مع نتيجة الفحص.
التطبيق العملي في الاضطرابات العضوية:
يصل المريض المصاب باضطراب عضوي مع أعراض طبية نفسية إلى مراكز الصحة العقلية بعد مروره بالفرق الطبية المختصة ويتم العلاج بالتعاون والتنسيق بين الفريقين.
اضطرابات العته (أو الخرف أو السبه*) Dementia بأنواعها يتم تشخيصها سريرياً والفحص الشعاعي بحد ذاته لا يؤكد التشخيص ولا ينفيه إن كان طبيعياً. ينطبق ذلك على التصوير الهيكلي والوظيفي على حد سواء. رغم ذلك ترى جميع المرضى يتعرضون لهذا الفحص ولكن إعادة الفحص بعد فترة زمنية لدراسة تطور الحالة لا معنى له.
هناك حالات نادرة من حصول الورم الدموي تحت الجافية المزمن Chronic Subdural Hematoma من جراء تعرض المريض لصدمات متكررة للرأس. يحدث ذلك من جراء سقوط متكرر لكبار السن وأحياناً في المصابين بالإدمان على الكحول. تاريخ الحالة المرضية يشير إلى مثل هذا الاضطراب الذي يثير الشكوك في وجود أعراض خرف متقطعة وتكرار سقوط المريض وتعرض الرأس للصدمات. هذا الورم الدموي يسهل علاجه ويتم الكشف عنه باستعمال الـCT scan ولكن رغم ذلك ترى التصوير قد يكون طبيعياً في بعض الحالات استناداً إلى عمر الورم الدموي وحجمه.
الصورة توضح مثل هذا التجمع الدموي.
|
|
كذلك الحال مع الاضطرابات العصبية النفسية Neuropsychiatric Disorders حيث يكون التعاون على أشده بين الفريق العصبي والنفسي ولكن قلما يطلب الطبيب النفسي فحص تصويري جديد بعد مشاركته الفريق العصبي في علاج المرض الذي تم تشخيصه من قبل الفريق العصبي.
يمكن القول بأن الاضطرابات العصبية النفسية هي الوحيدة التي من الممكن العثور على دلالة لاستعمال التصوير الوظيفي في الصحة العقلية، ولكن رغم ذلك فإنها كذلك قلما تضيف ما هو مفيد لعلاج المريض والفضول الأكاديمي يكاد يطغى على الضرورة السريرية.
يتم فحص المريض في هذا الاختصاص ودراسة أدائه الوظيفي باستعمال اختبارات نفسانية. إذا كانت نتائج هذه الاختبارات تتناقض مع نتائج التصوير الهيكلي فعندها يمكن اللجوء إلى التصوير الوظيفي.
ويجب توخي الحذر من الإسراف في استعمال هذا التصوير الذي ليس من السهل أدائه بكل دقة وأحياناً قد تكون فائدته لا تتجاوز فائدة أشعة سينية للجمجمة.
الصورة توضح استعمال الـ SPECT Scan وملاحظة الخلل الوظيفي في الفص الجبهي الأيمن (قلة التلوين الأحمر) لتثبيت نتائج الاختبارات النفسية. رغم ذلك لا تدل نتائج هذا التصوير على طبيعة الآفة ودرجتها. من هذا المنطلق يمكن القول بأن عمل التصوير الوظيفي لا فائدة منه لعلاج المريض سريرياً.
التطبيق العملي في الاضطرابات الفصامية:
لعب التصوير الشعاعي الهيكلي والوظيفي دوره في دراسة الفصام2 وعلاجه ولا يمكن إنكار ذلك. من جراء بحوث التصوير الشعاعي تم تثبيت حقيقة يقبل بها الجميع الآن وهي أن البعد المعرفي Cognitive Dimension هو بؤرة هذا الاضطراب وهذا البعد ناتج عن اختلال هيكلي أو وظيفي في الدماغ. البعد المعرفي الذي يتميز بثباته طوال العمر ينتج منه بعض الأعراض الموجبة Positive Symptoms Dimension مثل الهلوسة وبعد الأعراض السالبة Negative Symptoms Dimension مثل الخمول عدم الاكتراث.
شاع استعمال التصوير الشعاعي من جراء ذلك وأسرف الطب النفسي في اللجوء إليه رغم غياب أي دليل يسند بأن نتيجة التصوير تؤثر على علاج المريض أو تعطي إشارة ذات معنى لتطور الاضطراب تختلف عن دراسة المريض سريرياً.
هناك مصطلح كثير الاستعمال في المراحل التعليمية للطب النفسي وهو الفصام الثانوي والذي يعني أن أعراض الاضطراب سببها اضطراب عضوي. هذه الحالات نادرة بكل معنى الكلمة وأهميتها في الممارسة السريرية تكاد تكون واطئة للغاية، ولا تستدعي عمل تصوير شعاعي. ترى طالب الطب يشغل نفسه بحفظ هذه القائمة من الاضطرابات التي لا فائدة منها عملياً.
هناك دلالات نادرة يتوجب على الطبيب النفسي الانتباه إليها أحياناً في المرضى المصابين بالفصام والتي قد تشير إلى احتمال كبير لوجود آفة دماغية ومنها:
٠ أعراض فصام غير واضحة وغير نموذجية مع غياب تاريخ عائلي للمرض أو تاريخ شخصي يشير إلى المرض. يضيف البعض عمر المريض ولكن كاتب السطور لا يتفق مع هذا الرأي من جراء مراجعة 5 حالات في السنوات الخمس الماضية حيت كانت أعمار المرضى تتراوح بين 21 إلى 45 عاماً.
٠ أعراض فصام غير نموذجية تتميز بنوبات اضطراب وعنف لا تستمر أكثر من ساعات محدودة بين الحين والآخر رغم علاج المريض بجرع عقاقير كافية.
الصورة لورم نجمي في الفص الجداري لمثل هذه الحالات.
قد يشك البعض في أهمية مثل هذه الآفة في تفسير أعراض الفصام. يتم جمع المعلومات البصرية من الفص القذالي، والحسية من الفص الجداري، والصوتية من الفص الصدغي في منطقة الاتصال أو الجمع Association Area في الفصيص الجداري الأسفل وبعده تنتقل إلى منطقة الاتصال الأمامية في الفص الجبهي. وجود مثل هذه الآفة تؤثر على فعالية المخ في التصرف بالمعلومات التي يتم استقبالها.
هناك دلالات أخرى تعتمد على ممارسة وتجارب الأخصائي ولكن يجب توخي الحذر من الإسراف في استعمال التصوير الإشعاعي بسبب ذلك.
التطبيق العملي في الاضطرابات الوجدانية:
استعمال التصوير الشعاعي في الاضطرابات الوجدانية أقل بكثير من الفصامية، ولا توجد دلالة على وجوب استعمال هذا التصوير في الحالات النموذجية من الاكتئاب أو الهوس.
في غياب مثل هذه الأعراض النموذجية ووجود أعراض قد تشير إلى أسباب عضوية متعددة للاضطراب يتوجب على الطبيب فحص المريض بدقة وإن كان يفتقد الثقة في عمل مثل هذا الفحص أو لا يرغب فيه لأسباب نفسية تتعلق بعلاقة المريض معه فمن الأفضل الاستعانة بخدمات زملائه في الاختصاصات ولو لمرة واحدة. اما اتخاذ القرار النهائي في طلب تصوير شعاعي فيجب أن يكون مستنداً إلى استنتاج سريري سليم مبني على نتائج الفحص السريري.
يستعين بعض الأطباء بعمل تصوير شعاعي قبل المباشرة بالعلاج الكهربائي التشنجي Electro-convulsive Therapy. هذا الفحص لا يمكن الاعتماد عليه كبديل لتاريخ مرضي والفحص الجسدي السريري، ولا حاجة له في معظم الحالات.
التطبيق العملي في الاضطرابات العصابية:
الغرض من استعمال مصطلح عصابية هنا هو جمع الاضطرابات النفسية الأخرى وليس بالضرورة تمييز هذه الاضطرابات بأنها عصابية الأصل. خضعت الاضطرابات العصبية لكثير من الأبحاث في مجال التصوير الوظيفي1.
يكثر المرضى المصابين باضطرابات القلق من الشكوى من الأعراض الجسمانية التي لا تفسير لها ويصرون أحياناً عمل تصوير شعاعي الواحد بعد الآخر. يجب رسم الحدود الواضحة بالخط العريض في علاقة الطبيب بمريضه وعدم الاستجابة لطلب المريض لعمل فحوصات لكي تدخل الطمأنينة إلى قلبه. هذه الطمأنينة تتميز بأنها وقتية وطالما يطلب المريض تكرار الفحص أو طلب فحص آخر اكتشفه عبر عالم الفضاء.
لعب التصوير الشعاعي الوظيفي دوره كذلك في دراسة اضطراب الوسواس القهري4 والعثور على اضطراب وظيفي في الفص الجبهي. هذه الدراسات لا تعني بأن التصوير الشعاعي له أي فائدة في الممارسة السريرية اليومية ومن الأفضل عدم الاستناد إليه لتقييم شدة الحالة واحتمال تطورها في المستقبل.
هناك بعض اضطرابات الفص الجبهي التي تتميز بسلوك وسواسي. هذه الحالات قلما يتم عرضها في البداية على الطبيب النفسي ويمكن تشخيصها سريرياً ومن ثم الاستعانة بالتصوير الشعاعي الهيكلي بدلاً من الوظيفي.
التصوير الوظيفي يوضح زيادة فعالية الفص الجبهي في المرضى المصابين بالوسواس القهري. (استهلاك الطاقة المتزايد في المريض المصاب بالوسواس القهري.)
التطبيق العملي في اضطرابات الشخصية:
اضطرابات الشخصية التي تبدأ منذ بداية أعوام المراهقة غير اضطرابات تغير الشخصية التي تحدث من جراء اضطرابات عضوية في الدماغ. الأخيرة تقع ضمن قائمة الاضطرابات العضوية واستعمال التصوير الإشعاعي يخضع لنفس الإرشادات أعلاه.
ليس من الغريب ملاحظة آفات صغيرة ثابتة ويصعب تفسيرها في اضطرابات الشخصية العدائية للمجتمع Antisocial personality disorders لا توجد أهمية تشخيصية أو علاجية لهذه الآفات ولكنها تلقي الأضواء الكاشفة على الأسباب العضوية لبعض اضطرابات الشخصية وربما معظمها. لا تزال نتائج الكثير من الدراسات غير واضحة ولا مجال إلى استعمال الفحص الإشعاعي في الممارسة المهنية.
الخلاصة:
التصوير الإشعاعي له دور محدود جداً في الممارسة السريرية وليس بديلاً لتاريخ مرضي مفصل وفحص طبي بدني.
المصادر:
1. Karibe H, Arakawa R, Tateno A, Mizumura S, Okada T, Ishii T, Oshima K, Ohtsu M, Hasegawa I, Okubo Y.(2010). Regional cerebral blood flow in patients with orally localized somatoform pain disorder: a single photon emission computed tomography study. Psychiatry Clin Neurosci. 64(5): 476-482.
2. Etkin A, Gyurak A, O'Hara R.(2013). A neurobiological approach to the cognitive deficits of psychiatric disorders.Dialogues Clin Neurosci. 15(4):419-29.
3. Philips M (2012). Neuroimaging in psychiatry: Bring Neuroscienc into clinical
practice.Br J Psychiatry 1: 1-3.
4. Wen SL, Cheng MH, Cheng MF, Yue JH, Wang H(2013). Pharmacotherapy response and regional cerebral blood flow characteristics in patients with obsessive-compulsive disorder. Behav Brain Funct. 9(1):31-37.
واقرأ أيضاً:
مستقبل الطب النفسي أو نهايته (البحث عن تصنيف عربي ؟) / اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة ا.ن.ا.ف.ح في البالغين: العلاج / الانفصال Dissociation : المقدمة