"احنا مابندورش على قائد يحكمنا لأن كل واحد نزل التحرير كان قائد.. احنا بندور على ضمير"، كانت هذه آخر كلمات في فيلم The Square والتي تعبر عن توجهات الشباب نحو السلطة بعد الثورات العربية, فثمة انشقاق ملحوظ في كثير من المجتمعات العربية التي قامت فيها ثورات شعبية بين رؤية الجيل القديم (من هم فوق الأربعين) والجيل الجديد (من هم تحت الأربعين) لطبيعة السلطة الجديدة, فالقدامى يريدونها سلطة أبوية قادرة وقاطعة ومتحكمة وحاكمة وحازمة (ولا مانع من كونها مستبدة) لتمنح الأمان والاستقرار قبل أي شيء, أما الجيل الجديد من الشباب فهو يرفض هذه المعايير ويريدها سلطة ديموقراطية تحقق إرادة وخيارات الشعب.
وعلى الرغم من أن المجتمعات البشرية قد استفادت من أزماتها وصراعاتها في هذا المجال ووضعت آليات تضمن سلاسة وإيجابية وتوازن العلاقة بين الحاكم والمحكوم بدرجة معقولة نسبيا تبدت في نظم ديموقراطية مدنية ومؤسساتية حديثة إلا أن العرب ما زالوا من بين أمم الأرض يتخبطون في هذه الدائرة دون بادرة أمل لخروجهم منها في المستقبل القريب, ففي مصر والعالم العربي على وجه العموم أزمة حقيقية في الوقت الراهن سببها ذلك الصراع الخفي أحيانا والظاهر أحيانا أخرى بين فكرة المجتمع الأبوي وفكرة المجتمع الناضج؛
فالمجتمع الأبوي يقوم على أساس أن هناك والدا أو مسئولا أو رئيسا يملك كل شيء ويعرف كل شئ ويوجه كل شئ وله احتراما خاصا قد يصل إلى درجة القداسة التي تستوجب الطاعة العمياء من الأبناء أو التابعين أو الخاضعين أو الرعية أو الرعايا والذين ينحصر دورهم في التفويض أو المبايعة أو التأييد والتهليل ثم الاتباع والانصياع والانبطاح والانبهار وسماع الأوامر وتنفيذ التعليمات, وهذه هي المنظومة التي مازالت قائمة على المستوى الأسري والوظيفي والعام, أما المجتمع الناضج والذي تنادي به العقلاء والراشدون من البشر فهو الذي يوزع المهام والأدوار بين أفراد ومجموعات يتسمون جميعا بالنضج والمسئولية دونما تضخيم أو تقديس لأحد وذلك ضمن منظومات متطورة ومرنة وفاعلة وقابلة للتغيير الإيجابي.
وطبقا للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء فإن عدد الشباب في مصر (الفئة العمرية من 15 إلى 29 عاما) قد وصل إلى 23,519 مليون بما يشكل نسبة 31,33 % من إجمالي عدد السكان, أي ثلث سكان مصر, وهؤلاء هم قاطرة التغيير الذين أشعلوا الثورة ولهم تصوراتهم وتوقعاتهم ولهم عالمهم الذي لم يفهمه الكبار والقائمون على الأمر حتى الآن بدليل مظاهر العودة للسلطة الأبوية والسلطة المركزية والسلطة الحاكمة المتحكمة وسياسة العصا الأمنية, وهذا ما جعل الشباب يبدءون رحلة الانسحاب الاحتجاجي والعودة مؤقتا إلى عالمهم الافتراضي عل الفيس بوك يسخرون من الجميع ويشعرون أن لا أحد يفهمهم وأن الثورة التي قاموا بها قد اختطفت وتحول مسارها عدة مرات وأن العجلة تدور للوراء, وأن العقلية القديمة تعود, وأن الجيل القديم الذي أدمن الخضوع والانصياع يعلو صوته مطالبا بعودة الزعيم الأب الفرد, وأن الإعلام الموجه والمملوك لرأس المال القديم يقوم بعمل غسيل مخ للجماهير الحائرة والخائفة, وأن أحلام العيش والحرية والمدنية والديموقراطية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية قد ضاعت تحت تهديد الخوف المصنوع.
ويبدو أن هذه الأزمة مرشحة للتفاقم حاليا وبقوة بسبب حالة العولمة الثقافية التي أتاحت لفئات كثيرة رؤية واسعة للعالم الأوسع وما يجري فيه مما فتح الباب أمام مقارنات مؤلمة ومحفزة ومفجرة, فعلى الرغم من سيادة فكرة المجتمع الأبوي على المستوى الرسمي إلا أنه على المستوى الاجتماعي والثقافي قد حدثت تحولات هائلة تجاه فكرة المجتمع الناضج بعضها ما زال على مستوى التنظير والأمنيات وبعضها دخل حيز التنفيذ على حذر أحيانا واستحياء في أحيان أخرى, وفي المقابل يقاتل الآباء (على المستوى الأسري والمؤسساتي والحكومي) من أجل إبقاء الأوضاع القائمة كما هي بما يخدم تربعهم على عرش السلطة والسطوة والأمر والنهي, وهم حين يدركون تغير الزمن والأحوال والظروف ربما يحاولون التظاهر بمسايرة ضرورات التغيير والتحول من حيث الشكل دون المضمون, ولكن من المؤكد أن عجلة التطور تدور ولا يستطيع أحد مهما كان أن يوقفها طول الوقت. وعلى الجانب الآخر يحاول الأبناء (الشباب) أن يسقطوا السلطة الأبوية بالتمرد عليها أو تسفيهها أو إسقاط القداسة عنها, ولكنهم في الوقت ذاته لم ينضجوا بالقدر الكافي لكي يحملوا الأمانة والمسئولية فيتخبطون ويفشلون ويعاودون المحاولة.
وبما أننا في الواقع مازلنا نعيش حقبة المجتمع الأبوي (رغم الثورات التي قامت وما زالت قائمة) لذلك تشكل شخصية الرئيس – كما قلنا – المحور الأساسي في التخطيط والتوجيه والتحريك والتوقيف حيث أن زمام الأمور دائما بيده فهو يضبط إيقاع حركة المجتمع الذي يقوده وفق رؤاه الشخصية (بصرف النظر عن نصوص الدساتير وضوابط القوانين).
تلك هي الأزمة التي مازلنا نعيشها في المجتمعات العربية ولذلك نوصف بأننا شعوب متمركزة حول الرئيس أو متوجهة نحو الزعيم حيث يتنازل الناس عن حريتهم بالتفويض الاختياري أو بالقهر والتخويف لصالح الرئيس أو الزعيم, ويتحولون بذلك إلى أطفال متوسلين إلى الزعيم الأب العظيم أو خائفين من الحاكم الأب المستبد.
إذن كيف نخرج من هذه العلاقة المرضية بين الحاكم والمحكوم؟... ربما يتحقق ذلك بالوعي بتشوه تلك العلاقة ثم الثورة عليها مع نضج لدى الشعب يجعله يتجه نحو المؤسسات التي يحقق من خلالها وبنفسه (وليس من خلال الزعيم الأب أو به) نهضته العلمية والثقافية والاقتصادية ويكون هو الحارس عليها والضامن لبقائها وتطورها, ولا يضع نفسه تحت رحمة شخص مهما علا قدره أو تلون صوته أو لاحت شدته, أو سحرت كاريزمته.
واقرأ أيضا:
التدين الصراعي / جنون الحشيش / قوة التسامح / باقة من الأمهات