هذا السؤال يطرح نفسه بين الحين والآخر في الممارسة السريرية للطب النفسي، والجواب على السؤال أسهل بكثير في الحديث عن المرضى المصابين بالفصام مقارنة بغيرهم أحياناً. ترى الغالبية العظمى من الاستشاريين يحرص على استمرار المريض على تعاطي المضاد للذهان لأجل غير مسمى ويشترك معه في ذلك الاستشاريون في الاختصاصات الطبية الأخرى. قد يعد الطبيب المريض بتخفيض الجرعة مستقبلاً وحتى سحب العقار كلياً في المستقبل البعيد وليس القريب. هذه الوعود طالما يوفي بها الاستشاري خوفاً من انتكاسة المريض بعد دخوله إلى مرحلة الهدأة.
الطامة الكبرى للعقاقير المضادة للذهان هذه الأيام تكمن في استعمالها في جميع الاضطرابات النفسية الأخرى ولا يمكن القول أن هذه المقولة مبالغ فيها. هذه العقاقير كثيرة الاستعمال في الثناقطبي، ويكثر الأطباء من إضافتها إلى عقار مضاد للاكتئاب في العلاج. لا يقتصر استعمالها على هذه الاضطرابات التي يمكن القول بأنها اضطرابات جسيمة ولكن طوفان هذه العقاقير يشمل الوسواس القهري والقلق وحتى اضطرابات الشخصية رغم غياب الأدلة القاطعة على فعاليتها2. لا يقتصر الشك على فعاليتها في هذه الاضطرابات وإنما في الجرع المستعملة كذلك. يكفيك أن تتطلع على استشارات الموقع خلال الستة أشهر الماضية وترى هذه العقاقير في كل مكان في المرضى المصابين باضطرابات القلق واختلال الإنية وغيرها.
يتم توجيه السؤال أعلاه في الاضطرابات الصغرى الأخيرة كذلك وهو إلى متى؟
الجواب دوماً هو إلى أجل معين ولكن الطبيب قلما يتجرأ على إعطاء مريضه إجابة قطعية. أما إذا دخل المريض في مرحلة الهدأة فهو أيضاً لا يحب سحب العقاقير أو حتى خفض الجرعة. يبقى العلاج على نفس الوتيرة لفترة طويلة في الكثير حتى ينتكس المريض بمرض عضوي أو تدخل المرأة في فترة حمل وعندها يتم توقيف العلاج بين ليلة وضحاها.
العقاقير المضادة للذهان متعددة ومتوفرة تحت أسماء تجارية كثيرة وليس من السهل على مستشيري الموقع معرفة ما هو العقار الذي تم وصفه. استعمال الاسم التجاري بدلاً من الاسم العلمي الكيمائي غير مقبول مهنياً وليس في صالح المريض والطبيب على حد سواء. ربما حان الوقت لأن يصدر الموقع سجلاً لجميع أسماء العقاقير التجارية وتوضيح اسمها العلمي الكيمائي.
يتم تصنيف هذه العقاقير إلى:
0 الجيل الأول لعقاقير مضادة للذهان (ج.ا.م.) (FGA (First Generation Antipsychotics .
0 الجيل الثاني لعقاقير مضادة للذهان (ج. ث. م.) (SGA (Second Generation Antipsychotics .
يتصور البعض بأن ظاهرة طوفان استعمال هذه العقاقير يقتصر فقط على ج.ث.م. وهذا غير صحيح وإن كانت الظاهرة أصبحت أكثر شيوعاً في الأعوام الأخيرة مدعومة بدراسات سريرية غير مقنعة2 على أقل تقدير والكثير منها مسنودة مادياً من قبل شركات الأدوية. كثرة استعمالها بدأت تثير الشكوك حول احتمال إدمان المرضى على استعمالها وخاصة لعقار الكوتايبين4 أو السيروكيل (Quetiapine (Seroquel. رغم ذلك رحب عالم الطب بعقاقير ج.ث.م لسبب واحد فقط وهو غياب الأعراض خارج الهرمية Extrapyramidal symptoms من رعشة اليدين وتشنجات عضلية تراها ظاهرة للعيان مع مرور الوقت وتميز الانسان الذي يتعاطى ج.أ. م. من غيره من البشر.
لكن شهر عسل ج.ث.م. لم يطل كثيراً بعد اكتشاف تأثير هذه العقاقير السلبي على البيئة الأيضية للفرد وإصابته بالسمنة وارتفاع تركيز السكر والدهون في الدم. أسعار العقاقير الثانية باهظة مقارنة بالأولى ومع انتكاسة العالم اقتصادياً بدأ الكثير يميل إلى استعمال العقاقير الأولى.
الحقيقة المرة لجميع هذه العقاقير هي تجريد من يتعاطاها من الاندفاع عن طريق منع محرك الإنسان الكيمائي في الدماغ ألا وهو الدوبامين Dopamine . يمكن تشبيه الإنسان بسيارة تحتاج إلى وقود لكي تسير من مكان إلى آخر، ووقود الإنسان هو الدوبامين فلا عجب أن بدأت الشكوك تحوم حول استعمال العقاقير أعلاه على المدى البعيد وخاصة في المرضى المصابين بالفصام.
منذ أن بدأت حركة نقل المصابين بالفصام من مصحات الصحة العقلية إلى المجتمع والطب النفسي في سعي لضمان رعاية هذه الشريحة البشرية من أعضائه. تم استحداث نموذج التأهيل Rehabilitation أولاً وتمت إضافة نهج نموذج الرعاية بالمريض من أجل توحيد جهود العاملين في الفريق الطبي النفسي لتقديم العون لمستخدم الخدمات من خلال منسق الرعاية Care Coordinator. أما في السنوات العشر الأخيرة فإن الطب النفسي بدأ باستخدام نموذج الشفاء Recovery Model وهذه خطوة كبيرة إلى الأمام من أجل دمج المريض النفسي في المجتمع الذي ينتمي إليه.
ليس هناك مفر من التزام الفريق الطبي النفسي بنموذج الشفاء الذي أصبح أشبه ببرنامج حكومي قانوني لابد من استعماله. هذا النموذج تم استحداثه من أجل العناية بمرضى الفصام حيث تتوقع الدولة توجيه 80% من ميزانية الطب النفسي نحو هذه الشريحة من المرضى، ولكنه كثير الاستعمال في جميع الأمراض النفسية وتزامن ذلك مع التخلص من ما يسمى بمستشفيات اليوم أو النهار Day Hospitals التي كانت تستقبل جحافل المرضى المصابين بالأمراض العقلية الجسيمة.
مع جميع هذه التغيرات بدأ البعض يتحدث عن التأثير السلبي للعقاقير المضادة للذهان التي تحرم الإنسان من وقود الدوبامين. هذا الحديث لا يخلو من الخطورة في دعوته لسحب عقاقير تلعب دورها في حصانة المريض من الانتكاس على المدى البعيد ولكنها أيضاً لا تساعد المريض على الشفاء التام أو ما يسمى الشفاء الوظيفي Functional Recovery . هذا الحديث يستند على تجارب فردية لبعض المرضى7 ودراسات غير منضبطة3 استنتجت بأن نسبة المرضى الذي يصلون إلى مرحلة الشفاء الوظيفي (40%) هم الذين لا يتعاطون عقاقير أو يتعاطون جرع قليلة على عكس الذي يتعاطون جرع علاجية (20%).
أما الخطورة الكبرى لمثل هذا النداء فربما تكمن في نشر مجلة اللانسيت3 Lancet الطبية لبحث حول الموضوع لا يمكن أن يوصي بأكثر من عمل دراسات منضبطة وتخصص مجلة نيو ساينتيست New Scientist الواسعة الانتشار مقالاً عن الموضوع7. سرعان ما ستنتشر هذه الدعوة وتبدأ المنظمات الخيرية وبعض من يعادي الطب النفسي1, 5, 6 بالصراخ بأعلى صوته.
يستحق بعض (وليس جميع) المرضى المصابين الحصول على فرصة لسحب العقار تدريجياً8 وتحت إشراف طبي وضمن إرشادات ولوائح متفقٌ عليها محلياً. من الأفضل العمل مع المريض من أجل هذا الهدف والحرص على استيعاب المريض وكل من يرعاه للعلامات المبكرة للنكسة Relapse signatures بدلاً من عدم الاستماع إلى طلب المريض واتخاذه القرار بسحب العقار رغم أنف الطبيب. هذه العملية تتطلب مراجعة دقيقة ومكثفة من قبل منسق الرعاية وتقييم المخاطر بصورة علمية.
أما الطب النفسي فعليه أيضاً مراجعة أوراقه حول اضطراب الفصام وفشله في العثور على جينات هذا المرض حتى يومنا هذا واتجاه علماء الوراثة نحو ربط جينات هذا الاضطراب مع الاضطرابات العصبية التطورية وأحياناً تحت مظلة الذهان العامة دون مظلة الفصام الخاصة.
هناك العديد من الأسباب لتعليل هذا الفشل وأولها استحداث تشخيصات متعددة يتم ربطها بالفصام بصورة غير دقيقة. هناك اليوم الاضطرابات الوجدانية الفصامية وهناك من يقول فصام مع عنصر وجداني وذهان غير معرف وغير ذلك. هذه الشرائح من المرضى تدخل البحوث العلمية وبعدها يحدث الارتباك في تعدد الجينات التي قد تفعل فعلها في هذا المرض العنيد والذي أصبح علماء الوراثة يصفونه برمال متحركة تتبلع من يخوض فيها. الممارسة الطبية النفسية هذه الأيام تكثر من استعمالها النظرية الموحدة للذهان Unitary Theory of Psychosis دون إدراك منها والذي لا يمكن وصفها بسوى نظرية لا تساعد المريض والطبيب على المدى البعيد وتؤدي دوماً إلى استعمال العقاقير بأنواعها دون الاستناد على أسس علمية سليمة.
أما جريمة الطب النفسي الكبرى فهي استعماله لعقاقير مضادة للذهان في اضطرابات غير ذهانية على المدى البعيد. ربما حان الوقت لمراجعة فعالية هذه العقاقير في مثل هذه الاضطرابات والحصول على استنتاجات سليمة بدلاً من حرمان الإنسان من وقود هو في حاجة إليه من أجل البقاء.
المصادر:
1- James, Adam (2 March 2008). Myth of the antipsychotic. The Guardian. Guardian News and Media Limited
2- Maglione, M, Maher A, Hu J, Wang Z, Shanman R, Shekelle P, Roth B; Hilton , Suttorp M, Ewing M, , Ewing B, Motala A, Perry B, Perry T(2011).Off-Label Use of Atypical Antipsychotics: An Update. Comparative Effectiveness Reviews, No. 43. Rockville: Agency for Healthcare Research and Quality.
3- Moirrison A, Turkington D, Pyle M, Spencer H, Brabban A, Dunn G, Christodoulides T, Dudley R, Chapman N, Callcot P, Grace T, Lumley V, Drage L, Tully S, Irving K, Cummings A, Byrne R, Davies L, Hutton P(2014). Cognitive Therapy for people with schizophrenia spectrum disorders not takin g antipsychotic drugs: a single – blind randomised controlled trial. Lancet. Eraly Online Publication, 6 February 2014.
4- Pinta E, Taylor R(2007). Quetiapine Addiction. Am J Psych 164: 174.
5- Whitaker R (2004). The case against antipsychotic drugs: a 50-year record of doing more harm than good. Med. Hypotheses 62 (1): 5–13.
6- Whitaker R(2013). Do antipsychotics worsen long-term outcome in schizophrenia?. Martin harrow explores the question. Mad in America. Science Psychitarty and community. March 26 2013. https://www.madinamerica.com/2013/03/do-antipsychotics-worsen-long-term-schizophrenia-outcomes-martin-harrow-explores-the-question/
7- Wilson C(2014). Rethinking Schizophrenia. New Scientist February 8-14, 2014. See editorial: Antipsychotic drugs are schizophrenia’ s hidden gulag.
8- NOTE: Group, BMJ, ed. (March 2009). "4.2.1". British National Formulary (57 ed.). United Kingdom: Royal Pharmaceutical Society of Great Britain. p. 192. "Withdrawal of antipsychotic drugs after long-term therapy should always be gradual and closely monitored to avoid the risk of acute withdrawal syndromes or rapid relapse.
واقرأ أيضًا:
هل الأدوية النفسية الجديدة باهظة الثمن أفضل؟! ×× / هل الأدوية النفسية باهظة الثمن أفضل؟! مشاركتان / لماذا لا يناسبني الدواء؟ / العقاقير النفسية والحمل
التعليق: نشكر الدكتور سداد لمتابعة مواضيع تمس حياة المرضى وخصوصاً الأدوية ,بالفعل قد يضطر المريض إلى قطع الدواء رغم أنف الطبيب لأن الأعراض الجانبية لا يمكن احتمالها, ولربما تدخلك لجحيم جديد غير متاعبك, بالنسبة لعقار السيروكيل فقد أصبح تعاطيه كمنوم دارجا بين الشباب كمنوم .