ارتفعت الأصوات الإسرائيلية التي تُنادي "بحق اليهود في العودة إلى أرض (إسرائيل) التاريخية"، وأنه قد آن الأوان "لإنصافهم، وتعويضهم عما أصابهم ولحق بهم عبر التاريخ"، فما أصاب الشعب اليهودي من مآسي وأحزان، وما قد تعرضوا له من كروبٍ وخطوب، ومذابح ومجازرٍ على أيدي الدول التي سادت، يجعل منهم الشعب الأكثر محنةً وابتلاءً، والأجدر بأن يُنظر إليه بعين الرأفة والرحمة..!!
وعليه فإنهم يرون أن من "حقهم" أن يستعيدوا حقهم الضائع، ويستردوا مجدهم القديم، ويُعيدوا بناء مملكتهم في "أرض الميعاد"، "التي اختارها لهم الرب"، وباركها لهم نبيهم يعقوب، الذي انتزع من الرب البركة، له ولذريته من بعده، ونال منه وعداً بأن يُسكنهم الأرض المقدسة، وألا يحرمهم منها، وألا يُمكن لأعدائهم فيها، وأن تكون لهم وطناً ومعبداً، وهيكلاً ومملكة، يشعرون فيها بالأمان، ويعيشون عليها بسلام، لكن شرط أن يقسى قوسهم، وتُبرى سهامهم، وتطول رماحهم، ويُحد سيفهم، ويُشدُ على مقبضه فلا يسقط من يدهم..!!
يرى الإسرائيليون اليوم أن عودهم قد اشتد، وأن سلاحهم قد أصبح ماضياً، ولن يسقط من أيديهم، وأن قوتهم باتت أصعب من أن تُهزم وتُدحر، لهذا فإنهم يرون أن من السهل عليهم أن يجهروا برغبتهم، وأن يُعلنوا عن هدفهم، وأن يبدأوا إجراءات الانتقال والرحيل، من كل أقاصي الدنيا إلى "أرض الميعاد"، إذ أن فلسطين بزعمهم هي أرض (إسرائيل)، وهي أرض كل اليهود، الذين هجروها وإن كانوا نُطفاً في الأصلاب، أو غرساً في الأرض، أو قطراً في السماء، فإنها تبقى موطنهم، ومن "حقهم" العودة إليها وقتما شاؤوا، ولا يحق لأحدٍ أن يعترض عليهم، أو يمنعهم من تحقيق رغبتهم..!!
هذه ليست أفكار (أفيغودور ليبرمان) وحده، فليس هو المعتوه الوحيد في الكيان الصهيوني، وإن كان هو الأكثر جُرأة، والأعلى صوتاً، والأهوج رأياً، والأقل كياسة، والأبعد عن الدبلوماسية، لكنه واضحٌ وصريحٌ، ويتحدث بلسان الكثير من اليهود، سواء الذين يقطنون فلسطين، أو الذين يعيشون خارجها، فإنه ينطق باسمهم، ويُعبر بلسان حالهم، ويتبجح بمواقفه، مطالباً العالم أن يؤيدوا تطلعاته، وأن يؤمنوا بآماله، وأن يُمكنوه وشعبه من تحقيقها، وأن يقفوا في وجه كل من يعترضهم، أو يُنكر حقهم، أو يتطاول على "وطنهم"، ويُنكر "حقهم" فيه، مدعياً أنهم "أصحاب الحق"، وملاك الأرض والوطن والمقدسات..!!
وليعلم العرب أن الإسـرائيليين لن يكتفوا بالاعتراف العربي والإسـلامي بيهوديـة كيانهم، بل إنهم سـيُطالبون الدول العربيـة بتعويض اليهود الذين تركوا بلادهم العربيـة، وانتقلوا للعيـش في الدولـة العبريـة، وسـيجدون أنفسـهم قريباً مطالبين من دول العالم، وأمام الهيئات القضائيـة الدوليـة، ومؤسـسـات القانون العام، بالتعويض المضاعف لليهود العرب عن معاناتهم، وعن ممتلكاتهم وحقوقهم التي تركوها في بلادهم الأصليـة، وسـيُحملون العرب المسـؤولية الأخلاقيـة عن رحيل اليهود، الذين أصبحوا فيما بعد جنوداً في الجيـش الإسـرائيلي، وشـاركوا في قتل مواطنيهم العرب، والتنكيل بهم..!!
وكانت وثيقة رسمية إسرائيلية، قد قدرت اليهود الذين تركوا الدول العربية، بنحو 800 ألف يهودي، ورأت أنهم يستوفون شروط التعريف القانوني للاجئين، ووصفتهم بأنهم اليهود الذين تركوا العالم العربي بين نوفمبر1947م وحتى عام 1968م.
وتقول الوثيقة أن اليهود تركوا كثيراً من المقتنيات في دول عربية وإسلامية، وأُجبروا على الهجرة منها عُنوة تحت ضغوط كبيرة، وتُقدر الوثيقة قيمة الممتلكات التي خسرها اللاجئون الفلسطينيون بنحو 450 مليون دولار عند ترحيلهم، وتُقدر قيمتها الحالية بنحو 3.9 مليار دولار، أما اليهود فقد خسروا ما قيمته 700 مليون دولار، أي نحو ستة مليارات دولار الآن..!!
لا نستغرب أن يُثار في هذا الوقت بالذات، وجوبُ الاعتراف بيهودية الدولة العبرية، فهذا مطلبٌ عقديٌ ديني قبل أن يكون مطلباً سياسياً أو قومياً، فقادة الكيان الصهيوني يريدون بهذا الاعتراف الصريح والواضح، والعلني والرسمي، من الفلسطينيين والعرب والمسلمين، أن يُشرعوا كيانهم، وأن ينتزعوا الاعتراف الرسمي به، وأن يحفظوا حق اليهود وأجيالهم مهما تأخرت، في العودة إلى أرض فلسطين والإقامة فيها، وفي الوقت نفسه، فإنهم يتطلعون إلى تجريد الفلسطينيين والمسلمين من حقهم في فلسطين، وأن ينزعوا عنهم دعواهم فيها، بأنها لهم وطناً وقبلةً أولى، وأقصى ومسرى، ويريدون من العرب والمسلمين أن يعترفوا لهم فيها بأنها لهم وطناً وهيكلاً، وأنها أرض الممالك وبلاد أنبياء وملوك بني (إسرائيل)..!!
إن الجريمـة الكبرى سـتكون إذا أصغينا لهم السـمع، وقبلنا منهم التفاوض، وأبدينا الإسـتعداد للتفاهم، وجلسـنا وإياهم على طاولـة الحوار لنجد حلاً وسـطاً، أو صيغـةً مقبولـة، فإننا بهذا نوافق على ادعاءاتهم، ونقبل بخرافاتهم، ولا نعترض على ممارسـاتهم القاضيـة بطرد العرب، وتنفيذ حلم الـ (ترانسـفير) القديم، بإخراج من بقي من الفلسـطينيين في أرضهم بالقوة، وإكراههم على الرحيل والمغادرة، بعد أن تُقر قيادتهم بأن هذه الأرض يهوديـة، وأن هذه البلاد هي لليهود فقط، فلا عيب على الإسـرائيليين إن هم قاموا بطرد غير اليهود منها، أو طالبوهم بالرحيل عنها..!!
حذاري على الفلسطينيين من أن يُقدموا على هذه الخطوة، أو يُفكروا في القبول فيها، وعلى العرب جميعاً أن يُحصنوا الحق الفلسطيني، وأن يحولوا دون ضعفه، فلا يتركوا الإسرائيليين يتغولون بقوتهم على الفلسطينيين، ولا يسمحوا لهم بالتأثير عليهم، أو التفرد بهم، وفرض الرأي عليهم، فهذا ليس حقٌ للفلسطينيين وحدهم، بل هو شأنُ العرب والمسلمين، وعليهم جميعاً أن يُقرروا فيه رفضاً للأحلام الإسرائيلية، ودحضاً للأفكار اليهودية.
إن القبول بطرحهم خيانةٌ وطنية، وكفرٌ ديني، وهي جريمةٌ كبيرة، بل هي أم الجرائم وأقبحها، فهي البيع الحقيقي لفلسطين، وهي صك التنازل الشرعي عنها، وهي خيانةٌ للأجيال التي مضت، وتلك التي أعطت وضحت، وصبغت الأرض بدمها، وطهرت برفاتها ثراها، وعبقت بروحها سماءها.
بيروت في 17/2/2014
واقرأ أيضاً:
فلسطين بين بلفور وأوباما/ الحياد الفلسطيني والقرار المستقل/ إيلات تتخوف وتل أبيب تتوجع/ الربيع الإسرائيلي والخريف العربي/ الأزمات العربية والوساطات الغربية/ من تنغير إلى القدس بعيونٍ مغربية/ هواجس سُكانية إسرائيلية!