تختلف محددات السلوك الانتخابي من مجتمع لآخر، وحتى في المجتمع الواحد تختلف من ظرف زمني لآخر، ولهذا تتغير توجهات الرأي العام نحو أشخاص المرشحين وبرامجهم طبقا للحالة النفسية والحالة السياسية التي يعيشها الناس. وقد كان السبق لمعهد جالوب الذي أنشئ خصيصا لقياس توجهات الرأي العام وقراءة محددات السلوك الانتخابي في المجتمع الأمريكي، وقد قام بإعداد 7000 تقرير في الفترة من 1935 – 1971 م.
وفي مصر كانت هناك محاولات لدراسة السلوك الانتخابي قام بها الدكتور محمود أبو النيل وغيره بداية من السبعينات من القرن الماضي، وحاليا ما يقوم به مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء وما يقوم به مركز بصيرة الذي أنشأه الدكتور ماجد عثمان قبيل الانتخابات الرئاسية التي أعقبت ثورة يناير في مصر.
وكلما اتسمت القياسات والدراسات والتقارير بالحيدة والنزاهة والتحرر من الاستقطابات السياسية كلما كانت تنبؤاتها وتوقعاتها أقرب للحقيقة، ولكن للأسف الشديد قد تخضع الدراسات المختصة بقياسات الرأي العام للأهواء والتوجهات والضغوط السياسية، بل قد تستخدم للإيحاء بقوة مرشح أو تيار ما وضعف آخر للتأثير في الرأي العام وتوجيه تفضيلاته وخياراته.
وحتى لا نغرق القارئ في تفصيلات علمية مرهقة بعرض نتائج دراسات السلوك الانتخابي في المجتمعات المختلفة نكتفي بعرض توجهات المصريين في اختياراتهم الانتخابية خاصة فيما يتعلق بالرئيس:
1 – يندر أن يختار المصريون رئيسهم على أساس برنامجه الانتخابي، فالكثيرون منهم لا يهتمون بقراءة هذا البرنامج، وحتى من يقرأه منهم يكون لديه انطباع بأن هذا ليس ببرنامج وإنما هو مجموعة وعود وأماني يسوق بها المرشح نفسه (أو يسوقه بها أنصاره ومحاسيبه ومجاذيبه ومهاويسه ومريدوه) وسينساها بمجرد جلوسه على كرسي السلطة.
2 – يغلب على توجهات المصريين نحو المرشح مسألة الانطباعات الشخصية، والتي تتصل بشكل المرشح وطريقة أدائه الخطابي، ومدى تأثيره في مشاعر الجماهير وقدرته على لمس أحاسيسهم الوطنية أو الدينية ومهارته في تدليك نرجسيتهم وإشعارهم بقيمتهم وعظمتهم التاريخية والحالية (ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد، نحن أبناء حضارة 7000 سنة، أخلاق القرية، أهلي وعشيرتي، مصر أم الدنيا وهاتبقى قد الدنيا).
3 – يلعب التعصب الديني (مع أو ضد) دورا مؤثرا في اختيار المرشح فقد يختار بعضهم مرشحا لأنه يحقق تصوراته الدينية (أو اللادينية) ويقترب منها، وقد يرفضه لأنه يحقق عكسها بصرف النظر عن البرنامج السياسي، ولذلك نشأ ماعرف باسم تيار الإسلام السياسي واستطاع أن يحصد أصواتا كثيرة بعد ثورة يناير في استفتاءات وانتخابات مجلس شعب وشورى ورئاسة جمهورية، مما دفع التيار المناوئ له من الليبراليين والعلمانيين والقوميين والناصريين والعروبيين واليساريين إلى التجمع (رغم ما بينهم من خلافات) واستنفار الجماهير لقلب المعادلة السياسية وتحويلها في الاتجاه المضاد للتيار الديني السياسي.
4 – يميل كبار السن إلى اختيار المرشح التقليدي المحافظ الذي ينتمي إلى مؤسسات الدولة القديمة (أو العميقة أو العويصة) حيث يعتبرونه أقرب لتحقيق الاستقرار واستمرار الأحوال والسياسات التي ألفوها وتأقلموا معها (اللي نعرفه أحسن من اللي مانعرفوش) حتى ولو كانوا يعانون منها أو ينتقدونها.
وهم يدعمون من يمثل في نظرهم السلطة الأبوية ويفضلون الأكبر سنا، ويقدرون الرئيس القادم من المؤسسة العسكرية، بينما يميل الشباب إلى عكس هذه التوجهات فيرفضون من يلوح بالسلطة الأبوية أو السلطة الدينية أو السلطة العسكرية بل قد يرفضون فكرة السلطة من الأساس ويبحثون عن نماذج أكثر اقترابا من الحرية والحداثة والديموقراطية وأكثر تعبيرا عن التغيير الجذري في أنماط الحياة ويقبلون المخاطرة بالتغيير. وهناك فئة من الشباب تميل إلى الخيارات التعصبية المشبعة بالتوجهات الدينية أو الفكرية أو الفلسفية المثالية.
5 – تميل النساء إلى المرشح الذي يعطيهن الإحساس بالأمان والاستقرار والأهمية ويداعب عواطفهن بالكلمات الحانية ويستخدم طبقات صوت منخفضة خاصة لو كان وسيما.
6 – ثمة علاقة بين المستوى الاجتماعي والاقتصادي وبين مواصفات المرشح وتوجهاته، فالمستويات الأعلى تميل إلى المرشح الذي تتوقع أن يحافظ على مصالحها ومكتسباتها بصرف النظر عن مسألة المبادئ والقيم التي يتحلى بها ذلك المرشح، فهم يتصرفون بشكل براجماتي بعيدا عن المثاليات والشعارات.
أما المستويات الدنيا اقتصاديا واجتماعيا فهي تهفو لصورة البطل والزعيم الكاريزمي المخلص وتتلهف للشعارات التي تتحدث عن المساواة والعدالة الاجتماعية، وتعشق المرشح الشامخ والمتواضع في ذات الوقت (أو المتظاهر بالتواضع)، وتميل لمن يظهر قوة وحزما وبطشا وبأسا، وتعتبره رجلا "ملو هدومه وقد كلمته".
أما الطبقة المتوسطة فهي كتلة متحركة تتأثر كثيرا بالدعاية الإعلامية والإعلانية وتميل لاختيار المرشح الذي يبدو أن عليه اتفاقا أو شبه إجماع بصرف النظر عن مواصفاته، وقد تقوم بتصويت عقابي أو تصويت دفاعي أو تصويت تحت تأثير الخوف.
7 – يخشى الأقباط المرشح الذي يرفع شعارات دينية أو ثورية، ويميلون أكثر لمرشحي الدولة الرسمية التي ألفوها (حتى ولو كانوا يعانون من بعض سياساتها)، فهم يخشون إثارة النزعات الدينية في الفضاء السياسي، ويخشون التمييز العنصري ضدهم، ويخشون التغيير المفاجئ أو الحاد الذي لا يضمنون عواقبه، ولا يأمنون لتيار الإسلام السياسي مهما كانت وعود رموزه أو بعض رموزه.
8 – يتجه المنتفعون وأصحاب المصالح ورجال الأعمال (المسيطرون على المال والإعلام في الوقت الحالي) إلى تأييد المرشح الذي يضمنون معه استمرار مصالحهم ومشاريعهم ويضمنون إمكانية السيطرة على توجهاته والاستفادة منه ويضمنون الدائرة المحيطة به ويطمئنون إلى أنه سيسير على ما سار عليه السابقون الذين ألفوهم وعرفوا مداخلهم.
9 – تلعب النخبة المثقفة على الحبال، فبينما تظهر في أحاديثها المعلنة ميلا لمبادئ مثالية عن الحرية والديموقراطية والحداثة والمدنية والمساواة والعدالة الاجتماعية، إلا أنها عند الاختبار الحقيقي تتوجه بوصلتها نحو من يحقق لها مصالحها الشخصية والذاتية، ويلعب الجانب العنصري الفكري دورا مؤثرا في تحيزاتها.
10 – وأخيرا يلعب الخوف والقلق دورا مهما في خيارات الناس الانتخابية خاصة في فترات التحولات الكبرى حيث السيولة السياسية والاجتماعية والتغيرات الحادة عقب الثورات، ولهذا يلعب القائمون على الأمور والموجهون للرأي العام والمتلاعبون بالعقول والمشاعر عبر الإعلام على وتر الخوف والقلق فيشيعون أن ثمة مؤامرات ومخططات تحاك ضد البلاد، وأن قوى الإرهاب الخفية والظاهرة تهدد بقاء واستمرار كيان الدولة ولقمة العيش والحياة نفسها، ويجري تضخيم تلك المخاوف بالإلحاح الإعلامي لأقصى درجة ممكنة.
وفي هذه الأجواء المخيفة القلقة يتلهف الناس على المرشح الذي يلوح بقدرته على منحهم الأمان والاستقرار، ويرضون بالوعد بتحقيق احتياج الأمن مقابل التضحية باحتياجاتهم الأخرى في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
واقرأ أيضاً:
الزعيم الملهم/ الأثر النفسي للقفص الزجاجي/ التقييم النفسي لمرشحي الرئاسة/ المصريون في قفص السياسة/ السيسي حزينا/ الاستبداد صناعة الحاكم والمحكوم/ فوبيا المعارضة!