لقد سقطت أنظمة حكم في أكثر من بلد عربي, ولم تستقر بعد أنظمة بديلة, ونحن على أعتاب انتخابات رئاسية جديدة في مصر وفي بلدان عربية أخرى نحتاج أن نعي دروس الماضي حتى لا ندخل في دورات استبدادية جديدة حيث ثبت تاريخيا إصابة المجتمعات العربية بفيروس الاستبداد المزمن, ولم تفلح الثورات المتعددة في علاجه حتى الآن.
والسؤال الآن: هل توجد أنماط شخصية معينة تميل إلى السلوك الاستبدادي؟، وهل توجد قابلية لدى بعض الشعوب لأن تتعرض للاستبداد أكثر من غيرها؟
نعم, فدراسة حياة مشاهير المستبدين على المستويات المختلفة تؤكد وجود أنماط شخصية معينة تميل إلى السلوك الاستبدادي خاصة إذا واتتها الظروف, ومن هنا تصبح معرفة هذه الأنماط مهمة للوقاية من السلوك الاستبدادي ومن المستبدين. ونذكر من هذه الأنماط الشخصية ما يلي:-
1- الشخصية النرجسية: صاحب هذه الشخصية لديه شعور خاص بالأهمية وبالعظمة ويبالغ في قيمة مواهبه وقدراته وإنجازاته ويتوقع من الآخرين تقديراً غير عادي لشخصه وملكاته وإنجازاته المبهرة في نظره وهو يعتقد أنه متفرد في تكوينه وفي أفكاره ويحتاج لمستويات عليا من البشر كي تفهمه وتقدره, ويحتاج للثناء والمدح الدائم والتغني بجماله وكماله وأفكاره وبطولاته الأسطورية وتوجيهاته التاريخية ومواقفه العظيمة غير المسبوقة؛
وهو لا يشعر بالتعاطف مع الآخرين ولا يتفهم احتياجاتهم بل يريدهم فقط أدوات لتحقيق أهدافه وإسعاده وبلوغ مجده وهو أناني شديد الذاتية ويسعى طول حياته ليضخم هذه الذات التي يعتبرها محور الكون, وربما ينجح في الوصول إلى مراكز عليا في الحياة بسبب إخلاصه الشديد في تحقيق ذاته ورغبته في التميز والاستعلاء على الآخرين, ويسعى لأن يحصل على أوسمة ونياشين وألقاب علمية أو وظيفية أو سيادية ليثبت بها تفرده.
2- الشخصية البارانوية (الزورانية): تدور هذه الشخصية حول محور الشك وسوء الظن, فصاحبها لا يثق بأحد ويتوقع الإيذاء من كل الناس ولا يأخذ أي كلمة أو فعل على محمل البراءة بل يحاول أن يجد في كل كلمة أو فعل سخرية منه أو انتقاصاً من قدره أو محاولة لإيذائه, ولهذا نجده دائم الحذر من الآخرين, لا يهدأ ولا ينام, ويكافح طول عمره ليقوي ذاته ويحمي نفسه من الآخرين «الأعداء دائماً وأبداً»؛
وهذا الشك والحذر وعدم الولاء للناس يدفعه للعمل الجاد والشاق لكي يصل إلى المراكز العليا في مجال تخصصه, وهو حين يحقق ذلك يمارس السيطرة والتحكم في الناس الذين يحمل لهم بداخله ذكريات أليمة من السخرية والاحتقار والإيذاء وبما أنه لا يسامح أبداً ولا ينسى الإساءة لذلك فهو يمارس عدوانه على من تحت يده انتقاماً وإذلالاً, ويحقر كل من دونه كراهية ورفضاً.
3- الشخصية الوسواسية: والشخص الوسواسي يميل إلى الدقة والنظام والصرامة والانضباط ولا يحتمل وجود أي خطأ, وهو فوق ذلك عنيد ومثابر إلى أقصى حد, ولهذا يميل إلى أن يتأكد من كل شيء بنفسه ولا يثق في أحد لأنه يعتبر الآخرين عشوائيين وغير منضبطين وأنهم سوف يفسدون الأمور التي توكل إليهم, لذلك نراه إن كان والداً أو مسئولاً يريد أن يستحوذ على كل شيء في يده ويتابع كل شيء بنفسه ولا يترك لأحد فرصة للتعبير عن نفسه أو تحمل مسئولياته, فالآخرون في نظره غير جادين وغير دقيقين وغير صارمين مثله وهم يحتاجون دائماً للوصاية والتوجيه والتحكم, فهم في نظره أطفال عابثون يحتاجون في النهاية لمن يضبطهم ويوجههم وإلا فسدت كل الأمور.
4- الشخصية السادية: وهو الشخص الذي يستمتع بقهر الآخرين وإذلالهم والتحكم فيهم وكلما شاهد الألم في عيونهم استراح وانتشى وواصل تعذيبهم وقهرهم ليحصل على المزيد من الراحة والنشوة.
أما المستبد بهم (المقهورون) فيمكن أن يكونوا أناساً ذوي سمات متباينة ولكن يغلب أن يكون لديهم سمات ماسوشية بمعنى أن لديهم ميلا لأن يتحكم فيهم أحد وأن يخضعوا له ويسلموا له إرادتهم ويستشعروا الراحة وربما المتعة في إيذائه لهم وإذلاله إياهم, فلديهم مشاعر دفينة بالذنب لا يخففها إلا قهر المستبد وإذلاله لهم على الرغم مما يعلنون من رفضهم لاستبداده. وهؤلاء المستعبدون ربما يكون لديهم معتقدات دينية أو ثقافية تدعوهم إلى كبت دوافع العنف وتقرن بين العنف والظلم وتعلي من قيمة المظلوم وتدعو إلى التسامح مع الظالم والصبر عليه وترى في ذلك تطهيراً لنفس المظلوم من آثامه.
والشخصيات المستعبدة لديها شعور بالخوف وشعور بالوحدة لذلك يلجئون إلى صنع مستبد ليحتموا به ويسيروا خلفه ويعتبرونه أباً لهم يسلمون له قيادتهم وإرادتهم ويتخلصون من أية مسئولية تناط بهم فالمستبد قادر على فعل كل شيء في نظرهم, وفي مقابل ذلك يتحملون تحكمه وقهره وإذلاله ويستمتعون بذلك أحياناً.
إذن فالمستبد ليس وحده المسئول عن نشأة منظومة الاستبداد ولكن المستعبدين (المستبد بهم) أيضاً يشاركون بوعي وبغير وعي في هذا على الرغم من رفضهم الظاهري للاستبداد وصراخهم منه أحياناً. ولا تزول ظاهرة الاستبداد عملياً في الواقع إلا حين تزول نفسياً من نفوس المستعبدين حين ينضجوا ويتحرروا نفسياً ويرغبون في استرداد وعيهم وكرامتهم وإرادتهم التي سلموها طوعاً أو كرهاً للمستبد, حينئذ فقط تضعف منظومة الاستبداد حتى تنطفئ, وليس هناك طريق غير هذا إذ لا يعقل أن يتخلى المستبد طواعية عن مكاسبه من الاستبداد خاصة وأن نمط شخصيته يدفعه دفعاً قوياً للمحافظة على تلك المكاسب الهائلة.
واقرأ أيضا:
باقة من الأمهات / جنون الحشيش / قوة التسامح