هل تعلمون باالله عليكم أين يداري الواحد كسوفه؟!
الأستاذ أدهم زميلي في المصلحة الحكومية التي نعمل بها، كان في الأصل رجل ليس عنده أدنى ضمير، يدك منه والأرض. من شهر واحد فقط تبدلت أحواله. أعفى لحيته، والمسبحة لم تعد تفارقه، وعند كل صلاة يطالعني بغيظ:
(إلى متى هذه العيشة الحرام التي تعيشها؟ قم صلي..خلي ربنا يرضى عليك)
أتعمد الانهماك في العمل، ولا أرد عليه، فيغتاظ أكثر وأكثر وينصرف وهو يتمتم ويحسبن عليَّ وعلى قلة ديني. ربكم والحق أنا راجعت نفسي بعدها، قلت (حقا، لماذا لا تصلي يا ولد يا عبد التواب؟) سبعة عشر سنة وأنت في وظيفتك هذه لم تصل الظهر يوما، ويادوب تخرج من هنا، فتذهب إلى عملك الآخر، ولا تؤدي فرضا، اللهم إلا يوم الجمعة، يشدوك العيال من يدك شدا، ويجرجرونك كي تذهب إلى المسجد، فتتحجج معظم الأوقات بأي شيء كي تنام.
أيضا فاطمة زوجتي تصلي الفرض بفرضه وتدعو لي بسعة الرزق والهداية، ولكن لم يخب أحد خيبتي. قلت لنفسي، يا ولد يا عبد التواب، توكل على الله وامش على الصراط المستقيم، لم يبقى من العمر أكثر مما مضى، كيف تقابل ربك وتقف بين يديه وأنت كلك ذنوب هكذا. فعزمت أمري وتوكلت على الله..
وفي اليوم التالي، قبل أن يكشر لي الأستاذ أدهم ويلوي بوزه، تركت كل شيء، وقلت له: هيا نصلي الظهر، ولا أعلم لماذا اغتاظ هكذا فجأة وتبدلت ملامحه، رغم أنني توقعت أن الأمر سوف يسره؟! ولما انتهينا من الصلاة، انفرج فمه عن ابتسامه صفراء يملؤها التهكم، وقال: صلاتك هذه لا تنفع ولا تشفع. قلت له بحسرة وندامة: لم يا شيخ؟!
قال لي: أنت تصلي بسرعة، كما لو كنت تهرب من شيء. لابد أن تعطي لكل ركن حقه، تركع حتى تطمئن راكعا، وتقف حتى تطمئن واقفا، وهكذا..
ورغم أنني صليت كما ينبغي، رضخت لكلامه، فهو أكثر إيمانا وأغزر مني علما، وقلت له بمرارة مفقوعة وريق ناشف: علمني ! فتهللت أساريره، وقال: بعد انتهاء العمل، نأتي إلى المسجد وأعلمك الصلاة..
على بركة الهادي توضئت كما رأيته يتوضأ، ولكني لم أفهم الغمغمة التي غمغمها وهو يغسل زراعه الممتليء بالشعر، فغمغمت وحسبنت وتلوعت مثلما يفعل. أخذ بعدها يشرح لي كيفية الصلاة فاستويت قائما وراكعا كما يقول بالضبط. ولا أعلم أين ذهب عقلي وشرد، فتحمست كثيرا فالفرق بين الجهل والعلم كبير، وفي الركعة الثانية بكل عزمي ركعت ركوعا أكثر مما ينبغي وإذا به بنطلوني القماش العتيد ينفشخ من المنتصف. طقطق قلبي مع صوت الخيط المتمزق، وحينها سمعت صدى قهقهة يدوي في المسجد، والهواء يتلوى بين فخذيّ العاريتين.
*********
للرجل الواقف في الكشك الخشبي ويعتمر تلفيعة زرقاء غريبة كأنه ذاهب للحقل، قلت برجاء: يا حج ..عندك إبره وخيط؟! لوى لي بوزه هو الآخر ثم نظر إلى علب البسكويت والشيكولاته التي أمامه ولم يرد، فما كان مني إلا أن سحبت تليفونه المحمول المربوط بسلسلة تتدلى داخل الكشك، وطلبت النجدة من أم العيال التي لم تفهم جل ما قلته إلا أنني واقع في ورطة كبيرة، ثم نقدته نصف جنيه قابع بخبث في قعر جيبي، وانتظرت..
تمر الدقيقة كأنها ساعة، والساعة كأنها دهر ولا تأتي الولية بنت الفقرية التي أسميتها بطه، فإذا هي مغلقة الفهم مثل دجاجة، هل سمعتْ ما قلته جيدا؟ هل ستأتي أم سأقف هنا حتى يبان لي صاحب، ومر نصف قرن وربما قرنان وإذا بالدنيا تضيق وتسوّد في وجهي حينما أتذكر أنني تأخرت عن موعد عملي الآخر. وتخيلتني مطرودا شر طرده، وبينما أنا غارق في أقساطي وديوني وفقري المدقع وتدبير ثمن بنطلون جديد إذا بأحد أقاربي الظرفاء قد انشقت الأرض ولفظته أمامي.
-ماذا تفعل هنا يا عبد التواب. هل تشتري شيكولاته؟! كدت أقبل تراب الأرض تحت قدميه حتى يتركني ويمضي لحال سبيله قبل أن يلحظ حالي المايل ومآلي الفاضح، فمضى بعد أن توعدني بزيارة قريبة ينهي فيها سجائري، ثم تداريت خلف الكشك حتى يأتيني الغوث ولا يأتيني ظريف آخر، وبينما أنا على هذه الحال لحظت وجود حقيبة مائلة أمامي على جنبها مثل حالي المايل، وحينما فتحتها وجدت ما لذ وطاب وتعمر له الجيوب، وإذا بروحي ترد إليّ، فقد فتحت لي طاقة القدر أخيرا في ساعة رضا، وإذا بالمفعوص ابني واقف أمامي وبيده بنطلون البيت العتيق الآخر !
*********
عشرون ألفا من الجنيهات بالتمام والكمال، عددناهم مرة تلو الأخرى بعد أن شهقت فاطمة زوجتي في وجهي وكادت تشق ملابسها للمال الحرام الذي أدخلته عليها، لكني أقنعتها أن هذه الحقيبة سوف تظل أمانة عندنا حتى يظهر لها صاحب، ولا يجب أن نتحدث في الأمر حتى لا يطمع فيها أحد، وظلت الحقيبة مركونة فوق دولابنا المتهالك شهرا بالتمام والكمال يكسوها الغبار، ولأن الشيطان آمر بالسوء والفقر أمير الخطايا، بدأنا نسحب منها ما يسد الرمق، وواحدة بواحدة اشترينا ثلاجة، وتلفزيون ملون، وملابس داخلية، وتفاحا وموز وأصلحنا صنابير المياه، وكسونا العيال، واشتريت بنطلونا لنفسي وحذاء لفاطمة، وعز من قال خذ من التل يختل، طارت النقود وتبخرت ولم يتبقى لدينا سوى حقيبة فارغة.
وفي الجمعة التالية كنت أرتدي جلبابا أبيضا جديدا وبيدي الأولاد، وأنا أشدهم من أيديهم هذه المرة، بعدما علمت أين يداري الواحد كسوفه، وإذا بالشيخ أدهم زميلي في المصلحة الحكومية التي نعمل بها، الذي سبق وتحسبن علي وعلى قلة ديني ثم قهقه وتركني محتاسا، ها هو واقف فوق المنبر الخشبي هذه المرة يشخط وينطر فينا ويحدثنا عن الأمانة..فماذا أنا فاعل؟!
واقرأ أيضاً:
أكل العيش / في كل شوك وردة! / أحزان هذا المساء / النداهة / تغيّرنا ! / الذي لابد منه / أنا شخصٌ جميل لا يشبهني!