بحثت عن كلمة تعبر عن حالة العالم العربي في غياب الوعي، والتنمية الإنسانية الحقيقية، والعدالة الاجتماعية.. حتى في دول الوفرة، ولم أجد غير البؤس.. لأن في هذا العالم تتوافر ثروات طبيعية وبشرية ضخمة، كما توافرت مؤخرا فرص التحرر من الطغيان، لكن التمسك بالبؤس ما يزال هو المشهد الغالب حيثما وليت وجهك، مما يعني أن له بنية تحتية عميقة، ومتجذرة!
في تشيلي، حكم بينوشيه 17 سنة، وبينما أصبح حكمه رمزاً للقمع في العالم، أذعنت نسبة كبيرة من المواطنين لفكرة أنه الوحيد الذي يحول بينهم وبين عالم الفوضى! في الأرجنتين أيضاً، وافق كثير من المواطنين العاديين على كل أفعال وأقوال المؤسسة العسكرية، وتجاهلوا أبشع جرائم القتل التي وقعت معتقدين أنها ضرورية، وفي نفس الحقبة الزمنية،
وقعت فظائع مماثلة تحت ستار محاربة الشيوعية في دول مجاورة هي أورجواي وبراجواي وبوليفيا والبرازيل وأيضاً تشيلي، حيث تعاونت المؤسسات العسكرية في برنامج سري يدعى "العملية كوندور". وعندما انتهى هذا البرنامج، كان عشرات الآلاف قد لقوا حتفهم.
وفي ضوء ما يجري في مصر يتبين لي أن للديكتاتورية والسلطوية ميزات تدفع أنصارا لهما بالملايين إلى إعادة إنتاجهما، ولو بكلفة باهظة، ولا يكفي في تفسير مسلكهم ما يقال عن مصالحهم وامتيازاتهم في ظل الفرعون، لأن أغلبهم يظلون مجرد عبيد!!
لكن يبدو أن هذه العبودية المختارة تبدو أقل كلفة في ممارسة مقتضياتها من اختيار الحرية، والمسئولية، والوعي، والمشاركة، وقبول الغير!
يستطيب الكسول المتقاعس أن أحدا يتحمل عنه الأعباء، ولو بالكلام المعسول، والوعود الفارغة، ويستطيب الأحلام والأوهام بمستقبل مشرق، وآمال عريضة يحققها له الزعيم، أو تنجزها الجماعة، أو الطائفة، أو القبيلة، أو العائلة الحاكمة.. بينما ينشغل هو بالحرث والنسل وأنواع الترفيه، والاستهلاك!
كل عمل حقيقي، أو إنجاز حقيقي يحتاج إلى وعي.. وهو صعب، وأغلبنا لا يحب الصعوبة، ولا يتحمس للمصاعب، وإن كانت طريقا لمجد حقيقي نتركه حلالا لغيرنا، ونبحث نحن عن الراحة والسهولة، ولو في البؤس والغيبوبة!
البحث عن الحقائق هو عمل شاق، والصدق قليل.. مرحبا بالأكاذيب إذن، الحوار مع الغير يحتاج إلى نضج ووقت ومرونة، العداء أسهل، والكراهية متوافرة دون عناء، ودون كبح للمشاعر العدوانية، لماذا نكبحها ونتعب أنفسنا؟؟
ما أسهل أن يستسلم الناس لمن يقول لهم كيف يتصرفون؟؟ ويحدد لهم من هو الصديق، ويحارب من يحدد أنه العدو
في العبودية المختارة إجابات سهلة على أسئلة كثيرة معقدة يعيشها الناس أفرادا ومجتمعات في عالم متغير يموج بالأسئلة، فلماذا لا نلجأ إلى جبل نتوهم أنه سيعصمنا من الماء مثل ابن نوح.. عليه السلام!!
أدرس للطلبة مقرر علم النفس وفي درس عن التعليم نقلت لهم أن له ثلاثة طرق كبرى:
التجربة والخطأ: وتعتمد على تكرار المحاولة باستمرار.. حيث تنجح أحيانا، ومن نجاح المحاولة، كما من فشلها.. يحصل التعلم.
البرمجة: وهي أبسط وأسهل الطرق حيث يتم ربط المؤثرات وردود الأفعال ربطا شرطيا مسبقا ومحددا بتحكم كامل.
المراقبة والبصيرة: وتتضمن القدرة على فهم واستخدام الخبرات الذاتية السابقة، واستعراض تجارب وخبرات الآخرين، وإيجاد العلاقات بين المفاهيم والتجارب لاستخلاص أفكار وحلول جديدة.
في ثقافة لا تحترم الخطأ، ولا تحتفي بالتجريب، وبدلا من متعة التقليب في موارد الذات وخبرات الآخرين للتعلم، وليس للاستنساخ.. نستسهل الإجابات الجاهزة!
وعندنا يشيع التعلم القائم على التلقين وبرمجة العقول، ينهار النظام العقلي والمجتمعي كله في مواجهة المستجدات، والتحديات المستحدثة، وبدلا من انتهاز الفرصة السانحة لبناء نظام جديد يتأجج الحنين، ويتصاعد صوت الأنين بحثا عن منقذ أو مخلص أو برمجة ما تجيب على الأسئلة، وتبدد الحيرة، وتعالج انهيار النظام البائس!!
وتكتشف بعد تأمل أن الإجابات المتداولة تتنافس في البؤس، ومحاولة فرض خيال متواضع هزيل لا فارق بين أن يكون فيه النفوذ للكنيسة/الجماعة/الطائفة، أو أن يكون النفوذ للكنيسة/الدولة، حيث الكهنة يحددون لنا الصواب والخطأ، العدو والصديق، وحيث آليات الانتخاب والتصويت مجرد وريقات توت تستر العورات، وتغطي البنية التحتية العميقة للثورة المضادة بداخل كل إنسان، وفي عموم المجتمع!!
عندما تدور عجلة التغيير لا يمكن إعادتها إلى الخلف مرة أخرى، بينما كثيرون ما يزالون يحلمون بميزات البؤس القديم!
والتغيير طوفان يجرف الوعي القديم ليفسح مكانا للجديد، ومحاولات مواجهة الطوفان بنفس البرمجات القديمة والصيغ القديمة والوعي القديم هو الغالب حتى الآن في أقطار الربيع العربي بصور متنوعة، وهذا لن يصل بنا إلى شيء،
بل يثير الاشمئزاز، ولا يجول بخاطر أغلبنا مدى الموت والدمار الذي يمكن أن يؤدي إليه هذا التردد في لحظة تحتاج إلى الوعي والحسم بين الكفر بما يتحطم وينهار فعلا، ويكفر به بعض الناس تباعا، ولكن ببطء.. لا نملك ترف وقته، وبين الإيمان بقدرتنا على تحمل أعباء الوعي الجديد، والعمل المشترك، والمسئولية الإنسانية!! بين مستقبل يستدعينا، وما ألفينا عليه آباءنا.. من بؤس مشتهى!
واقرأ أيضا:
التربيط/ التحرر من البرمجة