هذا مقال مكمل لمقالي السابق "البنية التحتية للبؤس المستدام" .
ما من مولود، إلا ويولد على الفطرة، ومن الفطرة السليمة ذلك الحافز الداخلي القوي العارم تجاه تعلم الجديد، والتجريب، واستكشاف الذات والعالم.. في سبيل الوعي الروحي، والنضج الإنساني.. بالتواصل، والاحتكاك المباشر، لتكوين الآراء والقناعات والخبرات الشخصية!
لكن هذه القدرة والمنحة الربانية تتشوه تباعا، وتتم مصادرتها لمصلحة سلطة الوالدين، وبترتيب من الأسرة/العائلة، والمدرسة، والمجتمع، وكهنة الأديان، والأحزاب، والجماعات، والدولة، والأجهزة الأيدلوجية للدولة.. كما سماها "لوي بيير ألتوسير" في سبعينات القرن الماضي!
حلقات من القهر والتطويع يمر بها كل منا ليصبح مبرمجا على ما يقوله الآخرون، وليردد وجهات نظر متداولة –تستدعي النقد والتأمل، وربما الدحض-بوصفها حقائق ثابتة.. لا يتطرق إليها شك!
وهي مجرد تقاليد سخيفة، وأشكال فارغة من أي مضمون حقيقي، ومواعظ مملة، أو أفكار ساذجة تتردد في جنبات المسجد، كما الكنيسة، في الفصل الدراسي، والمدرج الجامعي، على شاشات الفضائيات، وصفحات الجرائد، والمجلات!!
وتتم البرمجة عبر يوميات وآليات التلقين، والقولبة، والتهديد، والإغراء بالقبول المجتمعي، وغيرها من أنواع الرشاوى، وقوائم التجريم، ولوائح العقوبات التي تنتظر من يخالف ما هو مقرر لك سلفا، ومن هو متسلط عليك باسم الدين، أو الوطنية، أو الأخلاق.. إلخ!! النتيجة هي إنتاجنا نحن..
كائنات ممسوخة محسوبة على الإنسانية، بينما هي بلا مشاعر حقيقية، ولا خبرات ذاتية، ولا تجارب روحية.. عاجزة عن الفعل، مستسلمة للبؤس –تحسبه قدرها -باحثة عمن يقودها فرادى، أو جماعات كقطعان مبرمجة لأنها مخربة العقل، ميتة الوجدان، قاحلة الخيال، عديمة الجسارة، والمبادرة، رهنت مصيرها في قبضة التقليد، والتقاليد، والعادات، وما عليه الناس!!
وفي نفس ذات الوقت يتصور كل إنسان منا نفسه... مستقلا!! ناضجا!! وحكيما!!
ما لم نتحرر من هذه الطريقة في السعي، والعيش، وتناول أمور الحياة.. فلا أمل في مستقبل، ولا حرية ، ولا كرامة!!
لأن غاية ما تنجزه الجموع المبرمجة حين تثور أن تستبدل سيدا بسيد آخر، ويمكننا أن نرى هكذا الصراع الدائر في مصر بوصفه يجري بين كتل بشرية مبرمجة على ترديد كليشيهات تعبيرية، ونقول، واستشهادات.. تحسبها فكرا، ونظريات، وفلسفة، وتحليلات!!
معارك لا تدرك أطرافها مقدار سوء آداءها، وعراك سيطول ما لم يدرك أي طرف مستوى انحطاط مساره، ويسارع إلى تغيير طريقته، في الترديد، والقولبة، والبرمجة البائسة، بعد أن يدرك المسألة.. من الأصل، لأنك قلما ستجد من يدركها، ويعترف بها، بينما لا يكاد ينجو منها أحد، ولا ينتبه إليها، ولا يخرج من أسرها إلا بعزم، وجهاد شديد!!
الفرصة سانحة، ونحن نرى انهيار أوهامنا جملة وتفصيلا، تتكشف كل العورات، وتسقط الأكاذيب، وتنسحق أصنام مقدساتنا المزيفة، وصورنا الذهنية الخادعة عن أنفسنا، وحقيقة قدراتنا، وما نحن!!
وبدلا من انتهاز الفرصة بمصارحات، ومكاشفات، وحوارات، ومشاركات تعلم، وتواضع، واعترافات حميدة مطلوبة، ما تزال الجموع تبحث لها عن سيد جديد، أو مستعاد.. يقودها، ويحقق لها أحلامها.. لأنها عاجزة عن الوجود المستقل، ونزاهة الأمانة الإنسانية، وأعباء الخلافة عن الله في أرضه!!
أقنعة، وأوهام الشرف، والأخلاق الشكلية تسقط لتظهر حقائق الانهيار القيمي (كما في حادثة مدرب المحلة، لو صحت)، والتدين الشكلي المنقوص ينفضح، والناس تنفض من حول دعاته، وموجات الإلحاد تتدافع لتصفع الكهنة في كل معبد، والكفر المتزايد بكل شيء يمكن أن يكون مقدمة لبناء جديد، ويمكن أن يكون مجرد فرصة للنحيب، والعويل، والولولة، وذرف دموع التماسيح على الأوهام القديمة، والبرمجات القديمة.. التي تدوسها الأقدام.. الآن!!
أحضر ورشة تدريبية عن الوعي بالجسد، وهي قد فتحت لي أبوابا من المعرفة المتعلقة بنفسي، وبتخصصي، والمعرفة الإنسانية.. بشكل عام، الأسس العلمية لما نتعلمه ونمارسه قد تخفى على أغلب المتدربين كونهم يعملون في مجال الآداء المسرحي كهواية، أو احتراف، وفي العام الماضي حضرت ورشة ملهمة أحجم عن حضورها كل من أخبرتهم عنها لأن عنوانها المترجم كان: الرقص مع الأسرة!
ما جرى في ورشة العام الماضي، وما يجري في الورشة الحالية هو التعامل مع الحركة والجسد بوصفهما مساحة للوعي والتعبير والتواصل بين الأجيال (كما في ورشة العام الماضي) بتمارين حركية مشتركة بين الأمهات، وأطفالهن، أو استكشاف الذات، وحركة المفاصل والعضلات، وعلاقتها بالمشاعر، والتغيرات النفسية، والفيزلوجية (كما في الورشة الحالية)!
الكلام يطول حول آفاق واسعة مهجورة ومهملة، وبعضها مستهجن مستنكر.. قررت البرمجة لنا أنها من المحرمات.. دون جهد بحث أو عناء تعلم، أو ممارسة تجريب!
المخاضة التي نمر بها لن تخرجنا منها سلطة، ولا دولة، ولا جماعة، ولا برمجات، ولا أكاذيب قديمة، أو جديدة! بل أنواع الإبداع والاجتهاد العقلي، وأشكال التأمل والوعي الروحي الإنساني، والتقليب في آفاق الكون، والحياة... بنفسك، ودون تفويض!
ألوان الفنون، والآداب، وحركة ناشطة منشطة للأجساد والأفئدة والجموع الخاملة، والمشاعر الخامدة، واستثمار الطاقات الصاعدة للشباب في بناء المعارف الجديدة، والفنون الجديدة، والقيم الحقيقية الجديدة، والثقافة الجديدة!
تجسيد حقائق التوحيد، وتجليات الاستخلاف هي في كل مجالات الحياة.. مطلوبة ومفتقدة!
حرروا أنفسكم من أكفان البرمجة، وعفن الأوهام والأساطير.. حرروا أنفسكم بأنفسكم فهذه مسئوليتكم وشرف إنسانيتكم، حرروا أنفسكم.. فلن يحرركم أحد!
واقرأ أيضا:
البنية التحتية للبؤس المستدام/ الذي انهزم