لم أذكر قيمة "الكرامة" في مجموعة القيم السبعين التي سجلتها هنا منذ أيام للمراجعة، وكنت أنوي أن أكمل بمثال للمجموعة الثانية من الرذائل التي أصبحنا نتعامل بها كأنها فضائل، لكن صفعتـني أنباء ما حدث في المسجد الأقصى أول أمس. أنا آسف، ليست صفعة، إنها بصقة لزجة لها رائحة نتنة ولون داكن، يغمرني خزيٌ قابض، أمد يدي لأمسحها فتتلطخ وتزيد مساحتها، وتفوح رائحتها أكثر، أنا آسف إن كنت قد جرحت شعور القارئ الرقيق، الأكثر إيلامًا أن هذا لم يكن خيالا صرفًا.
يبدو أنني لم أعد أعرف كيف أميز بين الخيال والواقع، الكرامة الإنسانية ليس لها وصف، إلا أنها من عند الله "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَني آدَم.."، الأنباء التي جعلتني أشعر أنني لا أحمل أمانة هذا التكريم، هي عن ما حدث أول أمس في المسجد الأقصى، والتي تنتهي كالتالي: ".....الذي حدث في الأمس هو أن سلطات الاحتلال صعدت التقسيم الزماني بحيث أنه في أيام الأعياد الصهيونية يمنع على المسلمين دخول الأقصى، لأنه مخصص للصهاينة في هذه الأيام"!
حضرتني المشاعر التي عشتها وأنا أكتب قصة سياسية قصيرة، أعزي فيها تنازلنا عن الكرامة، فاقتطفت منها ما يلي، وغيرتُ نهايتها:
-1-
قالت البنت لأخيها: صاحبتي...!! قال أخوها: منْ؟ قالت: أنت تعرفها، تلك التي دعتك معي لعقد قرانها، قال: مالها؟ قالت: جُنَّت. قال: يا خبر أسود، كانت أجمل وأرق صاحباتك! ماذا تقولين؟ قالت: الذي حدث، قال: تمزحين، تكلمي جدًا، ماذا حدث؟ قالت: بعد عقد القران، لم تعد تتصل بي، ثم أخذت تتجنبني، وسمعت أنها تهيم حبًا به طول الوقت، فدعوت لها، وانسحبت،
ثم أمس: جاءتني بغير موعد، وقالت لي أنها لم تعد تعرف كيف تستمر في الحياة بعد ما لحقها منه من إهانات، وحين استفسرتُ منها حكت لي كيف أنه راح يتمادى في الإهانة كلما تمادت في الهيام والتعلق به، وحين أنذرَتـه أنها سوف ترد الإهانة بالإهانة، هجرها باستعلاء، وقلبها غمَّا وتمادى، فرُعِبت واعتذرت، فزاد وتغطرس، فغضبت عند أهلها، فركب رأسه ولجأ إلى القانون حتى حصل على حكم المحكمة بالطاعة،
وحين تسلمت الحكم، تظاهرت لنفسها بالغضب، لأنها في أعماقها فرحتْ ورحبتْ، وعليه ذهبت إلى قسم البوليس، وهي تتمنى لقاءه "بأمر الحكومة" قال أخوها: يا خبر أسود، وهل يمكن أن تحكم المحكمة بمثل ذلك؟ وأية فرحة هذه بحكم كهذا؟ قالت: فرحة بلقاء الحبيب، أي والله، هذه هي المصيبة. قال: كله إلا هذا، قالت انتظر: البقية ألعن، قال: وهل يوجد ما هو ألعن، قالت: اتصل به البوليس فامتنع عن استلامها، وبعد انصرافها ذليلة مكسورة، حضر جنابه للقسم وأتم إجراءات طلاقها! قال: تستاهل، مع أنني أكاد لا أصدق، قالت: وأنا كذلك....
-2-
(التحديث: يغير النهاية)
قال الشاب لأخته: "هل قرأتِ المكتوب في الصحف اليوم؟" قالت: "أنا لا أقرأ الصحف"، قال: "هل تذكرين كيف لم نصدق أنا وأنت ما لحق بكرامة صاحبتك؟" قالت: "طبعا، ولكن ما علاقة هذا بذاك"، قال: "الأخبار التي أشير عليك بقراءتها تفسر موقف صاحبتك، وهو نفس موقف من يحب "ثقافة السلام" جدا جدا مع هؤلاء"، قالت: "يا ذي المصيبة، هل نشرت الصحف حكاية صاحبتي؟" لابد أنك أنتَ الذي أبلغتهم!!
قال: حين قرأت هذه الأخبار شعرت بالإهانة بنفس الدرجة، قالت: ولكنها لم تشعر بالإهانة، أنا وأنت الذين شعرنا بالإهانة نيابة عنها، قال: "وهذا ما حدث لي اليوم، شعرت أن غيرنا حتى من الأجانب، ربما شعروا بالإهانة نيابة عنا"، ....تبينت أن هذا هو الخط العام الذي نعيشه، هي لم تفعل إلا ما نفعله نحن المسلمين، بل وكل إنسان يسكت على بصقة مثل هذه البصقة، قالت البنت: "ماذا تريد منا أن نفعل؟"
قال: كيف لم تصل البصقة إلى مدافع ومفرقعات "أنصار بيت المقدس" فتغير توجهها إلى ما يشير إليه اسمها؟ قالت: "الله ينكد عليك، ماذا تريد مني أن أفعل الآن؟" قال: "لا ننام حتى نسترد كرامتنا كبشر، وليس فقط كرامة المسلمين أو كرامة بيت المسجد الأقصى" قالت: "أنا لا أنام أصلا بدون أن أبحث عن سبب أسوّد به عيشتي أكثر ما هي سوداء" قال: "أين قنبلة باكستان الذرية وأين الحرس الثوري الإيراني"، و"أين الجهاديين في كل مكان"، قالت: "امسح ما على وجهك أولا"...
قال: "هل تعرفين آخر الآية بعد التالية للآية التي استشهدت بها؟" قالت أية آية؟ قال: قوله تعالى "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَني آدَم..."، قالت: "لا أذكر"، قال: آخر الآية بعد التالية تقول "وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَة أَعْمَى وَأَضَلّ سَبِيلاً"، قالت: "ومتى نفتـّح"، قال: "حين ترجع للكلمات معناها، حين ننتصر لبيت المقدس، وكل بيوت الله بما كرمنا الله به، حين لا يقتل بعضنا بعضا تحت نفس الاسم".
قالت: "كفى بالله عليك، أشعر بلزوجة تغمر وجهي"
قال: "يبدو أنها معدية"
قالت: "الله يسامحك، كفى بالله عليك، هيا نعمل"
قال: "آآآآآآآآآآآآه!!!!"
نقلا عن جريدة اليوم السابع
الجمعة 18-4-2014
اقرأ أيضاً:
من منظومة القيم الجديدة: فضيلة الدهشة / عزاء جارثيا ماركيز في مسجد عمر مكرم